كيف يتحقق الإخلاص؟
كيف يتحقق الإخلاص؟ محمد مهدي بن نذير قشلان إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً... وأشهد أن لا إله إلا الله: إذا جَمَعَ اللهُ الأولين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، والناس في انتظار لحصائدِ أعمالهم، يُؤْمَرُ بِأُنَاسٍ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا، وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا.. نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، قال المصطفى: فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ مَا رَجَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِ، مَا أَعْدَدْتَهُ لِأَوْلِيَائِكَ كان أهون علينا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ -يَعْنِي مُتَوَاضِعِينَ- تُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِكُمْ، خِلَافَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، هِبْتُم النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي، وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ عِقَابِي، مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِي [1] "إلهي: إن لم أَكُنْ أَخلصتُ في طاعتِك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإنني أطمَعُ في رَحْمَتِك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يا مَن يَحارُ الفَهمُ في قدرتك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتطلبُ النَفسُ حمى طاعتك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تُخفي عن الناس سنا طَلعتِك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكل ما في الكونِ من صَنْعَتِك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأشهد أن محمدًا رسول الله: هو خيرُ أستاذٍ عرفَهُ العالم، وخيرُ معلم كتب عنه التاريخ، جاء إليه الصحابيّ الجليل معاذ بن جبل ذات يوم حينما أراد النبي أن يبعثه إلى اليمن داعيًا فقال يا رسول الله: أوصني، فقال يا معاذ: " أَخلصْ دِينكَ يَكْفِكَ القليلُ مِنَ العملِ [2]". سيدي أبا القاسم يا حبيب الله...يا معلم الناس الخير، لمَّا ذكرتك أشرقتْ روحي، وفـاضت بالسعادةِ نفسي.. ماذا أوفيك من حقٍّ وتكرمةٍ *** وأنتَ تعلو على ظنيِّ وتقديري أما بعد فيا أحباب رسول الله: إنَّ لكلِّ شيءٍ آفةٌ، وإن آفة العمل الصالح الرياء فربما يقومُ العبد بين يدي ربّهِ يُصلي فيُطيلُ الصلاةَ لما يرى من أنظار الناسِ إليه ومدحِهِم لعمله، ويذهبُ ليتصدقَ فيكثرُ العطاء حرصًا على إذاعةِ ذكرهِ في العالمين، وأشدُّ ما يؤلمُ ويخيفُ ويحزنُ ويقلقُ قصةٌ كثيرًا ما سمعتموها[3]، وكلَّما قرأتها كاد عقلي أن يطيشَ، يُذكرُ أن رجلًا صلى في الصفِّ الأولِ عشرينَ سنةً ما فاتته تكبيرةُ الإحرام خلف الإمام، وبعد عشرين سنةٍ تخلَّفَ يومًا فصلى في الصفوف المتأخرة، فاعترته خجلةٌ من الناس...-تُرى كيف أنظار الناس إليَّ وما عهدوني إلا خلف الإمام...-، فلما سلَّم من صلاته أخذ يبكي حتى أُغشي عليه..، فلما أفاق قيل له ما بك- والله ما علمنا عنك إلا خيراً- فقال: لقد علمت في هذه الساعة أني صليت عشرينَ سنةً وكنت في الصف الأولِ لا لأجل مرضاة لله وفضله إنما من أجل الناس..- اللهم سلم.. اللهم سلم- نعم حين يكتشف الإنسان أنَّ عشرينَ سنةً ذهبت هباءً منثورًا، فما الذي يعتصر قلبَهُ ويتسلَّطُ على مشاعِرِه..، إنهُ شعورٌ يسميه العلماء (بالحسرة) رجلٌ عاش سنوات يظنُّ أنه يعيش لله ثم يكتشف أنه ما كان لله؛ وإنما كان لذات نفسه ولحظوة نفسه.. وللناس.... معاشر السادة: أعيشُ اليومَ مع حضراتكم مع ركنٍ ركينٍ وحصنٍ حصينٍ في ديننَا ألا وهو الإخلاص للهِ في الأعمال والأقوال، إنَّ هذه القضية مما ينبغي أن نتوقف معها طويلًا جدًا، فكم من الناس لا يُحسن إلا أمام الناس، كم من الناس لا يجتنبون المنكر إلا أمام الناس، كم من الناس يظهرون للناس الصلاح وإذا خلو فعلوا المنكراتِ صغيرِها وكبيرِها، وقد أخبر عن هذا الصادق المصدوق بقوله: " إِذَا كَانَ آخَرُ الزَّمَانِ صَارَتْ أُمَّتِي ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ خَالِصًا، وَفِرْقَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ رِيَاءً، وَفِرْقَةٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ يَسْتَأْكِلُونَ بِهِ النَّاسَ، فَإِذَا جَمَعَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قال لملائكته: اذهبوا بالمخلصين إلى الجنَّة، ويقول للآخرين: امضوا بهم إلى النَّار[4]" نعم.." إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لَهُ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ[5]" ولذا قال أحد الصالحين: أخذ علينا العهد العام من رسول الله أن نُخْلِصَ النيةَ للهِ تعالىٰ في علمِنَا و عَمَلِنَا وسائِر أحوالنا[6]. معاشر الأحبة الكرام: فما هو الإخلاص وما تعريفه؟ لقد شخَّصْتُ مع حضراتكم الداء فما هو الدواء، ما هو الإخلاص: قالوا ( الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن[7]) وللإخلاص علاماتٌ ودلائل كما ذكر أطباء القلوب منها: أولاً- استواء المدح والذم من الناس عند المخلص[8]، فهو يعمل لله لا ينتظرُ مَدحَ أحد ولا ثناء أحد، ها هو رجلٌ يأتي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويقول يا حبيب الله، إني أَتَصَدَّقُ بِالصَّدَقَةِ وَأَلْتَمِسُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لِي خَيْرٌ، وقبل أن يُجيبَ المصطفى نَزَلَ جبريل بقوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾[9]. ثانيًا: من علامات الإخلاص في العمل أن يكتُم العبدُ حسناته على النَّاس كما يكتم سيئاتِهِ[10]، وهذا عنصر هامٌّ في الإخلاص، فكم من الناس على جهلٍ أو ربما دون قصد إذا جلس أحدهم في مجلس أخذ يذكر لمن حوله عن العبادات التي يقوم بها كل يوم؛ من قراءة قرآن، وصلاةٍ.. وذكر..، إلى غير ذلك، وكثيرًا ما سمعنا هذا في رمضان -وما هو عنا ببعيد- فبعضهم إذا جلس أخذ يتحدث إلى من حوله الناس عن عدد المرات التي ختم بها القرآن، وأخذ يتحدث عن قيامه بالليل.. إلى غير ذلك مما تسمعون..، وهذا خطأ فادح يُفسد العمل فالمخلص في عبادته لله لا يظهرها لأحد؛ واستثني الشيخ أو الداعية من ذلك إذا أراد بإظهار عمله تحفيز غيره، ورفع همته، أو تعليمَه... وهذا شيءٌ آخر تمامًا.. معاشر الأحبة: واسمحوا لي أن أنقل لحضراتكم أعجبَ ما قرأتُ في إخلاص العبادة لله تعالى، فقد نقلَ الإمامُ الحافظُ ابن عساكر في كتابه[11] عن أبي حمزة الثمالي - رحمه الله تعالى - قال: -وهو يتحدث عن إخلاص أحد أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبادة من العبادات في التصدق على الفقراء والمساكين- قال: كان عليٌّ بنُ الحسين- زين العابدين- رضي الله عنه، يحملُ الخبز في سواد الليل على ظهره ويتلثَّم ويدور في سكك المدينة بحثًا عن الفقراء والمساكين، ويتصدَّق بما حَمَلَ على ظهره، ويقول: " إنَّ الصدقةُ في سوادِ الليلِ تُطفئ غضب الرَّب"، قال محمد بن إسحاق: فكان الناس من أهل المدينة يعيشونَ لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات عليٌّ بن الحسين فَقَدُوا ذلك الذي كانوا يُؤتون بالليل، ولما مات -رضي الله عنه- وجدوا أنه كان يعولُ مئةَ أهل بيت، ولا يعلمُ بذلك أحدٌ إلا الله- إخلاص عجيب..، -إنه لم يكتم على الصدقة معونات من المحسن فلان...لا، إنهم لا يعرفون هذه التُّرهات..، ولا أنسى ما نقلَهُ الحافظ ابن كثير[12] عن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -الصحابي الجليل- قال: "خرج عمرُ بن الخطاب في سواد الليل متخفيًا ذات يوم، فتتبعتهُ أي -من بعيدٍ حتى لا يراني- فدخل بيتًا، وجلس به وقتًا ثم خرج، ودخل بيتًا آخر، -وهو لا يراني-، فتركته على ذلك، قال طلحة: فلما أصْبَحَ الصباح شُغل قلبي بما رأيت من أمير المؤمنين بالليل، فذهبت إلى ذلك البيت؛ فَإِذَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ فَقُلْتُ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُدَّةَ كَذَا وَكَذَا؛ يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى. قَالَ طَلْحَةُ: فَقُلْتُ لِنَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أَعَثَرَات عُمَرَ تَتَّبِعُ؟" إخلاص عجيب في قضاء حوائج الناس..! معاشر الأحبة: هذا هو الإخلاص قدَّمته لحضراتكم، هذا هو الدواء قدَّمته لكم، فما هو الداء؟، ما هو الرياء؟ ما هي علاماته ؟! سؤال أعيش معه وأجيب عنه في لقائنا القابل بمشيئة الله....، لا أريد أن أُطيل عليكم فقليل قرّ، خير من كثير فرّ...أختم خطبتي بوصية غالية...بوصية رسول الله لسيدنا معاذ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-يا معاذ: " أَخلصْ دِينكَ يَكْفِكَ القليلُ مِنَ العملِ " أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..[13]. [1] البيهقي في شعب الإيمان 9/ 138 برقم: (6390) والطبراني في المعجم الكبير 17/ 85 برقم: (199) باختصار. [2] أبو نعيم في الحلية 1/ 244، وقال الحافظ السيوطي: رواه ابنُ أبي الدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاص، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/ 341 برقم:( 7844) بلفظ: «أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ» وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ولم يوافقه الذهبي.. [3] الرسالة القشيرية 1/ 218 بتصرف. [4] الطبراني في المعجم الأوسط برقم:( 5105 ) باختصار. [5] النسائي في المجتبى من السنن برقم: (3140) وجَوَّدَ إسناده الحافظُ في "الفتح". [6] "لواقح الأنوار القدسية في العهود المحمدية" (ص: 4) المؤلف: أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد "الشعراني" الحنفي المصري المتوفى سنة 973 هـ". [7] من قول حُذيفة المَرْعشيِّ رحمه الله كما ذكر الإمام النووي في "الأذكار ص:46". [8] من قول ذي النون المصري -رحمه الله- كما ذكر الإمام النووي في "الأذكار ص:47". [9] أخرجه الإمام هناد بن السري في الزهد عن مجاهد، كما ذكر الحافظ العراقي في تخريج أحاديث "إحياء علوم الدين" 6/ 2412. [10] من قول "يعقوب المكفوف" كما في إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد الغزالي الطوسي-رحمه الله- (المتوفى: 505هـ) 4/ 378. [11] تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر 41/ 383 وما بعدها. [12] البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 10/ 185. [13] ألقيت هذه الخطبة في أماكن متعددة منها: في مسجد أبي أيوب الأنصاري بدمشق وذلك في 23/ 12/ 2006م وكان شيخنا الوالد نذير قشلان حاضراً-رحمه الله-، ثم ألقيت في مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب بدمشق وذلك في 20/ 10/ 2007م، ثم ألقيت في مسجد النشابية الكبير بغوطة دمشق وذلك في 1/ 10/ 2009م، ثم ألقيت في مسجد السيدة صفية أم المؤمنين في عمَّان الأردن عام 1435هـ2014م، ثم ألقيت في مسجد بلال بن رباح في عمَّان الأردن 30/ 1/ 2015م الموافق لـ 9/ ربيع الآخر/ 1436هـ، ثم ألقيت في مسجد عباد الرحمن في عمَّان 24/ 7/ 2015م، ثم ألقيت في مسجد الجيزة القديم في عمَّان الأردن 13/ 11/ 2015م الموافق لـ 1/ صفر 2/ 1437هـ. |
الساعة الآن : 09:15 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour