ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   الصدق روح الحياة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=250140)

ابوالوليد المسلم 08-01-2021 04:01 PM

الصدق روح الحياة
 
الصدق روح الحياة


الشيخ د. : علي بن عمر با دحدح







عناصر الخطبة

1/ الصدق درة الأخلاق 2/ الصدق يشمل الحياة كلها 3/ مدخل الصدق ومخرج الصدق وقدم الصدق 4/ أمثلة لكل منها 5/ في هذه الدنيا صادقون وكاذبون فقط 6/ النجاة في الصدق 7/ مخرج الكذب في السياسية حاليًا


اقتباس

درة الأخلاق وجوهرة التعامل، بل وروح الحياة وأساس هذه الحياة الدنيا الممهد والمرتبط بالحياة الآخرة، الحق الثابت المتصل بالله والموصل إلى الله من الأقوال والأعمال هو الصدق الذي هو جوهر الحق المميز عن الباطل، وهو الإيمان المخلص من النفاق وهو الطمأنينة المباينة للاضطراب، الصدق ليس هو الذي قد يتبادر إلى الأذهان في المعنى المحدود فيما يتصل بقول مطابق للواقع…









الخطبة الأولى:


معاشر المؤمنين: وصية الله لكم في كل آنٍ وحين تقواه إلى قيام يوم الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

معاشر المسلمين: درة الأخلاق وجوهرة التعامل، بل وروح الحياة وأساس هذه الحياة الدنيا الممهد والمرتبط بالحياة الآخرة، الحق الثابت المتصل بالله والموصل إلى الله من الأقوال والأعمال هو الصدق الذي هو جوهر الحق المميز عن الباطل، وهو الإيمان المخلص من النفاق وهو الطمأنينة المباينة للاضطراب، الصدق ليس هو الذي قد يتبادر إلى الأذهان في المعنى المحدود فيما يتصل بقول مطابق للواقع، بل كما قال الحق -جل وعلا- في دعاء ضارع موجه بصلة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً) [الإسراء: 80].

هنا يتسع المعنى، هنا يأخذ الصدق أبعاداً تشمل الحياة كلها، وتلم بكل جوانب التعاملات الإنسانية وجوانب التأملات والآمال الأخروية: (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، ليس قولاً فحسب وليس عملاً فقط وليس حالاً وحده، بل حالة كاملة يصبح فيها الإنسان داخلاً وخارجاً بتلبس بهذا الصدق الكامل.

قال ابن القيم -رحمه الله- بعد أن قال في الصدق تلك المقولة بأنه الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله؛ قال: "دخوله وخروجه يكون حقاً ثابتاً وفي مرضاة الله -سبحانه وتعالى- بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد الكذب الذي لا غاية يوصل إليها، ولا ساق ثابتة يقوم عليها"، وإن أردت أن تتصور المعنى فخذ ما ذكره ابن القيم وغيره من الأمثلة:

(أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) قال بعضهم: كيوم بدر دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه مدخل صدق وخرجوا مخرج صدق أيضاً، فكان خروجهم لله ولرفع راية الله وللذب عن دين الله، وخرجوا وقد أخلصوا لله ونصرهم الله، وأُيدوا بملائكة الله، فكان مشهداً متكاملاً من بدء النية التي لا يعلم بها إلا الله، ومروراً بالكلمة الصادقة التي تقال بالحق لا يخشى فيها إلا الله، وانتهاءً بالعمل الجاد الذي يبلغ إلى أن تزهق الأرواح في سبيل الله، ذلك مدخل صدق، ومخرج صدق كان في أن جعلوا وجعل الله لهم الغنائم حكمها ومردها إلى الله، لا تتعلق بها القلوب، ولم يخرجوا من ذلك إلى كبرياء وغطرسة، بل كان فيه وكان فيهم إقرار بفضل الله وحمد وشكر على ما تنزل به نصر الله، تلك صورة.

وقالوا كذلك أمثلة أخرى: مخرج صدق يوم خرج سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة مهاجراً، كانت نيته، كانت مسيرته، كانت غايته، كانت أعماله من بعد كلها حقًّا ثابتًا متصلاً بالله وموصلاً إلى الله وقائمًا على أمر الله ومبتغيًا لمرضاة الله، وكذلك كل أمر في هذا الشأن.

ولو أردت المقابل لوجدت ما يكشف لك عن مدخل الكذب ومخرج الكذب يوم قال أبو جهل في يوم بدر: لا نرجع حتى ننحر الإبل ونشرب الخمر وتعزف القيان وتعلم العرب بمكاننا هذا، كان هذا هو عين الكبرياء والغطرسة، عين المحاربة لدين الله، الخروج للصد عن سبيل الله ولقتال أولياء الله ولإنفاق المال على الصد عن سبيل الله، كل ذلك صورة كانت ظاهرة فانتهت إلى مخرج من الكذب الذي كانت فيه الهزيمة وقتل الصناديد وانكسار الشوكة وما آل إليه الأمر في بدر، وما جاء كذلك في أحداث أخرى كثيرة.

وخروج الأحزاب؛ كيف كان خروج كذب وتآمر على الحق، وتضافر على من استضعفوهم، ورغبة في إزالة العدالة والنزاهة والأخلاق الفاضلة والصلة بالله -عز وجل- التي تمثلت في دين الإسلام، وكيف كان يهود بني قريظة عندما نقضوا العهد دخلوا في هذا المدخل الكذب، وكيف انتهى الأمر بهم إلى مخرج كذب فأُطفِئت نيرانهم، وأُكفئت قدورهم، وقُلعت خيامهم، وتفرقت جيوشهم، وذهبت كلمتهم، وصارت تلك الجولة من بعد جولة عليهم لا لهم، والأمثلة قد يطول بها المقام كثيراً، ولسنا معنيين بأمثلة في التاريخ، بل سيكون الأمر الأكثر أهمية أن نربط ذلك بواقعنا.

(وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)، قال بعض أهل التفسير: "أدخلني في طاعتك وأخرجني من المناهي، وحيث أدخلتني بالصدق وأخرجتني من الكذب فذلك هو الصدق الحقيقي الكامل، ووصف الإدخال والإخراج بالصدق لما يؤول إليه الدخول والخروج من النصر والعز، وما يتعلق به من أضداده".

ولذا ليس الأمر مقتصراً على ذلك، بل الأمر في حياة المسلم في القرآن الذي نقرؤه يشتمل على أمور أخرى كذلك: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) [يونس: 2]، ستقدم على ربك، ما هي البشارة؟! (قَدَمَ صِدْقٍ): تقول العرب عن كل أمر سبق وقُدِّم: إنه قدمٌ، سواء كان في الخير أم الشر، فلفلان قدم في الإسلام؛ أي: أمر سابق فيه، والتقدم المقصود به هنا في الخير والصلاح، الذين آمنوا نيتهم لله خالصة، أعمالهم على شرعه قائمة، غاياتهم موصولة بطاعته ومرضاته، فحينئذ تكون لهم البشارة بأنهم قد قدموا ما سيكون لهم عند الله -سبحانه وتعالى-، (قَدَمَ صِدْقٍ) قال أهل التفسير: "الأعمال الصالحة التي قدموها"، ورجّح ابن جرير -رحمه الله- بتفسيره ما ذهب إليه مجاهد من أن المراد هو الأعمال الصالحة التي قدموها، كما قال الشاعر:

لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لأوليائك طاعة في الله تابع

وكما هو معروف في قدم الصدق أنه عمل تقدمه بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، فإذاً كل حياتك يمكن أن تترجم في هذه الكلمة بأنها قدم صدق، أنت تتبع اليوم أو تقدم عربوناً ترجوه بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، فإن كان تقديمك صدقاً فستكون تلك البشارة التي بشرت بها، واستمع إلى وصف الأنبياء ودعاء الأنبياء في أمر متصل بهذا وهو أمر الصدق كذلك، ليس في الآخرة بل فيما هو مرتبط بالدنيا والآخرة معاً: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) [مريم: 50]، وفي دعاء إبراهيم -عليه السلام-: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]، ما لسان الصدق هذا؟! إنه الثناء الحسن والذكر الجميل الذي صنعته بفعلك وقولك وحالك مع الناس وفي هذه الحياة الدنيا، إنه ثناء حسن وذكر جميل يترتب عليه أن يبقى أثرك في الناس بهذا وتكون قدوة لهم، كما قال الحق -جل وعلا- عن الخليل إبراهيم في وصفه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ) [النحل: 120]، (أُمَّةً) قالوا: إماماً يُقتدى به في الخير، كم مضى من الناس من رسل الله وأنبيائه ومن العلماء والأولياء والصالحين والقادة، من كان على هذا القدم في الصدق ما زال لسان الصدق يذكره اليوم، كلما ذكرنا رسولنا الأعظم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، أطلقنا لسان الثناء على كل أحواله ورأينا كيف تأثير ذلك في كونه قدوة لنا في سائر الأعمال والأحوال والأقوال والظروف: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب: 21]، أب، زوج، صديق، محارب أو مسالم، حالٌّ أو مسافر، في كل الأحوال، لسان الصدق يذكر ثناءً جميلاً عطراً، ولسان القدوة يجسد صورة حية متحركة، وذلك أيضاً في غير الرسل والأنبياء سنرى الصورتين متقابلتين، كم من قادة أو سادة مضوا، فمن قدموا الخير لسان الذكر هو لسان صدق يثني عليهم ويقتدي بهم، وآخرون فرعون سيدهم وأولهم، وطغاة وظلمة وفسقة ما يزال لسان الذم يُذكر بهم، وما تزال آثار قدوتهم السيئة ممتدة بآثارها الوخيمة وأضرارها العظيمة في حياة الناس، فلا يغرنّك أن يكون للمرء قوة أو صولة أو جولة أو إعلام أو بهرج، فإن كان على باطل فهو مدخل كذب ومخرج كذب وسيؤول إلى لسان كذب تذمه وتجعله في التاريخ صفحات سوداء ملعونة على كل لسان إلى قيام الساعة والعياذ بالله، فالأمر مرتبط بهذا الصدق على هذا المعنى المرتبط بالحق الموصول بالله والموصل إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فلسان الصدق هذا عظيم.

وانتبه إلى المآل الأخير المذكور في كتاب الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر: 54، 55]، قال الطبري: "في مقعد صدق: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم"، فإذا دخلت مدخل الصدق وخرجت مخرج الصدق وحرصت على أن يكون لك قدم صدق سيكون لك في الناس لسان صدق وسيكون لك عند ربك مقعد صدق بإذن الله، فالصدق جوهر الحياة وروح التعامل، وهو خلاصة كل سلوكياتك، بل أقوالك، بل حتى نياتك في هذه الحياة مرتبطة بالصدق، هو روح وأساس الإيمان الذي عكسه كذب ونفاق، ولذلك نجد الآيات تدعونا إلى الارتباط الوثيق بالصدق في أعلى المقامات وبأجل الأمور التي تأخذ الرتبة العليا في ديننا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

في هذه الحياة فريقان: صادقون وكاذبون، ليس بالأقوال كما قلت فحسب بل بصورة شاملة، فمن اتقى الله لن تكون تقواه ولن يحافظ عليها ولن تؤتي ثمارها إلا أن يكون مع الصادقين، ومع حزب الصادقين، ومع الآخذين بالصدق في مدخلهم ومخرجهم، وأن يكون في ضمن هذه البوتقة التي تكون لها مدخل الصدق ومخرج الصدق ومقعد الصدق ولسان الصدق وما يتصل بهذه المعاني التي أشرنا إليها.

الله -جل وعلا- امتدح نفسه ووصف نفسه بهذه الخلة العظيمة فقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً) [النساء: 87]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122]، ورأينا كيف جاء ذلك أيضاً على لسان الرسل والأنبياء في أوصاف الله لهم أو في دعائهم لربهم، ونرى أن هذا الصدق هو الكاشف المميز بين إيمان ونفاق، كما قال -جل وعلا-: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [الأحزاب: 24]، فإما صادقون وإما منافقون، إما إيمان فيه إخلاص لله وتعلق به وابتغاءٌ لمرضاته وصدق في التعامل معه وقوة في التوكل عليه وصدق كذلك في الإنابة إليه، وإما منهج آخر مغاير ليس مرتبطاً بالحق، بل يمضي مع الباطل لا يلوي على شيء، ليس موصولاً بالله بل هو منقطع ومعتمد على قوى الأرض وعلى أسباب الحياة، ليس متعلقاً بالغاية الأخرى التي توصله إلى مرضاة الله، بل قد ذهب يمنة ويسرة يبتغي مصلحته أو يرضي غيره من بني البشر الذين لهم قوة أو سلطة أو يريد منهم مصلحة أو ثروة.

ذلك منهج مغاير تماماً؛ فريقان مختلفان وفريقان متباينان متعارضان، والإسلام أراد لنا أن نكون أمة الصدق وأن يكون المسلم هو المسلم الصادق في كل شيء قولاً وعملاً وحالاً، وهذا هو الصدق الذي يبين لنا الله -جل وعلا- أثره في واقع الحياة، إن نويت صدقاً وعزمت صدقاً فثق بوعد الله بأن النتيجة ستكون خيراً وإن تأخرت، وإن كان في بعض ظواهرها ما قد يُرى أنه على غير ذلك، كما قال الحق -جل وعلا-: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) [محمد: 21]، هذا وعد الله.

اجعل منطلقك ومخرجك ونيتك وعملك بالصدق وللصدق، فالخير أمامك وسيكون كل عسير بإذن الله يسيراً، وسيكون كل مغلق بإذن الله -جل وعلا- مشرعاً منفتحاً، إنها قضية الإيمان الموصول بالحق الثابت الموصل إلى الله -سبحانه وتعالى-، العاقبة الأخروية أيضاً مرتبطة بذلك: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء) [النساء: 69]، بعد رتبة الأنبياء رتبة الصديقين المصدقين بوعد الله الصادقين في تعاملهم مع الله، الصادقين في أن يجعلوا صبغة حياتهم موصولة بالحق الثابت المرتبط بالله، تلك وجهة كاملة في الحياة ليست مقتصرة على جانب منها.

أتريد النجاة؟! (هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة: 119]، يوم القيامة ينفعك الصدق بإخلاصك بالموقف الحق الذي وقفته وإن تسبب ذلك في ضرر عليك في مالك أو حتى في روحك، فإن هذا الصدق الذي رفعت به رأسك، وأعليت به قولك، وثبّتّ به دينك، ونصرت به أمتك، هو الذي سيكون نافعاً لك يوم القيامة، أما موقف الخذلان وموقف الكذب وموقف الركون إلى الدنيا فسيكون خزياً وعاراً عليك في الدنيا، وسيكون -والعياذ بالله- سبباً من أسباب العقوبة في الآخرة.

أتريد كذلك ما هو أكثر في كل تعاملاتك الدنيوية؟! ستجد أن الصدق محفوف بمعية الله وبمحبة الله: إن الله يحب الصادقين، إن الله مع الصادقين، فمن ذا الذي لا يريد ولا يلتفت ولا يعتني بأن ينال محبة الله وأن يحظى بمعية الله، وفي كل جوانب الحياة ستجد الأثر الحميد، أتريد سكينة وطمأنينة وراحة بال؟! هذا هو حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح عند الإمام أحمد في مسنده وعند الترمذي في سننه قال -عليه الصلاة والسلام-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة"، وهذا الحديث من جوامع كلم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهو معدود في أربعة أحاديث ذكر أهل الإسلام أنها تجمع كل معاني الإسلام، كل أمر تستريب منه بحس إيماني بقلب مملوء بالصلة بالله ومراقبة الله، دعه، اتركه، وإن كان فيه ربما مصلحة دنيوية أو ربما فيه نجاة ظاهرية، فإن ما سيكون سبباً في طمأنينة قلبك هو الصدق، هو أن تقول الحق، هو أن تمضي في ركب الحق ولو كلفك ذلك ما كلفك، تلك وجهة وتأمُّل، كذلك البركة والأثر المحمود كما ورد في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البيّعين في تعامل البيع والشراء في أمر عادي في أمور الحياة؛ قال: "إن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"، كل حياتنا مرتبطة بهذا الصدق، الحق الثابت المتصل بالله الموصل إلى الله على مرضاة الله.

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الصادقين، وأن يدخلنا مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق، ويجعل لنا في الناس لسان صدق، ويجعل عاقبتنا في الآخرة إلى مقعد صدق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


الخطبة الثانية:


معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-؛ فهي أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن حقيقة الصدق قرينة التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ).

وقفات قصيرة تستدعي ما هو أكثر، لكن الواقع يكفينا فيه هذه اللفتات، كونوا معي مع الإعلام في مدخل صدق ومخرج صدق أو مدخل كذب ومخرج كذب، انظروا إليه فإذا هو في كثير من ممارساته وأقواله وسياساته وبهرجه وإخراجه مدخل لا يمت إلى الصدق بصلة، ليس موصولاً بالحق بل هو مروّج للباطل وملبس على الحق، ليس موصولاً بأهل الصدق بل هو مؤلب عليهم ومجرّم لهم، وسترى مداخل كذب في هذا الإعلام ينبئنا حينئذ عن النتائج التي تخرج مخرج كذب فتضل الناس، فإذا بالآراء مضطربة وإذا بالشبهات متمكنة، وإذا بالشهوات مستحكمة، وإذا بالإعلام يمارس دوراً كأنما الحق في طريق وهذا في طريق آخر، فالذي لا يعتصم بالصدق سيدخله هذا الإعلام إلى مدخل كذب ويخرجه مخرج كذب، إلا أن نعتصم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونكون مع الحق ومع أهل الحق وإن قلّوا وإن ضعفوا.

أما إذا ذهبتُ معكم إلى السياسة فسنرى أن مدخل الكذب فيها كأنما لم تعد فيه مساحة لمدخل صدق ولا مخرج صدق، بدءاً من المؤسسات الدولية الكبرى التي كان أساس تأسيسها منبتاً عن الحق، بل كان مكرساً وقائماً على تسلط الأقوياء على الضعفاء، وعلى أن تكون شريعة الغاب في الحقيقة هي الحاكمة، وما نراه في واقع الحياة اليوم، ماذا نرى في مصر أو في سوريا أو في فلسطين عبر كل تلك العقود المتطاولة؟! أين السياسة في مدخل صدق حقيقي؟! كله زيف وكذب، وكله تآمر وخداع، وكله إجرام في غاية المنتهى من الإجرام الذي نرى آثاره في الدماء والأرواح المزهقة، في المكاييل المزدوجة، ونراه في المواقف التي تنسلخ من كل الشعارات المدّعاة في ديمقراطية أو حقوق إنسان أو حفاظ على السلم والأمن، فأين هذا العالم كله وسياسته من مدخل صدق ومخرج صدق، انظروا إلى سياسات كل دولة، فستستطيعون ببساطة بل ببداهة أن تعرفوا هل هي مدخل صدق ومخرج صدق، إن كانت مع الحق وإن كانت مع الباطل، إن كانت تؤيد الحق وتنفق عليه فهي في الصدق، أو كانت على الجانب الآخر فهي في الكذب، إن كانت تؤيد ولو بالقول وتروج ولو بالقول للصدق بقدر طاقتها فهي مع الصدق، وإن كانت تستخدم قوتها الإعلامية في الكذب فهي في مخرج كذب… وهكذا.

بل أنتقل بكم حتى إلى الصورة الحقيقية الملامسة لواقع الأمور في كثير من تلك الساحات، الأمن وما أدراك ما الأمن؟! أين مدخل صدقه ومخرج صدقه؟! يوم تخرج دبابة من ثكنتها لتقتل أبناءها وإخوانها بلا جرم ولا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قدرة، تقذف عليهم السماء بحمم من أرضهم وديارهم ومن مالهم، وتتناوشهم هذه الرشاشات هنا وهناك بالطلقات تحصدهم، أين مدخل صدق هنا وأين مخرج صدق؟! إنها مخارج ومداخل بعيدة عن ذلك، فكانت نتائجها أن تسلطت -بدل أن تكون على الأعداء- إلى الأحباب والإخوان والمواطنين من البلد نفسه، فتغيرت الأمور، أشير هنا إلى أن المنظومة كاملة حتى ندرك أن الصدق هو جوهر الحياة في كل التصرفات.

وأخيراً ونحن في مقام بين يدي الاختبارات، التعليم كله أين مدخل صدقه ومخرج صدقه كذلك؟! إن كانت السياسات التعليمية قائمة على ربط المناهج بالله وبدين الله وبالأخلاق والسلوكيات الحميدة في هذه الحياة، وعلى أن ينظر الإنسان نظرة صادقة مرتبطة بالحق الثابت الموصل إلى الله -عز وجل-، كانت حينئذ تعليماً حقيقياً، وإن كان موصولاً بالوظائف والأموال وبعيداً منبتاً عن الله وذكر الله -سبحانه وتعالى-، وكذلك مخرج المعلم ومخرج الطالب كله مرتبطًا بالنية والمسلك والعمل والغاية والأمل الذي يرتقب ويرتجى عند كل أحد، فإما أن يكون صدقاً أو يكون كذباً أو يكون مخلطاً، فإن غلب الصدق فذلك خير، وإلا فإن الإنسان على خطر، وحتى في الاختبارات التي قد تبدأ بعد يومين، يخرج الطالب بنية أنه مخلص لله -عز وجل-، أنه قد أخذ بالأسباب وذاكر واستعد، أنه سيكون أميناً فلا يغش، فهذا مدخله صدق فسيكون مخرجه صدقًا، وعكس ذلك بعكس ذلك، وفي جوانب الحياة كلها، تستطيعون أن تبينوا هذا الأمر في سائر جوانب الحياة، فالصدق جوهر الحياة.

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، ويلهمنا الرشد والصواب، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.






الساعة الآن : 02:27 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 24.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.62 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.38%)]