خطبة: التجاوز عن المعسر
خطبة: التجاوز عن المعسر د. محمد جمعة الحلبوسي الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللهِ؟ قَالَ: آللهِ؟ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)[1]. أنا أقف اليوم مع الذين وسَّع الله عليهم، مع الذين أغناهم الله من فضله، مع أصحاب الأموال، يأتي إليهم بعض الناس فيستدين منهم، وأنا لا أتكلم عن الذي يستدين من الناس ليأكل أموالهم بالباطل، ولا عن الذي يستدين من الناس، فيماطل مع إمكان التسديد، بل أتكلم عن إنسان جاءك أيها الغني، يا صاحب المال، واستدان منك مبلغًا من المال، ولكن ضاقت عليه الدنيا بما رحُبت، وتغيَّرت عليه الأحوال، خسِر في تجارته وعمله، وجاء وقت السداد، ولكنه لا يملِك ما يُسدَّد به دَينَه، هذا يسمى في الشريعة الاسلامية بالمعسر. فيا تُرى بماذا أمرتنا الشريعة الإسلامية في التعامل مع المعسر؟ كيف نتصرف معه؟ ما واجب المسلم تجاه أخيه المعسر؟ ما الأجر والثواب الذي أعده الله تعالى لمن يصبر أو يتجاوز عن المعسر؟ تعال أيها المسلم إلى كتاب الله تعالى، وهو يحدِّثنا عن الطريقة الصحيحة في التعامل مع المعسر، فلقد أمر الله تعالى الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم، فيقول الله تعالى في أواخر سورة البقرة: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]؛ قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إن الله تعالى أمر بإنظار المعسر الذي لا يجد وفاءً بقوله: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾، لا كما كان أَهْل الْجَاهِلِيَّة يقول أَحَدهمْ لِمَدِينِهِ إِذَا حَلَّ عَلَيْهِ الدَّيْن: إِمَّا أَنْ تَقْضِي وَإِمَّا أَنْ تُرْبِي. ثم ندب تعالى إلى الوضع عنه والتصدق عليه به أو ببعضه، ووعد عَلَى ذَلِكَ الْخَيْر وَالثَّوَاب الْجَزِيل بقوله: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[2]. قال الفقهاء (رحمهم الله): من كان له غريم معسر؛ فإنه يحرم عليه أن يطلب منه الدين، أو أن يطالبه به، أو أن يرفع أمره إلى الحاكم، بل يجب عليه إنظاره بدليل قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾[3]. فالقرآن يأمر المسلم بإنظار المعسر الذي لا يجد وفاءً لدَينه إلى أجل آخر، لعل الله تعالى أن يهيأ له الأسباب فيسدِّد دينه، أو التصدق عليه به أو ببعضه، ووعده بالثواب الجزيل، ولذلك رغب النبي (صلى الله عليه وسلم) في إعانة المسلم وإنظار المعسر، وبيَّن الثواب والأجر العظيم بأنه يحتسب للدائن كأنه تصدَّق بقيمة قرضه الذي أقرضه أخاه المسلم كل يوم: إنما هو قبل حلول أجل الدين، فإذا حلَّ الدَّين ولم يزل المدين معسرًا غير قادر على السداد، فسمح له صاحب الدين، وأفسح له في الأجل، فإن له بكل يوم من أيام إنظاره صدقة بقدر ضِعف ماله الذي أقرضه أخاه، حتى يوفيه دَينه الذي عليه، ترغيبًا في إعانة المسلم وإنظار المعسر؛ حتى لا يلجأ الى التعامل بالربا. عَنْ بُرَيْدَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ)، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ؟ قَالَ: (لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ)[4]، أي كرم هذا؟ أي ثواب هذا؟ كل ذلك من أجل أن يرغبك بإنظار المعسر. أيها المسلم، إن يوم القيامة يوم عظيم، يوم عسير؛ قال تعالى عنه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]، في ذلك اليوم العسير الكل بحاجة الى التيسير، فاسمع إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو يرسم لنا سبل التيسير وطريق الخلاص من ذلك اليوم العسير؛ قال (صلى الله عليه وسلم): (وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)[5]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ)[6]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ أَوْ مَحَا عَنْهُ كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[7]. فيا أيها التاجر، ويا أيها الثري، ويا أيها الغني، ويا صاحب المال، الله الله بالناس، الله الله بالمعسر، هل أنت في غنى عن فضل الله عز وجل؟ هل أنت في غنى عن النجاة من كربات يوم القيامة؟ تذكَّر أنك بإنظارك للمعسر قد ضمِنت التيسير لأمورك في الدنيا والاخرة، وأنك في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، فمن يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ومن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ. فتجاوز أخي المسلم عن المعسر، إما بالمسامحة, أو بالتقاضي الحسن، أو بتأخير الأجل، فإن ذلك عمل عظيم يُجازيك الله عليه يوم العرض الأكبر، يوم تكون بأشد الحاجة إلى تجاوز الرحمن عنك، ويوم أن تكون بأشد الحاجة إلى رحمات الله ومغفرته وعفوه. اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، واجعلنا من الذين يُيسرون على المعسرين، وتجاوز عنا يوم الدين يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ وتوبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويُمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمى. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقه ومنهاجه، وعلى التابعين ومن تبِعهم إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا نبينا الكريم النبي (صلى الله عليه وسلم) يحدثنا عن قصة تاجر ممن كان قبلنا، هذا الرجل لم يكن يعمل عمل خير قط، إلا أنه بمخالطته للناس كان يداينهم، فمن كان منهم معسرًا عند السداد كان يأمر فتيانه أن يتجاوزوا عنه، والتجاوز هذا إما أن يكون بالإعفاء عنهم بالكلية, أو بالتجاوز عن البعض, أو بحُسن المقاضاة، وهذا كله من باب التيسير، فلما توفاه الله (عز وجل) وأقامه بين يديه سأله: يا عبدي، هل عملت خيرًا قط؟ قال العبد: لا، إلا أنني كنت تاجرًا وكنت أداين الناس، وكان لي غلام أو فتيان أَبعثهم يتقاضون الدين الذي لي، وكنت قبل أن أبعثهم آمرهم أن يأخذوا ما تيسر، وأن يتجاوزوا عن المعسر، لعل الله أن ينظر إلى عملي هذا فيتجاوز عني كما أتجاوز عن هؤلاء المعسرين، فقال الله (عز وجل) وهو أعلم سبحانه بما كان يعمل هذا الرجل: نحن أحق بذلك منه، وأمر الله ملائكته أن يتجاوزوا عنه، رحمةً من الله وفضلًا سبحان وتعالى[8]. أنا من خلال هذا الحديث الصحيح أوجه دعوة لأصحاب الأملاك الذين يقومون بتأجير المحلات والبيوت للناس، أقول لهم: الله الله بالمستأجرين، فكلنا يعلم أحوال الناس وأوضاعهم، فهناك ضيق في المعيشة، وبعض الناس بدون رواتب، وأنتم ترفعون الإيجارات بلا رحمة أو شفقة؛ فعلى المؤجرين أن يتقوا الله في المستأجرين، وينظروا إليهم بعين العطف والرحمة، فلا تكونوا سببًا في التضييق على معيشتهم، راقبوا الله فيهم، وتحلَّوا بالقناعة ولو مؤقتًا، مراعاةً للظروف الراهنة التي تتطلب منا جميعًا أن نتراحم ونتكافل، ويتعهَّد بعضُنا بعضًا بالزيارة والاهتمام والرعاية، وسيفرجها الله على الجميع، فنحن نمر بحالة عسرة، وإذا ما تراحمنا سيعجل الله لنا جميعًا بالفرج واليسر، تراحموا يرحمكم الله، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. اللهم ارْحَمنا فأنت بنا راحم، ولا تعذِّبنا فأنت علينا قادر، والْطُف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير. [1] رواه مسلم، كتاب المساقاة، بَابُ فَضْلِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، برقم (1563)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (11293). [2] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (1 /717). [3] الموسوعة الفقهية الكويتية: (38/ 116). [4] رواه أحمد في مسنده، برقم (22537). [5] رواه مسلم، كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، بَابُ فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ، برقم (2699). [6] رواه مسلم، كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ، برقم (3006). [7] رواه أحمد في مسنده، برقم (22623)، صحَّح إسناده أحمد شاكر في عمدة التفسير (1 /337). [8] رواه البخاري، كتاب البيوع، بَابُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، برقم (2078)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب فضل إنظار المعسر، برقم (1562). |
الساعة الآن : 11:37 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour