ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشعر والخواطر (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   شعر الصعاليك (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=286091)

ابوالوليد المسلم 13-12-2022 03:00 AM

شعر الصعاليك
 
شعر الصعاليك
أ. د. أحمد درويش




قدمت في 19 فبراير 1986م


يظل الشعر واحدًا من فنون التعبير التي يلائمها مناخ معين في لحظة الإبداع، وفي محور الإبداع، وفي طريقة تصويره، والشعراء على اختلاف أجيالهم ولغاتهم يحاولون الاقتراب من دائرة هذا المناخ، الذي لا يحمل بدوره حدودًا مرسومة، ولا خطوطًا واضحة، وإنما يحمل ملامح عذبة متداخلة، أقرب إلى ملامح لحظات الحلم السعيدة التي تستعصي غالبًا على الإمساك بها.

لكن واحدة من السمات التي يُمكن الاقتراب منها لهذه الظاهرة هي سمة "التوسُّط"؛ فالشعر كلام يقع بين حدي التماسُك الشديد في الكلام المنطقي والتفكُّك التام في لغة الهذيان، ولغته الفنية تقع وسطًا بين حدَّي الصدق والكذب، ولحظات إبداعه تحمل قدرًا من التوتُّر يقع وسطًا بين الاستسلام التام والغليان المدمِّر، ومن خلال هذا كله يصطنع الشعر لغته الخاصة وخياله الخاص ومنطقه الخاص؛ لكي يصل في النهاية إلى رسم عالم لا يقبله ولا يرفضه، لا يماثله ولا يغايره؛ وإنما يوحي بمزيج من ذلك كله، وفي ذلك تكمن العظمة المثالية المنشودة في الفن.

من هذه الزاوية يبدو "شعر الصعاليك" في العصر الجاهلي نمطًا شديد القرب إلى جوهر الفن؛ فهو شعر ولد في لحظات توتُّر حادة، مِن جماعة تعيش بطبيعة تكوينها على حافة المجتمع، وتحتل بهذا موقعًا أصبح الفن الحديث الآن يجد فيه منبعًا ثرًّا للإبداع الفني، ومناخًا ملائمًا لتصوير حالات التفرد في الجماعة البشرية.

وينبغي في البدء ألا يخدعنا مصطلح "الصعاليك"، فيرتبط بظلال الكلمة الحاضرة، فالصعاليك في القديم كانوا جماعةً من الفتيان الشجعان المتمردين على تقاليد القبائل والعيش فيها، وكانوا متمردين على النظم الاجتماعية السائدة، ومن ثم فقد اختطُّوا لأنفسهم طرائق في العيش مختلفة عن طريقة الجماعة، بل ومتصادمة بها، وكانوا في معيشتهم أكثر قُربًا من الطبيعة ومن كائناتها الحية، وهم بهذا كله قد اكتسبوا سمعة طيبة جعلتْ واحدًا مثل معاوية الخليفة الأموي يتمنَّى كما يقول - صاحب الأغاني- أن لو أُتيحت له فرصة المصاهرة إلى ذرية الصعاليك، وجعلت عبدالملك بن مروان يتمنَّى لو كان هو بنفسه من نَسْلِهم، وجعلت الخليفة المنصور يروي بنفسه نوادرهم!

هذه الجماعة مثَّل شعرها جانبًا هامًّا مِن جوانب الشعر الجاهلي، إن لم يكن من حيث الكم، فهو مِن حيث المذاق والتأثير الذي يحتاج إلى الكشف عن بعض جوانبه، وهذا التأثير يبدو أنه قديم قِدَم ما نعرفه من الأدب الجاهلي نفسه، فها هو الأصمعي يذهب في إحدى الروايات إلى أن كثيرًا من شعر امرئ القيس إنما هو لصعاليك كانوا معه، وفي هذه الرواية دون شك كثيرٌ من المبالغة، ولكن فيها أيضًا كثير من الإشارة إلى احتمالات وجود مجموعة من الصعاليك المجهولين الذين تفرَّقوا على فترات العصر الجاهلي المختلفة، وربما لم تصلنا من أخبارهم الكثير.

وإذا كانوا قد تناثروا تاريخيًّا على امتداد العصر، فإنهم تناثروا جغرافيًّا على امتداد الصحراء، لكنهم تجمَّعوا بالقرب من نقاط الخصب فيها، واتخذوا هم لأنفسهم من الصحراء نقاط تمركُز كانوا من خلالها يُغيرون على هذه البقاع الغنيَّة في اليمن ونجد ويثرب ومكة والوديان المحيطة بها.

ويبدو مِن تتبُّع حركة الصعاليك أنهم تعارفوا فيما بينهم على مناطق النفوذ، فهذا هو عروة بن الورد، يتحرك في يثرب وشمال الجزيرة ولا يتجاوزها إلى نجد وتهامة إلا قليلًا.

أما مكة وما حولها من الوديان، فهي مِن نصيب صعاليك هذيل وفَهْم، ويستأثر الشنفرى ومعه صعاليك الأزد بوديان اليمن الخصيبة، أما أعماق اليمن فهي مجال حركة السليك أعرف العرب بالصحراء وأسرع الأقدام عَدْوًا فيها.

كيف كانت تتمُّ حركة "التصعلُك" بهذا المعنى الفني والاجتماعي، وكيف رسم شعرهم ذلك؟

كانت الخطوة الأولى تمرُّد الفتى على حياة الجماعة التي يشيع فيها الظلم والهوان للفقراء المستضعفين، والتي تسودها العلاقات المليئة بالضغائن المبيتة، فكان يُؤثر العيش في الصحراء مع الحرية والوحوش، ويُصوِّر الشنفرى في لامية العرب هذه الخطوة الأولى حين يقول:
أقِيمُوا بني أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإنِّي إلى قومٍ سُواكُم لأمْيَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وفي الأرضِ منأًى لِلْكَريمِ عن الأذَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفيها لمنْ خاف القِلى مُتَعزَّلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لعَمْركَ ما بالأرضِ ضِيقٌ على امْرئٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سَرى راغِبًا أو راهِبًا وهْو يَعْقِلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولي دُونَكُم أهلونَ: ذئب عَمَلَّس https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفاءُ جَيْئَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هم الأهلُ، لا مُسْتَودَعُ السِّرِّ ذائِعٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكُلٌّ أبيٌّ باسِلٌ غير أنَّني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا عَرَضَتْ أولى الطَّرائدِ أبْسَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


فهو حين ترك القبيلة ووجد في الأرض متسعًا، اختار أن يكون أهله الجُدُد الذئاب والنمور والحيَّات، ووجد أنهم لا يُذيعون سرًّا حين يُستَودَعُونه، وأنهم شجعان، لكنه هو نفسه أشجعهم جميعًا، لكن مخالطة هذه الوحوش والحياة في تلك البيئة تتطلب التسلُّح بألوان معينة من الكفاءات البدنية والنفسية لا تتوافر للإنسان في الظروف العادية، ولقد روَّض الصعاليك نفوسهم وجسومهم في تجربة بشرية قاسية حتى ساووا وحوش الفلاة في التمتُّع بصفاتها، فهم أولًا عدَّاؤون، لا يُبارون في سرعتهم، وها هو ذا تأبَّط شرًّا يُسارع الغزلان في الصحراء فيسبقها، وكان دائمًا يأخذ صيده منها من خلال الجري على القدم!

وها هو أبو خراش ينزل يثرب، فيجد بعض خيول الأثرياء تستعد للسباق، فيُراهن بدوره على أن يسبق أسرعها، وعلى أن يفوز بالفرس الذي يسبقه مكافأة له، ويكون السبق من نصيب الصعلوك.

ويرسم الشنفرى صورة له وللقطا أثناء التسابُق في الصحراء للوصول إلى عين ماء، ويصل قبلها على الرغم من أنه لم يجْرِ بكل سرعته، ويشرب النصيب الأكبر من الماء قبلها، وتضطر هي أن تمد أعناقها الطويلة بعده في الحوض حتى تُلامس الماء، الذي سبق إليه الصعلوك وشرب معظمه.
هَمَمْتُ وهَمَّتْ، وابْتَدَرْنا وأسْدَلَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وشمَّر منِّي فارِطٌ مُتَمهِّلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فولَّيْتُ عَنْها وهْي تَكْبُو لعُقْرِه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يُباشِرُهُ منها ذُقُونٌ وحَوْصَلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


والقوة شرط ضروري لمن يعيش وسط الوحوش، وعلى كثرة ما جسد الشعر العربي قوة الأبطال ضراوة وتماسكًا وشجاعة، لم يبلغ ذلك التجسيد ما فعله تأبط شرًّا "شاعر الصعاليك" حين صوَّر صراعًا قاسيًا بينه وبين الغول، ولا بدَّ أن نتذكَّر أن الغول حيوان خرافي؛ أي: إنه لا وجود له في الحقيقة، ولكن الشاعر يرسم صورة له وللمعركة القاسية التي انتهت بمقتل الغول، يقول:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ فَهْمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بما لاقيْتُ عند رحى بطانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإني قد لقيتُ الغُولَ تَهْوي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بِسُهْبٍ كالصَّحيفةِ صَحْصَحانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقلْتُ لها: كِلانا نِضْوُ أيْنٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أخُو سَفَرٍ فخلِّي لي مكاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فشدَّتْ شدَّةً نحْوي، فأهْوى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لها كفِّي بمصْقُولٍ يمَاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فأضْرِبُها بلا دَهَشٍ، فخَرَّتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ابوالوليد المسلم 13-12-2022 03:00 AM

رد: شعر الصعاليك
 
فأضْرِبُها بلا دَهَشٍ، فخَرَّتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صَريعًا لليدَينِ ولِلْجِرانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقالتْ: عُدْ، فقلْتُ لها: رُوَيْدًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مكانَكِ إنَّني ثَبْتُ الجَنان https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلم أنفكَّ مُتِّكئًا عليها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لأنْظُرَ مُصْبِحًا ماذا أتاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا عينانِ في رأسٍ قبيحٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كرأسِ الهرِّ، مشقُوقِ اللِّسانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وساقا مُخْدَجٍ، وشَوَاةُ كلْبٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وثَوْبٌ من عَباءٍ أو شِنانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والصور هنا تجسد معنى أن يخلق الشاعر عالمه الفني الذي يتحرك داخله لينقل مِن خلاله لونًا من الأحاسيس تولده تجربة فنية دقيقة، والصورة المتخيلة التي رسمها تذكر بصور الأساطير الإغريقية القديمة للحيوانات الخرافية.

على أن معايشة الصحراء نفسها والتغلب على عناصر الموت فيها يتطلب دربة خاصة، وها هو السليك يحاول التغلب على الجفاف القاتل في صحراء اليمن الشاسعة حين يختار موسم الصيف القاحل ليمارس فيه من خلالها غزواته، وحيث لا تستطيع الخيول نفسها ولوج الصحراء؛ لأن الموت عطشًا يتهدَّدها، ولكن الصعلوك يكون قد أعدَّ عُدَّته منذ فصل الربيع، فيملأ بيض النعام بالماء البارد ويدفنه في أماكن في الصحراء يعرفها جيدًا، فإذا جاء الصيف كان هو وحده ملك الصحراء يستطيع فيها الحركة كما يشاء.

لكنَّ هناك جانبًا إنسانيًّا وثوريًّا متألقًا في تجربة الصعاليك، كانت الفوارق الطبقية الشاسعة دافعًا قويًّا وراء وجودهم، في الوقت الذي يمتلك فيه أحد الأغنياء واديًا مليئًا بالإبل، يوجد مئات الفقراء بجانبه قد يموتون جوعًا، ولا يمتلك الواحد منهم أكثر من حبل يجرُّ به جزءًا من القطيع في خدمة السيد، ويستجدي قوت يومه، يقول أحدهم:
وإني لأسْتَحْيِي لنَفْسيَ أنْ أُرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أمُرُّ بحبْلٍ ليسَ فيه بعيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأنْ أسْألَ العبْدَ اللَّئيمَ بَعيرَه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وبُعْرانُ ربِّي في البلادِ كثيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ومن هذا المنطلق يأتي سعيهم للغنى، إبعادًا لشبح ذل الفقير، وتأتي أبيات عروة بن الورد الخالدة:
ذريني للغِنى أسْعَى فإنِّي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رأيتُ الناسَ شَرُّهمُ الفقيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأبعدهم وأهْونهم عليهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإن أمْسى له حَسَبٌ وفيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يُباعِدُه القريبُ، وتَزْدَرِيه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حَلِيلتُه، ويَقْهرُه الصغيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويلقى ذو الغِنى وله جَلالٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يكادُ فؤادُ لاقيهِ يطيرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قليلٌ ذَنْبُه، والذَّنْبُ جَمٌّ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولكن للغِنى ربٌّ غفورُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وحين يُتاح المال للصعاليك يتحوَّلون إلى أسخياء وكرماء، ويرى العرب أن حاتمًا الطائي لم يكن أكرم من عروة بن الورد الذي يَحكي عنه صاحب الأغاني: أنه كان إذا نزل القحط بالناس يجمَع المرضى وكبار السن والضعفاء ويُوفِّر لهم المأوى والطعام حتى تعود إليهم العافية، ومن اشتدَّ عودُه منهم اصطحبه معه في السَّلْب على أموال الأغنياء التي يأتي بها ليُوزِّعها على الفقراء.

إنَّ شعر الصعاليك وجهٌ يبرز من الصحراء الجافة، برمالها وجديتها وصلابتها وصراحتها، ويظل بعيدًا عن الزَّيْف والمجاملة والرقة المصطنعة، يظل نموذجًا للشعر الجاهلي الأصيل.


الساعة الآن : 09:58 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 23.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.44 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.58%)]