يا ربيعة ألا تتزوج
يا ربيعة ألا تتزوج عبدالعزيز أبو يوسف الخطبة الأولى الحمد لله عددَ خلقِهِ، ورضا نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومداد كلماته، وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة الْمُسْداة؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:فأوصيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فهي سبب عظيم لتنفيس الكروب، وتفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن؛ كما قال العزيز الرحيم: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]. أيها المسلمون: من لطائف السنة ودُرَرِها ما رواه الصحابي الجليل ربيعةُ بن كعب الأسلمي رضي الله عنه؛ قال: ((كنت أخدُم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا ربيعةُ، ألَا تتزوج؟ قال: فقلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يُقِيم المرأة، وما أُحِبُّ أن يشغلني عنك شيء، قال: فأعرض عني، ثم قال لي بعد ذلك: يا ربيعة، ألَا تتزوج؟ قال: فقلت: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، وما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، قال: ثم راجعت نفسي، فقلت: والله يا رسول الله، أنت أعلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة، قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة، لأقولن: نعم، قال: فقال لي الثالثة: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلت: بلى يا رسول الله، مُرْني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان، إلى حي من الأنصار، فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقرئكم السلام، ويأمركم أن تزوِّجوا ربيعةَ فلانةَ - امرأةً منهم - قال: فأتيتهم فقلت لهم ذلك، قالوا:مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته، قال: فأكْرَمُوني وزوَّجُوني وألْطَفُوني، ولم يسألوني البيِّنة، فرجَعتُ حزينًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالك؟ فقلت: يا رسول الله، أتيت قومًا كرامًا، فزوجوني وأكرموني وألطفوني ولم يسألوني البينة، فمن أين لي الصَّداق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبُريدة الأسلمي: يا بريدةُ، اجمعوا له وزنَ نواةٍ من ذهب، قال: فجمعوا له وزن نواة من ذهب، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بهذا إليهم، وقل هذا صَداقُها، فذهبت به إليهم، فقلت: هذا صداقها، قال: فقالوا: كثيرٌ طيب، فقبِلوا ورضُوا به، قال: فقلتُ: من أين أُولِم؟ قال: فقال: يا بريدة، اجمعوا له في شاة، قال: فجمعوا له في كبش فطيم سمين، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة، فقل: انظري إلى الْمِكْتَل الذي فيه الطعام فابعثي به، قال: فأتيت عائشة رضي الله عنها فقلت لها ذاك، فقالت: ها هو ذاك المكتل فيه سبعة آصَعٍ من شعير، والله إنْ أصبح لنا طعام غيره، قال: فأخذته فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب بها إليهم، فقل: ليصلح هذا عندكم خبزًا، قال: فذهبت به وبالكبش، قال: فقبِلوا الطعام، وقالوا: اكفونا أنتم الكبش، قال: وجاء ناس من أسْلَمَ فذبحوا، وسلخوا وطبخوا، قال: فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمتُ، ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه الإمام أحمد والحاكم، وهو على شرط مسلم]. أيها المؤمنون، احتوت هذه القصة من السُّنَّة دُرَرًا وفوائدَ جمَّةً، نقف معها بشيء من الاختصار: أولًا: تفقُّد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأحوالهم، وحاجاتهم والسعي لقضائها، مع كثرة مشاغله والأعباء التي عليه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الولد مع والده، والوالد مع ولده، والزوجين، وكذا الجار مع جاره، والصَّدِيق مع صَدِيقه، والمعلم مع طلابه؛ تفقُّدًا لحالهم، وسؤالًا عن حاجاتهم، والسعي لقضائها قدر المستطاع: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]. ثانيًا: أن الخير كل الخير في الاستجابة لهَدْيِ الكتاب والسُّنَّة، فما من خير إلا دلَّا عليه، وما من شر إلا حذَّرا منه؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، وجاء في الحديث قول ربيعة رضي الله عنه: ((ثم راجعت نفسي فقلت: والله يا رسول الله، أنت أعلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة))، فلما استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان له من الخير العظيم من الشفاعة في التزويج، وجمع الصداق، والوليمة، فالفلاح في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم، والشقاء في الإعراض عنه. ثالثًا: نُصْحُه صلى الله عليه وسلم وحُبُّه الخير لأصحابه؛ ولذا كرَّر على ربيعة رضي الله عنه عَرْضَ التزويج حين رآه عزبًا محتاجًا للزواج، مما يدل على أهمية مبادرة الوالدين بتزويج أبنائهم وبناتهم؛ لِما فيه من العفاف وتحصين الفرج وحفظ البصر، والاستقرار النفسي وإصابة الفطرة، والاهتداء بسنن المرسلين: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]. رابعًا: مشروعية الشفاعة الحسنة، وفضلها، والترغيب فيها؛ كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لربيعة رضي الله عنه، ما لم تكن لإسقاط حق آخرين أو تضييعه، حينئذٍ تكون من شفاعة مذمومة محرَّمة شرعًا؛ كما قال عز وجل: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ ﴾ [النساء: 85]. خامسًا: الترغيب في الإعانة على الزواج فيما يتعلق بالبحث عن الزوجة المناسبة، والإرشاد إليها، وكذا الإعانة على الصَّداق، وكذا الإعانة على وليمة العرس؛ كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع ربيعة رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ إن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى؛ كما أمر الله تعالى فقال: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]. سادسًا: في قول ربيعة رضي الله عنه: ((فأكرموني وزوجوني وألطفوني، ولم يسألوني البينة)) وجوب إحسان الظن بين المسلمين، وأن الأصل سلامة المقاصد، وحسن النوايا، وصدق الحديث بينهم، ما لم تقُمْ قرينة أو بيِّنة تصرِف عن ذلك. سابعًا: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا له وزنَ نواة من ذهب))، وهي شيء يسير دليل على أن الأصل في الصداق التيسير، والعِبرة بالتوفيق وحصول المودة بين الزوجين. ثامنًا: في قول أولياء الزوجة من الأنصار حين قدِم لهم ربيعة رضي الله عنه بوزن النواة ذهبًا: ((هذا كثير طيب، فقبِلوا ورضوا به))، قبول ما تيسير من الصداق وعدم إلحاق المشقة بالخاطب بتكليفه ما لا يطيق. تاسعًا: في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا بريدة، اجمعوا له في شاة، قال: فجمعوا له في كبش فطيم سمين))، التيسير في الوليمة، وعدم التكلف وإلحاق الزوج وأهله العَنَت والمشقة، فالمقصد منها إعلان النكاح لا التفاخر والسمعة والإسراف، وربما تحمَّل أولياء الزوجين ما لا يُطيقون من أموال لإقامة حفل كبير يحضُره القاصي والداني لنَيلِ ثنائهم ومدحهم. اللهم ارزقنا حسن الاتباع والاهتداء والاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك؛ أما بعد:عباد الله: صلُّوا وسلِّموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائل عليم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، صاحبِ الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً، اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمين الشريفين، ووليَّ عهدِه لِما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومُدَّهما بنصرك وإعانتك، وتوفيقك وتسديدك، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، واحفظهم واشفِ مريضهم، وداوِ جريحهم، وتقبَّل ميِّتَهم في الشهداء، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وبلِّغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]. |
الساعة الآن : 02:34 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour