وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (1) ميسون عبدالرحمن النحلاوي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين؛ أما بعد: مقدمة: فإن القرآن الكريم من أكبر النعم التي منَّ بها رب العالمين على عباده المسلمين، فيه الرحمة، وفيه الهدى، وفيه العلم والحكمة والبيان، فيه القصص والعِبر والعِظات. هو نور ورحمة وشفاء لكل مسلم على أي حال كان، القرآن الكريم فيه الخير كله، من تمسك به فاز، ومن حُرمه خاب وخسر آخرته ودنياه، اللهم إنا نعوذ بك من الخيبة والخسران. يقول تعالى في سورة يونس: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 57، 58]. جاء في تفسير القرطبي: "قوله تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ [يونس: 58] قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضْلُ الله القرآن، ورحمته الإسلام، وعنهما أيضًا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله"؛ [انتهى]. وقد ذمَّ الله في كتابه العزيز من يقرأ القرآن بلا تدبر ولا فَهم لمعانيه ومقاصده؛ فقال عز من قائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. قال ابن كثير: "﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]؛ أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه". فالمؤمن مأمور أن يبحث ويتقصَّى، ويحاول ويجتهد في فهم معاني القرآن الكريم، ليكون ممن ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، فيُكتب ممن ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]؛ يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]. قال ابن مسعود: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله"، وكذا رواه عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود، وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: "يُحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". قال القرطبي: "وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121] قال: ((يتبعونه حق اتباعه))"؛ [انتهى]. والعمل بالقرآن واتباع ما جاء به يقتضي تدبره، ويتطلب منا فهم مقاصده ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وقد ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "لقد عُشنا بُرهةً من دهرنا، وأحدنا يُؤتَى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدَّقَل". اللهم نسألك إيمانًا صادقًا، وفهمًا وتدبرًا لكتابك العزيز، ودعوانا أن تكتبنا من أهل القرآن وخاصته، دون رياء ولا نفاق، اللهم آمين. وبعدُ: فهذه الدراسة البسيطة لسورة آل عمران، والتي تمتد على عدد من الحلقات، هي محاولة لتدبر وتعلم ما شاء الله لنا أن نتعلم منها، وإلا فإن أسرار القرآن ومقاصده وإعجازه لا يحيط به إلا مُنزله جل وعلا، ولا نحيط نحن البشر من علم الله بشيء إلا بما شاء؛ كما قال عز وجل في آية الكرسي: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، وفي سورة الكهف: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109]. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك لا يشوبها من الرياء شائبة، اللهم آمين. تعريف بسورة آل عمران: آل عمران سورة مدنية من السور الطِّوال، نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وعدد آياتها مائتا آية، وهي من السور التي بدأت بالحروف المتقطعة "الم"، وتغطي بعضًا من الجزء الثالث والجزء الرابع من أجزاء المصحف الشريف، ومن حيث الأحزاب، فهي في الحزب السادس والسابع والثامن. وسورة آل عمران ليست من أوائل ما نزل في المدينة، بل نزلت بعد فترة طويلة من حياة المسلمين بها، وبعد أن تقلَّبت عليهم فيها أحوالٌ من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا اختلاطًا واضحًا بأهل الكتاب من يهود ونصارى، وجرى بينهم من الحِجاج والنِّقاش ما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها، وقد ذُكرت فيها غزوات بدر وأُحُدٍ وحمراء الأسد. نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال التي تكفَّلت بالكلام على غزوة بدر، وبعدها في أواخر السنة الخامسة للهجرة نزلت سورة الأحزاب. الأجواء التي نزلت فيها سورة آل عمران: سورة آل عمران تحكي عن فترة من حياة الجماعة المسلمة في المدينة المنورة، تمتد من بعد غزوة بدر، وحتى ما بعد غزوة أحد. تكمن أهمية هذه الفترة في عدة نقاط: كانت الدولة فتيَّة ما زالت في بداياتها، وكان الإسلام غضًّا في قلوب المؤمنين لم يتجذر بما يكفي ليطغى على البُعدين القَبَلِيِّ والأسري، والتعصب لهما، فما كان واضحًا لديهم أن وشيجة الدين هي الأعلى، والغالبة على كل الوشائج التي تربط بني البشر في مختلف مجتمعاتهم، في حين كان أعداء هذه الدولة الفتية، أو الجماعة المسلمة، ينطلقون من عقيدة واضحة الملامح: المال، والسلطة، وكانت هذه العقيدة تجمعهم على اختلاف مشاربهم التي ينطلقون منها، فقد كان منطلق اليهود دينيًّا، ومنطلق العرب عروبيًّا قبليًّا. تميزت تلك الفترة بنشوء مجتمع المنافقين وبداية تجذره في جسد الأمة، فكان قائده "عبدالله بن أبي سلول"، وكان له مريدون وأتباع من مرضى النفوس، ويرجع سبب نشوء هذا المجتمع إلى انتصار المسلمين في غزوة بدر انتصارًا لم يكن لعقلِ بشرٍ يؤمن بالماديات من حوله فقط أن يصدقه. فبعد انتصار المسلمين في غزوة بدر أيقن هؤلاء بحقيقة الدعوة، وأن لا مدخلَ لهم على الدعوة الجديدة عن طريق الحروب، فتوجهوا نحو تشكيك المسلمين في عقيدتهم؛ تارة من باب الفكر العقائدي، وكان أبطال هذا الأسلوب اليهود: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72]، وتارة من باب التشكيك في قرارات سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكان أبطالَ هذا الأسلوب المنافقون، وهذا ما أتت عليه السورة في سياق غزوة أحد: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]. اختلال موازين القوى بين الجماعة المسلمة وأعدائها؛ فمن الناحية المادية كانت موازين القوى في المجتمع الجديد تميل إلى كفة أعداء الجماعة المسلمة، فقد كان حلف المنافقين مع اليهود حلفًا قويًّا في وجه الدعوة الجديدة. في هذه الأجواء نزلت سورة آل عمران بدروسها وتوجيهاتها، وفضحها لسلوكيات وصفات المنافقين واليهود؛ لتغرس في قلوب المؤمنين بذور الإيمان الصحيح بصورة جلِيَّة ناصعة واضحة، وتُزيل من عقولهم كلَّ تخبُّط وتشكُّك، فغسيلُ الأدمغة أمرٌ درج عليه أعداء الإسلام والمسلمين منذ ظهور الدعوة، وأما معركة الحق مع الباطل، فهي معركة أزلية لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والسلاح الوحيد الذي يمكن أن يضمن لنا النصر فيها كتابُ الله وسنة رسوله. آل عمران سورة التوحيد والثبات الفكري والجهادي: فإن كان التوحيد وآياته، ودلائله والدعوة إليه، هو المحور الذي تدور حوله السورة، فإن التوجيهات الإلهية للمسلمين في مسألة الثبات على هذه العقيدة – عقيدة التوحيد - في شقَّيه الفكري والجهادي هي العنوان العريض للسورة، وهو ما سيطالعنا في مسألة وفد نجران، وغزوة أحد. وقفة مع اسم السورة: من المعلوم أن تسمية سورة آل عمران بهذا الاسم هو بسبب ذكر قصة آل عمران فيها، لكن، وكما كان من شأن قصة البقرة في سورة البقرة من دلالات وإضاءات على محاور السورة، كذلك نجد أن قصة آل عمران في هذه السورة تبدو بمثابة المصباح الذي يُلقي بضوئه على مواضيع السورة من كل ناحية، فلو أنك أطلْتَ التدبر والتأمل في قصة آل عمران، لوجدتها تجمع في طياتها مقاصدَ السورة الرئيسية، ومرتكزاتها الأساسية بسرد واحد. فالقصة تتناول الاختلاف الجذريَّ بين مقاييس الخلق، وفهمهم للقوانين الأرضية، عن مقاييس رب الخلق؛ الله جل في علاه، وتدبيره وتصريفه لأمور أهل الأرض، وهو ما سيبدو جليًّا فيما بعد في معايير النصر والهزيمة في ساحات الجهاد في سياق الغزوات الثلاث؛ بدرٍ وأحدٍ وحمراء الأسد. وينتج عن هذا الاختلاف ما يسميه البشر "بالمعجزة"، إذا عرفنا المعجزة على أنها كل ما يتجاوز حدودَ فَهم العقل البشري وتفسيره منطقيًّا، حسب القوانين والنواميس الطبيعية التي وضعها الله للبشر. فالقصة تعرض لمعجزات متتالياتٍ، تبدأ من اصطفاء مريم عليها السلام وهي ما زالت في رحِم أمِّها، وتولِّي الله عز وجل لها في الرزق والإنبات، ثم استجابة الله عز وجل لزكريا في هبَتِهِ للولد، في خرق للنواميس البشرية في الإنجاب، إلى ولادة سيدنا عيسى من غير أب، إلى معجزات سيدنا عيسى في قومه إلى رفعه عليه السلام. والعرض التفصيلي لتلك المعجزات في القصة، هو بمثابة تقعيد لأهم مقومات التوحيد؛ وهو: قدرة الله على الخلق والتدبير بمجرد قوله كن فيكون، بذلك خلق آدم، وبذلك خلق عيسى عليهما السلام، وكذا أمره في كل تصريف وتدبير. هو الحق وأمره وتدبيره حقٌّ، ولا ينبغي لأحد أن يتناوله بأبسط مظاهر الشك؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 60]، ومن هنا تُدخلنا القصةُ إلى باب من أهم أبواب السورة؛ وهو باب الثبات. إذ لا تكاد تنتهي القصة، حتى يوجهنا السياق إلى دعوة وفد نصارى نجران، القائلين بألوهية عيسى عليه السلام، للمباهلة، والمباهلة في اللغة هي الملاعنة؛ أي: الدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب من المتلاعنين، لتكون نموذجًا لكل مسلم في مسألة الثبات العقائدي في مواجهة افتراءات العقائد المنحرفة المتألية على الله عز وجل، وعلى دين التوحيد. فضل السورة: ورد في فضل سورة آل عمران عدد من الأحاديث النبوية الشريفة؛ نذكر منها: قوله صلى الله عليه وسلم عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤتَى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدَّمه سورة البقرة، وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أمثال ما نسيتهن بعدُ، قال: كأنهما غمامتان، أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما حِزْقان من طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّان عن صاحبهما))؛ [صحيح مسلم]. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به))؛ أي: الذين يقرؤون القرآن، ويؤمنون بأخباره، ويصدقون بها، ويعملون بأحكامه، فهؤلاء يكون القرآن حجةً لهم يوم القيامة، وخرج بذلك الذين لا يؤمنون بأخباره، ولا يقيمون حدوده، فهؤلاء يكون القرآن حجةً عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القرآن حُجَّة لك أو عليك))، ((تقدَّمه))؛ أي: تتقدم القرآن، أو أهله: ((سورة البقرة، وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان))؛ أي: سحابتان، ((سوداوان))؛ لكثافتهما، وارتكام بعضهما على بعض، ((بينهما شرق))؛ أي: ضوء، ونور الشرق هو الشمس، وفي ذلك تنبيه على أنهما مع الكثافة لا يستران الضوء، وقيل: أُريد بالشرق الشقُّ، وهو الانفراج، أي: بينهما فرجة وفصل؛ كتميزهما بالبسملة في المصحف، ((وكأنهما حزقان))؛ أي: قطيعان وجماعتان، ((تُحاجَّان))؛ أي: تدافعان الجحيم والزبانية، أو تخاصمان الربَّ، أو تجادلان عنهم بالشفاعة، أو عند السؤال إذا سكت اللسان، واضطربت الشفتان، وضاعت البراهين". اللهم اجعلنا من أهلهما. وقد ورد في قصة مريم وعيسى عليهما السلام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمسه حين يُولَد، فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان إياه، إلا مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]؛ [حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين، أخرجه البخاري ومسلم، والطبري والبغوي، وأحمد وأبو يعلى، وغيرهم]. السمات المميزة لسورة آل عمران: ومن هذه السمات مواضيع تفردت السورة بذكرها دون غيرها من سور القرآن الكريم: مسألة المحكم والمتشابه. قصة آل عمران: حيث لم تُذكر القصة بتفصيلها إلا في سورة آل عمران. المعجزة والغيب: تتفرد سورة آل عمران بسوقها لعدد من المعجزات كدليل ساطع على وحدة الألوهية والربوبية في آنٍ معًا، ونجدها جلية في قصة آل عمران، والغزوات الثلاث التي أتَتِ السورة على ذكرها: بدر، أحد، حمراء الأسد. آيات المباهلة: في محاججة نصارى وفد نجران، ولم ترِد إلا في هذه السورة. غزوة أحد: كذلك الأمر، لم تُذكر غزوة أحد بتفصيلها إلا في سورة آل عمران. الولاء والبراء: تأتي السورة على مسألة الولاء والبراء في أكثر من موضع، وتتميز آيات الولاء والبراء في آل عمران في أنها تارة ذُكِرت بحكم قطعيٍّ، فيه من الوعيد الشديد ما تنخلع له القلوب؛ في قوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، ثم تبرؤ الله عز وجل من كل من يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]. والموضع الآخر الذي ذُكرت فيه مسألة البراء جاء في سياق تعليميٍّ، يخاطب العقل لمن لا يقتنع إلا بالسياقات العقلية، فبيَّن لهم خبيئة هؤلاء، ولماذا ينهاهم جل في علاه عن موالاتهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وسنأتي على تفصيل المسألة في قلب السورة إن شاء الله. البشرية وحتمية الموت: تتناول السورة الموت في عرض تصحيحي للنظرة السطحية التي يحاكم بها الناس الموت: تُذكِّرنا السورة بحتمية الموت في أنه مقدَّر على كل البشر؛ صغيرِهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، عظيمهم وسفيههم؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، والموت مكتوب ومقدَّر في زمانه ومكانه بغضِّ النظر عن الأسباب، ولو اختبأ منه الإنسان في سابعة الأرضين. ثم تأتي مسألة موت القائد في المعركة الجهادية، فتُبين أن موت القائد لا يعني موت الرسالة التي جاهد وعاش ومات من أجلها. وتخبر المؤمنين بأن من يُقتل في سبيل الله، ليس بميت، بل حيًّا عند ربه يُرزق: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]. عرض السورة لمسألة الثبات الخارجي والداخلي: فسورة آل عمران، في سياق الثبات، تتمحور حول حادثتين: حادثة وفد نصارى نجران، الذي يمثل أول حوار للأديان في التاريخ، وكيف نثبت في مواجهة الأفكار الخارجية من خلال المناقشة مع وفد نصارى نجران، وهي تُعلِّمنا فكرة مناقشة أهل الكتاب عامة. والحادثة الثانية: غزوة أحد تدُلُّنا على كيفية الثبات العملي، وقد جاء ترتيب الحادثتين في سياق السورة بهذا الشكل، على رغم أن وقوعهما الزمني معكوس، إنما جاء ليخدم فكرة ضرورة بناء الثبات الخارجي أولًا، ليتحقق الثبات الداخلي، أو بتعبير آخر: الثبات العقائدي أولًا، ثم الثبات السلوكي، أو العملي. وتعرض السورة من خلال الكثير من آياتها مسألةَ الثبات على الحق، لكل المؤمنين على اختلاف شرائحهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]. ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]. كما تعرض السورة في مقدمتها لعقبات الثبات: كقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. الحلقة القادمة وقفات مع مقدمة السورة إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (2) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وقفات مع مقدمة السورة - 1- تستغرق مقدمة سورة آل عمران اثنتين وثلاثين آية، تكاد تغطي كل ما بسط في قلب السورة من مواضيع تدور في فلك المحور الرئيسي للسورة؛ وهو الألوهية والعبودية. الأسس العقائدية التي أتت عليها المقدمة: أولًا: تبدأ السورة بتقرير عقيدة التوحيد مشفوعة بصفات الله الواحد الأحد: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 1، 2]، هذا الأصل الذي تسير في فلكه كل مواضيع السورة وجزئياتها ومنحنياتها: من آيات الوحدانية، إلى منزل الكتاب، إلى مرسل الرسل، إلى رب المعجزات، إلى صاحب القدرة المطلقة في الخلق، في الموت والحياة، في النصر والهزيمة، في بسط الرزق لمن يشاء ومنعه عمن يشاء.. وكل ذلك بأمر كن فيكون! هو الله الذي لا يفلح من يعصيه، ولا يشقى من يطيعه ويستهديه.. هو الله! هو الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا ينبغي التألُّه والتعبُّد إلا لوجهه، فكل معبود سواه باطل، هو "الحي القيوم " وهما من أعظم صفات الله عز وجل: فالحي، سبحانه هو الدائم في وجوده الباقي حيًّا بذاته على الدوام أزلًا وأبدًا، هو حي لا يموت كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]. قال ابن جرير الطبري: "وأما قوله: ﴿ الْحَيِّ ﴾ فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة والبقاء، الذي لا أول له يحد، ولا آخر له يؤمد". والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، الباقي أزلًا وأبدًا، أو القائم بتدبير أمور الخلق، وتدبير العالم بجميع أحواله، فهو القائم بأمور خلقه في إنشائهم، وتولي أرزاقهم، وتحديد آجالهم وأعمالهم، وهو العليم بمستقرهم ومستودعهم، وهو الذي يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا بقيوميته وإقامته له سبحانه وتعالى. وقد روت أسماء بنت يزيد أم سلمة الأنصارية رضي الله عنها حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد أن في هذه اسم الله الأعظم، قال صلى الله عليه وسلم: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163] و﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 1، 2]"؛ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه. ومن دلائل ألوهية الحي القيوم، سبحانه: • أنه هو المصدر الأزلي للكتب السماوية: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 3]، فهو الذي بعث الأنبياء على اختلاف شرائعهم برسالة التوحيد، واختصَّ بالذكر التوراة والإنجيل، والقرآن، الذي نزل مصدقًا لما جاء بهما وخاتمًا للشرائع جميعها، ناسخًا لها. • وأنه جل في علاه أنزل الشرائع التي سبقت القرآن لهداية الناس، ولردهم عن طريق الضلال الذي أوغلوا فيه لما تطاول عليهم الزمان: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 3، 4]. • ولنفس السبب أنزل الفرقان: يقول ابن كثير: "﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 4]، وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره، ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع بن أنس: الفرقان هاهنا القرآن"؛ انتهى. • ثم إنه جل جلاله أعَدَّ لمن يكفر بهذا الهدى بعد أن بيَّنه الله له وأوضح له سبله وطرائقه عذابًا شديدًا يوم القيامة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 4]؛ أي: منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام. • ومن دلائل ألوهيته أنه متفرد بعلم الغيب، وبعلم السر وأخفى، وهو فقط الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن له بعلم الغيب إلا الله؟! ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]. ويربط القرطبي علم الغيب المذكور في هذه الآية، بافتراء النصارى وقولهم: إن عيسى هو الله أو ابن الله، فيقول: "قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل، ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون، فكيف يكون عيسى إلهًا أو ابن إله وهو تخفى عليه الأشياء؟"؛ انتهى. • ومن صور تفرُّده بعلم الغيب أنه هو الذي يصوِّر الإنسان في رحم أمه بالمكان الذي يريده، بالزمن الذي يريده، على النحو الذي يريده، ومن يتأمل هذه الآية يجد أن خلق الإنسان وتصويره في رحم أمه يبدأ من اللحظة التي أراد الله بها الزواج بين والديه، والغيب متمثل في كل جزئيات هذه الرحلة.. فلا أحد يدري من سيكون شريك حياته على وجه القطع قبل أن يكتب الله له الزواج بها؛ ولا أحد يعلم بعد الزواج ما إذا كان سيُرْزَق أولادًا أم لا، ولا أحد يعلم هل ستكون ذريته ذكورًا فقط أم إناثًا فقط، أم ذكورًا وإناثًا؟ وهل سيولدون متعافين أم مرضى أم معاقين.. أحياء أم أمواتًا؟.. ثم هل يمكن لأحد أن يتصرف بما في الأرحام فيجعله ذكرًا أو أنثى، جميلًا أو قبيحًا، غبيًّا أو ذكيًّا؟ ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 6] هو الذي خلق، وهو المستحق للألوهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام. ثم يأتي بعد ذلك من يحدثك بألوهية العلم..سبحانه وتعالى ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9].. سبحانه! ويرى ابن كثير أن هذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبدٌ مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله تعالى صوَّره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهًا كما زعمته النصارى- عليهم لعائن الله- وقد تقَلَّب في الأحشاء، وتنَقَّل من حال إلى حال، كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [الزمر: 6]. • ومن دلائل ألوهيته، أنه هو الذي أنزل الكتاب فجعل منه المحكم والمتشابه فتنة للناس، فمن كان في قلبه زيغ اتَّبَع المتشابه، ومن كان راسخًا في العلم قال: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]؛ يقول تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]. يقول ابن كثير: "يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد"؛ انتهى. تفصيل في المحكم والمتشابه: •"عن ابن عباس أنه قال:" المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به. وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والسدي، أنهم قالوا: المحكم الذي يعمل به. • وعن سعيد بن جبير: ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [آل عمران: 7] يقول: أصل الكتاب، وإنما سماهن أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب. وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن. وقيل في المتشابهات: إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ تفسير ابن كثير. جاء في تخريج المسند لشعيب الأرناؤوط، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن منكم من يقاتل على تأويله، كما قاتلت على تنزيله"، قال: فقام أبو بكر، وعمر فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل"، وعلي يخصف نعله. خلاصة حكم المحدث: صحيح. التخريج: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأحمد واللفظ له. وقد جاء في شرح الحديث، أنه كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نصيب عظيم من التضحية في سبيل الله منذ بداية الإسلام وإلى مماته. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن منكم من يقاتل على تأويله"، يقاتل بسبب التأويل الخطأ للقرآن الكريم من عقول غير مؤهلة لتأويله، فتقع الفتن بين الناس بسبب هذا الخطأ "كما قاتلت على تنزيله"، وذلك القتال على التأويل مثل قتال النبي صلى الله عليه وسلم للناس حتى يؤمنوا بالقرآن المنزل. قال أبو سعيد الخُدْري: "فقام أبو بكر، وعمر" ظنًّا منهما أنهما من سيقاتلان على تأويل القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" ليس أنتما من سيفعل ذلك، "ولكنه خاصف النعل" يشير بذلك إلى الشخص الذي يخيط النعل في جانب من المجلس، "وعلي يخصف نعله"؛ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليًّا رضي الله عنه هو من سيقاتل طائفةً من المسلمين على تأويلهم الخطأ للقرآن، وقد حدث ذلك فقد قاتل علي رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الخوارج على تأويل القرآن بغير ما أراده الله عز وجل. • ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم. وقوله: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: تحريفه على ما يريدون. • ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]: "عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم"؛ قاله ابن كثير. جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم". وقال الإمام أحمد: عن الزُّهْري، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه". • ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أصحاب العقل السليم، والفهم القويم. • ثم قال تعالى عنهم مخبرًا عن أولي الألباب هؤلاء أنهم يدعون ربهم خوفًا ورهبةً من زيغ القلوب قائلين: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]؛ أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ﴾ [آل عمران: 8]؛ أي: من عندك ﴿ رَحْمَةً ﴾ [آل عمران: 8] تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: "اللهم مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب؟ قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"، فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 9]، فهم يؤمنون يقينًا بأن الله جامع الناس ليوم الحساب؛ لذلك هم يخشونه حق الخشية، فلا يكون منهم إلا ما يرضيه. ثانيًا: مسألة القوة المادية في الحروب العقائدية: أولًا: القاعدة الإلهية في قوة الجبابرة من الكفرة: لا المال ولا الجاه ولا الذرية مانعة من قدرة الله وجبروته: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 10]. فالذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، مستندين إلى قوتهم وجبروتهم في تكذيبهم هذا، إنما يعيشون حياة الوهم، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد والأتباع والشهرة والمنصب وقوة البطش بنافع لهم، وهم في ذلك بين أمرين: إما أن يموتوا وهم في قوتهم وعلى ظنهم هذا، فيتحولون إلى وقود لنار جهنم بعد موتهم، أو أن يعيشوا ليروا ظهور أمر الله عليهم وهم في ذروة جبروتهم، ثم يهلكهم الله ويلحقون بأسلافهم وقودًا لنار جهنم، فيشهدوا العذاب مرتين في الدنيا والآخرة. • ومثال ذلك فرعون ومن قبله من الأمم الغابرة التي عصت وطغت وتجبَّرت واستكبرت على رسل ربها، ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [آل عمران: 11]. لكن يهود المدينة لم يكونوا ليعيروا بالًا لهذه القاعدة الإلهية؛ فقد كان من أمرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: "يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله ما أصاب قريشًا"، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا!" نعم، لقد نسي هؤلاء مثل فرعون والأقوام من قبله، فذكرهم الله بالأمس القريب ببدر وما كان من شأنها، فأنزل تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 12] إلى قوله: ﴿ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]. • تطبيق القاعدة معركة بدر: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، فقد كان كفار قريش يوم بدر ثلاثة أضعاف المسلمين، كان المؤمنون يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا والمشركون بين التسعمائة والألف. • وفي قوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13]، قولان: الأول، فيما حكاه ابن جرير: "يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم؛ أي: جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم. • والقول الثاني: "أن المعنى في قوله: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾؛ أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم؛ أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم. • لكن قد يتساءل أحدنا: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى في قصة بدر في سورة الأنفال: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 44]؟ • والجواب يكمن في اختلاف "الرؤيا" عند التحام المعركة، كما يقول ابن كثير: "والجواب: أن هذا كان في حال، والآخر كان في حال أخرى، كما قال السدي، عن الطيب عن ابن مسعود في قوله: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13]، قال: هذا يوم بدر. قال عبدالله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44]. وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلًا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. فعندما عاين كلا الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم؛ أي: أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر"؛ انتهى ابن كثير. ثانيًا: المغريات "المادية الدنيوية" التي تحول بين المؤمن وبين الثبات في المعركة: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. والآية تلخص معوقات الثبات أمام الغزو الفكري والعسكري على حد سواء، وهذا ما يصرح فيه السياق في غزوة أحد، عندما كان انهزام فئة من المسلمين أمام إغراء الغنائم أهم عوامل الهزيمة! لكن الله عنده حسن المآب! وعنده ما هو أفضل بكثير من هذا المتاع الزائل المنقضي: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]. ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ يعطي كلًّا بحسب ما يستحقه من العطاء. ثم يصف الله "الذين اتقوا" الذين صدقوا وعد الله، ففضلوا نعيم الله الخالد على نعيم الدنيا الزائل فاستحقوا ذلك النعيم: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 16، 17]. ثالثًا: تقرير وحدة الألوهية التي انعقد عليها دين البشرية "الإسلام"، فكانت دين الرسالات جميعًا: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قرن الله جل في علاه شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة وأولو العلم. اللهم اجعلنا منهم. روى الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني جبير بن عمرو القرشي، حدثنا أبو سعيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قال: "وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب"؛ ابن كثير. وقوله جل جلاله: ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾؛ أي: بالعدل، قاله ابن عباس. دين البشرية الإسلام: وتشترك آل عمران مع سورة البقرة في عرض هذا الموضوع، لكن آل عمران تفصل فيه وهذا ما سنطالعه في وقفاتنا مع قلب السورة إن شاء الله. يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]. وهذا إخبار وتقرير من الله تعالى أن الدين عند الله هو الإسلام منذ آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، ومن يتخذ دينًا غير الإسلام فلن يقبل منه، قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: "عن قتادة في قوله: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ قال: الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لم يبعث الله رسولًا إلا بالإسلام. ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، والسبب في الاختلاف هو البغي، قال الشوكاني: "في قوله: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ يقول: بغيًا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس"؛ فتح القدير للشوكاني. وقال ابن كثير: "بغى بعضُهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقًّا، ثم قال: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]؛ أي: من جحد بما أنزل الله في كتابه فإن الله سيُجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه"؛ انتهى. والحمد لله رب العالمين. يُتْبَع. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (3) ميسون عبدالرحمن النحلاوي 2- وقفات مع مقدمة السورة رابعًا: التأسيس الأول لمسألة الثبات العقائدي عند المحاججة: بعد أن أخبر الله تعالى أن الدين المقبول عنده هو الإسلام، ولا دين عند الله غيره، وأنه ناسخ لكل ما سبقه من كتب وشرائع جاء بها رسل الله من قبله؛ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، جاءت التوجيهات الإلهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده المسلمين، في كيفية مواجهة من جادل وحاجج جحودًا وكفرًا بهذا الدين: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20]. وينطوي الجواب هنا على أمرين: إعلان الثبات على الدين عند المُحاجَجَة: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾؛ فقد أقررنا أنا ومن معي وشهِدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه. والدعوة إليه بعد المحاججة؛ وتسوقه لنا الآيات بقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20]، فما على الرسول إلا الدعوة وبلاغ هؤلاء المشركين وأهل الكتاب الرسالة، والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، وما ذاك إلا لحكمته ورحمته. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، إلى جميع الخلق؛ روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أهل النار))؛ [انتهى، ابن كثير]. وبعد هذا التوجيه الإلهي تطالعنا الآيات بسردٍ لبعض الصفات التي تتصف بها شريحة من أولئك الجاحدين المستكبرين عن دين الحق، وكأنه جل في علاه يرشدنا إلى نقطة هامة، علينا الأخذ بها عندما نكون في صدد خوض نقاش مع أعداء الدين: اعرف من هو خصمك"، وهنا يخبرنا تعالى عن بعض صفات بني إسرائيل، الذين كانوا، طبعًا، في مقدمة الجاحدين المستكبرين عن قبول رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 21 - 25]. يخبرنا الله تعالى عن هؤلاء القوم، أهلِ الكتاب الذين يحاجُّون الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الرسالة ويرفضون اتباعه، أنهم: كافرون، مكذبون بآيات الله قديمًا وحديثًا، التي بلغَتهم إياها الرسل، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم، وتعاظمًا على الحق واستنكافًا عن اتباعه؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾. قتلة الأنبياء: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، فهم لم يكتفوا بالكفر، بل أردفوه بقتل الأنبياء والصالحين؛ يقول ابن كثير: "قتلوا من قتلوا من النبيين حين جاؤوهم بالنصح والدعوة للعودة إلى الدين القويم، بغير سبب ولا ذنب، إلا لكونهم دعاة حق". مستكبرون: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾، وهذا هو غاية الكِبر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكِبر بَطَرُ الحق، وغمط الناس)). كاذبون مخادعون: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾، يزعمون التمسك بكتابَيهم اللذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دُعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولوا وهم معرضون عنهما. متألُّون على الله، يفترون عليه الكذب: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾، يقسمون العذاب والرحمة على هواهم، لذلك هم يتكبرون ويتجبرون ويستغرقون في المعاصي والآثام؛ يقول ابن كثير: "إنما حملهم وجرَّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادَّعوه لأنفسهم؛ أنهم إنما يُعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يومًا - وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة - ثم قال: ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24]؛أي: غرهم في دينهم؛ أي: ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمِهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أيامًا معدودات، وهم الذين افترَوا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطانًا"؛ [انتهى]. لكن هيهات من الإفلات من المحاسبة والعذاب يوم الحساب: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؟ أين حُجَجُهم وأكاذيبهم يومئذٍ؟ خامسًا: تفرد رب الخلائق بربوبيته وألوهيته، فهو "مالك الملك"، المتفرد في التصرف بخلقه كيف يشاء: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]. وبصفته مالكَ الملك، هو الذي يوزِّع ملكه على عباده، فيؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، هو القادر على أن يجعل الذليل عزيزًا ذا قوة وسلطان، والعزيز ذليلًا، قد تبعثر ملكه وعزه وسلطته، فالخير كله بيده، ولا سلطة لمخلوق أو قدرة على إيجاده أو هِبَتِهِ لأحدٍ من الخلق: ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ سبحانك ربي! وهو الإله المتفرد في تصريف شؤون الكون: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، فالله هو المتصرف بالليل والنهار تصرفًا معجزًا لا تدركه العقول، مهما ادَّعت بلوغها من درجات العلم، وهو الذي يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، وما يكون ذلك بمقدور أحدٍ غيره جل في علاه. يقول ابن كثير: " ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء، وقوله: ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تخرج الحبة من الزرع، والزرع من الحبة، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء، ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين، لِما لك في ذلك من الحكمة والإرادة، والمشيئة والعدل"؛ [انتهى ابن كثير]. وقال القرطبي: "قال ابن عباس وأنس بن مالك: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد مُلك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكفِ محمدًا مكةُ والمدينة حتى طمِع في ملك فارس والروم؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: نزلت دامغةً لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها، قال ابن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وأن عيسى عليه السلام، وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك، فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء من قوله: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، وقوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، فلو كان عيسى إلهًا كان هذا إليه؛ فكان في ذلك اعتبار وآية بيِّنة"؛ [انتهى، القرطبي]. سادسًا. مسألة الولاء والبراء، نهي ووعيد: وسنجد بسطها في مقدمة غزوة أُحد: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 28 - 30]. في هذه الآيات نهي واضح ومغلَّظ عن موالاة الكافرين على حساب المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ أي إن ذمة الله تكون قد بَرِئت منه، فلا هو من حزبه، ولا هو من أوليائه، والعياذ بالله؛ قال ابن كثير: "نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء، يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعَّد على ذلك فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]؛ أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد بَرِئ من الله"؛ [انتهى، ابن كثير]. وقال القرطبي: "قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار، فيتخذوهم أولياء، ومثله: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118]، وهناك يأتي بيان هذا المعنى، ومعنى: ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]؛ أي: فليس من حزب الله، ولا من أوليائه في شيء، ثم استثنى فقال: ﴿ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾، قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جِدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم، قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يُقتل، ولا يأتي مأثمًا، وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل، وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: (إلا أن تتقوا منهم تقية)، وقيل: إن المؤمن إذا كان قائمًا بين الكفار، فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفًا على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم"؛ [انتهى، القرطبي]. وقال الشوكاني في تفسيره: "﴿ لَا يَتَّخِذِ ﴾ فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]، وقوله: ﴿ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ في محل الحال؛ أي: متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالًا أو اشتراكًا، والإشارة بقوله: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ إلى الاتخاذ المدلول عليه بقوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ ﴾، ومعنى قوله: ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال"؛ [انتهى، فتح القدير للشوكاني]. ثم إنه عندما نهى الله عز وجل عن موالاة الكفار واشترط التقية، بيَّن أن تعذر الموالي للكفار بغير عذر مقبول، وتظاهره بغير ما يُبطن، ليس بخافٍ على الله، وفي هذا مزيد من التحذير: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29]؛ فالله يعلم السر وأخفى، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم ما يجول في خواطركم، وما تنطوي عليه صدوركم، لا يخفى عليه شيء من أمر البشر؛ كما قال جل جلاله ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 13، 14]، سبحان مالك الملك! فلا يظنَّنَّ أحد أنه ناجٍ من رقابة الله في أفعاله وأقواله، فهو لو نجح في خداع الناس جميعًا فإن الله لا يُخدع؛ كما قال تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]. ولا يفرحن أحد في موالاته لغير الله ورسوله والمؤمنين، بما جلب به لنفسه من مصالح وراحة دنيوية، فهو سيجد نتائج أعماله حاضرة يوم القيامة، فمن والى في الله وعادى في الله، فسيجد ثوابه، ومن والى أعداء الله وعادى أولياء الله، فسيجد عقابه: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]، ثم قال تعالى مؤكدًا ومهددًا ومتوعدًا: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]؛ أي: يخوفكم عقابه، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30] لمن تاب وآمن وعمل صالحًا. سابعًا. محبة الله وطاعته ورسوله من صلب العقيدة، من تولى عنها فقد كفر: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32]، ولمحبة الله علامات، تخبرنا الآيات أن علامة محبة الله اتباع رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وطاعته، ويفسر ابن كثير هذه الآية بوضوح وجلاء فيقول، رحمه الله: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادَّعى محبة الله، وليس هو على النهج المحمدي، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع شرع الله وهديَ نبيه في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ))؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية؛ فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله: يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم، وما أعظمها من عطايا! ثم قال آمرًا لكل أحد من خاصٍّ وعام: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا ﴾ أي: خالفوا عن أمره ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء - بل المرسلون، بل أولو العزم منهم - في زمانه لما وسِعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 81]"؛ [انتهى، ابن كثير]. يحضرنا هنا قول الإمام شمس الدين أبي عبدالله محمد بن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد): "ومن تأمل في السِّير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علِم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا". ثامنًا: وتختم مقدمة السورة بسرد للأنبياء المصطفَين من الله تعالى، الذي خَتم بهم بنبيه ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]، تذكر الآية أن الله عز وجل اصطفى آدم ونوحًا كفَردَين، وآل إبراهيم وآل عمران كأسرتين، وفي هذا إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحًا بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء، أما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك، والله أعلم. قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة، واصطفى نوحًا، عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانًا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه، يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، وكان انتقامًا غيَّر خارطة البشرية، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام"؛ [ابن كثير]. وفي قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 34]؛ قال القرطبي: "ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين"، وقال الطبري في تفسيره: "يعني: أن دينهم واحد، وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾، إنما معناه: ذرية دين بعضها دين بعض، وكلمتهم واحدة، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، وقال قتادة: قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾؛ أي: في النية والعمل، والإخلاص والتوحيد له". ومع هذه الآية نفتح صفحات قلب السورة، ونبدأ معها بقصة آل عمران. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. يتبع.. |
الساعة الآن : 02:19 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour