ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الحج والعمرة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=75)
-   -   وقفات مع عشر ذي الحجة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=314887)

ابوالوليد المسلم 04-06-2025 03:17 PM

وقفات مع عشر ذي الحجة
 
وقفات مع عشر ذي الحجة

د. عبدالسلام حمود غالب


الوقفة الأولى:
فضل عشر ذي الحجة وعظمتها ومكانتها في الإسلام:
تُعد الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة من أخص الأزمان وأعظمها قدرًا وشأنًا في ميزان الشريعة الإسلامية. إنها ليست مجرد أيام عابرة في تقويم المسلم، بل هي موسم عظيم للطاعات، ومنحة ربانية كريمة تتجلى فيها رحمة الله وفضله على عباده؛ حيث تتضاعف فيها الأجور وتتنوع القربات. إن خصوصية هذه الأيام تتجلى في عدة جوانب إيمانية وتشريعية عميقة، تجعلها محط أنظار وقلوب المؤمنين الصادقين.

لقد أقسم الله تعالى بها في القرآن الكريم بقوله: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، إن قسم الله تعالى بـ "ليالٍ عشر" في كتابه الكريم هو إشارة واضحة وصريحة إلى عظيم فضلها وشرفها، فالله جل جلاله لا يقسم إلا بعظيم، وما أقسم به إلا ليلفت أنظار عباده إلى أهميته وعظمته. وقد أجمع جمهور المفسرين والعلماء على أن هذه الليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة؛ مما يضفي عليها قدسية ومكانة خاصة في قلوب المسلمين. هذا القسم الإلهي ليس مجرد تكريم لهذه الأيام، بل هو دعوة للتأمل في عظمة هذه الأيام وما تحمله من أسرار وبركات، وحث للمؤمنين على اغتنامها بكل ما أوتوا من قوة، فهي فرصة لا تعوض للتزود من الخير والبركة.

لم يقتصر فضلها على القسم الإلهي فحسب، بل ورد في السنة النبوية الشريفة ما يؤكد ذلك ويبرز مكانتها الاستثنائية التي تفوق غيرها من الأيام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني أيام العشر-))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))؛ (صحيح البخاري).

هذا الحديث النبوي الشريف يبين بوضوح أن الأعمال الصالحة في هذه الأيام تفوق في فضلها وأجرها حتى الجهاد في سبيل الله. إن هذه المقارنة بين فضل العمل الصالح في العشر وفضل الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام وأعلى مراتبه، لهي دلالة عظيمة على عظم الأجر والثواب في هذه الأيام؛ فالجهاد يتطلب تضحية بالنفس والمال، ومواجهة للأعداء، ومع ذلك، فإن العمل الصالح في هذه الأيام يفوقه أجرًا، إلا في حالة واحدة وهي التضحية بالنفس والمال في سبيل الله دون رجعة؛ أي: الشهادة في سبيل الله. هذا يؤكد أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأيام فرصة لا تعوض للمسلمين، حتى لمن لا يستطيعون الجهاد في ساحات القتال، لينالوا أجرًا عظيمًا بعمل يسير قد يكون متاحًا لهم في بيوتهم وأعمالهم؛ مثل: الصلاة والصيام والذكر والصدقة. إنها دعوة مفتوحة لكل مسلم ومسلمة للاجتهاد في الطاعات، بغض النظر عن ظروفهم، لينالوا هذا الفضل العظيم وينالوا رضا الله ومغفرته.

إن اجتماع أنواع العبادات في هذه الأيام، من صيام، وصلاة، وصدقة، وذكر، وتكبير، وقراءة للقرآن، ووصولًا إلى فريضة الحج لبيت الله الحرام التي يختص بها البعض، يجعلها موسمًا عظيمًا للطاعات ومحطة إيمانية للتزود بالتقوى والقرب من الله، ففيها يكتمل الدين وتتم النعمة، كما في يوم عرفة الذي أنزل فيه قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. إنها دعوة إلهية للمسلمين لاغتنام هذه الأوقات المباركة، والاجتهاد فيها بالطاعات، لعلهم ينالون رضوان الله ومغفرته، ويعتقون من النار، ويحققون تزكية للنفوس وسموًّا للأرواح.

هذه الأيام هي بمثابة محطة وقود روحية، ينبغي للمؤمن أن يتوقف عندها ليمتلئ بالخير والبركة، ويستعد لما بعدها من أيام بحياة قلبية أكثر نضجًا وروحانية، اغتنامها يمثل استثمارًا حقيقيًّا في الآخرة، وسببًا لراحة البال والسكينة في الدنيا.

الوقفة الثانية:
البرنامج اليومي المقترح لعشر ذي الحجة: دليل عملي للتقرب إلى الله:
هذا برنامج مقترح يمكنك تكييفه ليناسب ظروفك اليومية. المرونة في التطبيق هي المفتاح، ولكن الأهم هو المداومة والإخلاص لله تعالى في كل عمل تقوم به. تذكر دائمًا أن "القليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع"، فليس المطلوب إجهاد النفس بما لا تطيق ثم الانقطاع، بل المطلوب هو الاستمرارية والثبات على الطاعة. اجعل هذه الأيام بمثابة خلوة روحية عميقة، تنفصل فيها عن صخب الدنيا وضجيجها، لتتصل بخالقك اتصالًا حقيقيًّا، وتجدد عهدك معه، وتستشعر قربه منك في كل لحظة. إنها فرصة لتطهير القلب، وتزكية الروح، وتصحيح المسار، والانطلاق نحو حياة أفضل وأكثر قربًا من الله. هذه الخلوة الروحية ستنعكس إيجابًا على سلامك الداخلي، وعلى علاقاتك بمن حولك، وعلى نظرتك للحياة بأسرها، وتزيد من بركة وقتك ورزقك.

1. الصلاة والعبادات الأساسية: مفتاح الصلة بالله:
الصلاة هي عمود الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا يصح إسلام المرء إلا بها، وفي هذه الأيام المباركة يزداد فضل المحافظة عليها والاجتهاد فيها، فهي مفتاح القرب من الله، والسكينة القلبية، ومصدر الطمأنينة للنفس:
المحافظة على الصلوات الخمس في وقتها:احرص أشد الحرص على أداء كل صلاة في أول وقتها، فهي أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان به، وليكن ذلك طوال حياتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الأعمال الصلاة لوقتها))؛ (صحيح مسلم).

للرجال، اجتهد في أدائها جماعة في المسجد؛ ففيها أجر عظيم وتزيد من خشوعك وتواصلك مع إخوانك المسلمين، وتعينك على الثبات على الطاعة، وتطهير النفس من الشوائب. وللنساء، احرصن على أدائها في أول وقتها في البيت مع الخشوع والتدبر، ويمكنهن كذلك أن يصلين جماعة مع أفراد الأسرة؛ مما يعزز الروحانية الأسرية.

حاول أن تجعل قلبك حاضرًا في الصلاة، متفكرًا في معاني الأذكار والآيات التي تتلوها، مستشعرًا وقوفك بين يدي الله تعالى، وكأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا الاستشعار يرفع من جودة صلاتك، ويجعلها نورًا لك في الدنيا والآخرة.

السنن الرواتب: لا تفرط في أداء السنن القبلية والبعدية للصلوات المفروضة سواء في هذه الأيام أو غيرها، وهي اثنتا عشرة ركعة يوميًّا: أربع ركعات قبل صلاة الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر. هذه السنن تعوض أي نقص قد يحدث في الصلوات المفروضة، وترفع درجات العبد عند ربه، وتبني له بيتًا في الجنة، كما ورد في الحديث الشريف: ((مَنْ صلَّى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعًا، بنى الله له بيتًا في الجنة))؛ (صحيح مسلم).

إنها استثمار عظيم لآخرتك بأقل جهد، وتزيد من رصيدك من الحسنات في هذه الأيام المباركة.

صلاة الضحى: استغل وقت الضحى المبارك لأداء صلاة الضحى، وهي صلاة الأوابين تبدأ بعد شروق الشمس بربع ساعة تقريبًا، وتمتد إلى قبل صلاة الظهر. أقلها ركعتان وأكثرها ثماني ركعات أو اثنتا عشرة ركعة. فيها أجر عظيم وتعد صدقة عن مفاصل الجسد، كما ورد في الحديث: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى))؛ (صحيح مسلم). إنها تفتح أبواب الرزق وتجلب البركة في اليوم.

قيام الليل: ولو بركعتين خفيفتين قبل الفجر، فهي من أعظم القربات في هذه الأيام المباركة. قم الليل ولو يسيرًا، ناجِ ربَّك، ادعه بما شئت من خير الدنيا والآخرة، استغفره من ذنوبك. ففي الثلث الأخير من الليل ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، ويقول: ((هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟))؛ (متفق عليه). هذا الوقت هو وقت إجابة الدعاء، ووقت الخلوة مع الله حيث يصفو القلب وتزكو الروح. اختم قيامك بصلاة الوتر، فهي خاتمة صلاة الليل، وهي سنة مؤكدة.

2. تلاوة القرآن الكريم: ربيع القلوب ونور الدروب:
القرآن نور وهدى وشفاء لما في الصدور، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وفي هذه الأيام المباركة، اجعل له نصيبًا وافرًا من وقتك؛ فهو ربيع القلوب، ومصدر الطمأنينة، ومفتاح السعادة في الدارين:
ورد يومي من القرآن: خصص وقتًا ثابتًا لا يتغير لتلاوة جزء أو أكثر من القرآن الكريم يوميًّا. اجعلها عادة لا تتركها، كوجبة روحية لا تستغني عنها، تمامًا كوجباتك اليومية، حتى لو كان جزءًا يسيرًا، فالمهم هو المداومة والاتصال بكتاب الله. تلاوة القرآن تجلب السكينة والبركة للبيت وأهله، وتضيء القلوب، وتطرد الشياطين، وتزيد من الإيمان. اجعل لك مصحفًا خاصًّا بهذه الأيام، أو استخدم تطبيقًا للقرآن على هاتفك لتسهيل التلاوة في أي مكان.

حفظ ومراجعة: إن كنت من حَفَظة القرآن، فاستغل هذه الأيام لمراجعة ما حفظت وتثبيته، فمراجعة القرآن من أفضل الأعمال وأعظمها أجرًا، و((تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من الإبل في عقلها))؛ (صحيح مسلم). وإن لم تكن كذلك، فحاول حفظ بعض السور القصيرة أو الآيات التي تتردد على مسامعك، أو على الأقل اقرأها بتدبر. يمكنك تخصيص وقت محدد يوميًّا للحفظ أو المراجعة، وليكن ذلك في وقت السحر أو بعد صلاة الفجر؛ حيث يكون الذهن صافيًا.

التدبر: لا تكتفِ بالتلاوة المجردة دون فهم، بل حاول فهم معاني الآيات وتدبرها بعمق. يمكنك الاستعانة بتفسير مُيسَّر مثل: تفسير السعدي، أو المختصر في التفسير، أو الاستماع إلى شروحات صوتية للآيات من علماء ثقات. توقف عند الآيات التي تحرك قلبك، وفكر في معناها، وكيف يمكنك تطبيقها في حياتك اليومية. اجعل القرآن منهج حياة لا مجرد تلاوة، فهو دستورك الذي ينظم حياتك كلها، ويرشدك إلى الصراط المستقيم. تدبر القرآن يفتح لك آفاقًا جديدة في فهم الدين ويقوي إيمانك.

3. الأذكار والتكبير: غذاء الروح وقوة الإيمان:
الذكر هو حياة القلوب، وبه تطمئن النفوس وتستنير الأرواح، وهو من أيسر العبادات وأعظمها أجرًا، وفي هذه الأيام يزداد فضل الذكر والتكبير، لما لهما من أثر عظيم في تعظيم الله وشكره، وتطهير اللسان من اللغو:
التكبير المطلق والمقيد:
التكبير المطلق: أكثر من التكبير في كل وقت وحين، في البيت، السوق، السيارة، العمل، في أي مكان وزمان. ارفع صوتك به إذا كنت في مكان لا يسبب إزعاجًا للآخرين، أو قلها سرًّا بينك وبين نفسك بما تسمع به أذنك.

صيغته المشهورة: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد". هذا التكبير يعظم الله ويشعر العبد بعظمة الخالق في هذه الأيام التي يتقرب فيها الناس إليه بالنسك والعبادات، ويملأ القلب هيبة لله وخشية منه. إنه إعلان لعظمة الله في كل مكان وزمان.

التكبير المقيد: يبدأ التكبير المقيد من فجر يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة) ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق (اليوم الثالث عشر من ذي الحجة)؛ أي: بعد كل صلاة مفروضة مباشرة. وهو سنة مؤكدة ينبغي الحرص عليها، وتذكير للمسلمين بعظمة هذه الأيام.

الإكثار من ذكر الله: اجعل لسانك رطبًا بذكر الله في كل أحوالك، عند القيام والقعود، وفي العمل والراحة. أكثر من قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (الباقيات الصالحات)، فهذه الكلمات أحب الكلام إلى الله، وتثقل الميزان يوم القيامة، وتمحو الذنوب، وتغرس لك نخلًا في الجنة. يمكنك تخصيص عدد معين لكل ذكر، أو ترديدها بلا عدد في أوقات فراغك، أو أثناء المشي أو الانتظار.

الاستغفار: أكثر من قول: "أستغفر الله العظيم وأتوب إليه" بنية صادقة وعزم على عدم العودة للذنب. فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. الاستغفار يمحو الذنوب، ويجلب الرزق، ويفتح أبواب الخير والبركة، ويزيل الهموم والغموم، ويجعل العبد قريبًا من ربه. اجعله جزءًا من روتينك اليومي، خاصة بعد الذنوب أو التقصير.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أكثر من قول: "اللهم صل وسلم على نبينا محمد"؛ الصلاة على النبي ترفع الدرجات، وتحط الخطايا، وتجلب شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وتزيد من محبته في قلبك، وتجعل دعاءك مستجابًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا))؛ (صحيح مسلم).

4. الصيام: تزكية للنفس وتكفير للذنوب:
الصيام من أفضل القربات إلى الله، وهو عبادة تزكي النفس وتهذبها، وتعودها على الصبر والتحمل، وله فضل عظيم في هذه الأيام المباركة:
صيام الأيام الثمانية الأولى: إن استطعت، فصيامها مستحب وله أجر عظيم، فكل عمل صالح في هذه الأيام مضاعف الأجر. الصيام يزكي النفس ويرفع الدرجات، ويقرب العبد من ربه، حتى لو لم تستطع صيام كل الأيام، فصم ما تيسر لك منها، ولو يومًا أو يومين، فكل يوم تصومه في هذه العشر له فضل عظيم. اجعل نيتك خالصة لله، واستشعر الأجر العظيم.

صيام يوم عرفة (اليوم التاسع): هذا أهم يوم في العشر، وهو يوم مغفرة الذنوب العظيمة، ويوم الوقفة الكبرى للحجاج. صيامه يكفر ذنوب سنتين (السنة الماضية والسنة القادمة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده))؛ (صحيح مسلم). لا تفوت هذه الفرصة العظيمة، فهو يوم عتق من النار، ويوم مباهاة الله بعباده، ويوم يستجاب فيه الدعاء. اجتهد فيه بالصيام والدعاء والذكر، وابتعد عن كل ما يشغلك عن ذكر الله. تذكر أن هذا اليوم هو فرصة ذهبية لمحو الذنوب والبدء بصفحة جديدة مع الله.

5. الصدقة: برهان الإيمان ومفتاح البركة:
الصدقة برهان على صدق الإيمان، وهي دليل على محبة الله للعبد، وفي هذه الأيام المباركة، يزداد أجرها وثوابها أضعافًا مضاعفة، وتجلب البركة في المال والعمر:
الصدقة اليومية: خصص مبلغًا ولو يسيرًا تتصدَّق به يوميًّا، فالصدقة في هذه الأيام مضاعفة الأجر. يمكنك وضع صندوق صغير في البيت للصدقة اليومية، وعلِّم أبناءك وأهل بيتك ذلك، لغرس حب العطاء في نفوسهم. أو التصدق عبر التطبيقات الإلكترونية الموثوقة. تذكر أن ((أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم))، وأن ((ما نقص مال من صدقة)).

البحث عن المحتاجين: ابحث عن الأيتام، الفقراء، الأرامل، المساكين في محيطك، أو شارك في مشاريع خيرية موثوقة تخدم هذه الفئات. تفقد أحوال جيرانك وأقاربك المحتاجين، فحال الناس وأحوالهم تتغير، وقد يكون أقرب الناس إليك في حاجة. بادر بالمساعدة ولو بأقل القليل، فالقليل عند المحتاج كثير.

سقيا الماء، إطعام الطعام: من أفضل الصدقات وأحبها إلى الله، خاصة في الأماكن التي يندر فيها الماء أو يشتد فيها الجوع أو الحر، إطعام الطعام للمساكين أو حتى للعمال المحتاجين له أجر عظيم، وقد يكون سببًا لدخول الجنة. بادر في ذلك وادعُ غيرك للمشاركة، وكن قدوة في العطاء.

الصدقة الجارية: إن استطعت، فساهم في بناء مسجد، حفر بئر، طباعة مصاحف، كفالة طالب علم، أو أي مشروع له أثر مستمر بعد وفاتك، فثوابها يستمر ما دام نفعها موجودًا. هذه الصدقات هي استثمار لآخرتك، وتظل حسناتها تجري لك حتى بعد مماتك.

6. الإكثار من الدعاء: سلاح المؤمن وعبادة الأنبياء:
الدعاء هو مخ العبادة، وهو صلة العبد بربه، وهو السلاح الذي لا يخطئ، وفي هذه الأيام المباركة تكثر أوقات الإجابة، وتفتح أبواب السماء، ويستجيب الله لدعاء عباده المخلصين:
الدعاء في أوقات الإجابة: اجتهد في الدعاء في الأوقات التي يرجى فيها الإجابة: بين الأذان والإقامة، في السجود، آخر ساعة من يوم الجمعة، عند نزول المطر، عند السفر، وعند الإفطار للصائم. كن ملحًّا في الدعاء، واثقًا بالإجابة، ولا تيأس مهما طال انتظارك، فالله يحب العبد اللحوح.

دعاء يوم عرفة: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، فاجتهد فيه بالدعاء لنفسك، ولأهلك، وأولادك، ووالديك، وأصحابك، والمسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها، وللخير كله في الدنيا والآخرة. أكثر من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، فهذا هو خير ما قاله النبيون في يوم عرفة، وهو دعاء جامع مانع.

الدعاء بخيرَي الدنيا والآخرة: لا تقتصر على دعاء معين، بل ادعُ الله بكل ما في قلبك من خير، وبكل ما تحتاج إليه في دينك ودنياك وآخرتك. ادعُ بالهداية، بالرزق الحلال، بالصحة والعافية، بالزوج الصالح، بالذرية الصالحة، بالنجاح في الدنيا والآخرة، وبالثبات على الدين حتى الممات. كن على يقين بأن الله كريم لا يردُّ سائلًا.

7. الأعمال الصالحة المتنوعة: استثمار كل لحظة في الخير:
هذه الأيام فرصة لتنويع الطاعات والاجتهاد في كل أنواع الخير، فالعمل الصالح فيها محبوب إلى الله، وكل حسنة فيها مضاعفة:
بر الوالدين وصلة الأرحام: الإحسان إليهما بالقول والفعل، زيارتهما، السؤال عنهما، تلبية حاجاتهما، والدعاء لهما بظهر الغيب، وصلة الأرحام تزكي العمر وتزيد في الرزق، وتصل ما بينك وبين الله، كما ورد في الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه))؛ (متفق عليه).

الاهتمام بالجيران: تفقد أحوالهم، السؤال عنهم، مساعدتهم عند الحاجة، كف الأذى عنهم، خاصه إن كانوا محتاجين أو مرضى. تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))؛ (متفق عليه).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما يتناسب مع قدرتك ومكانتك، دون إفراط أو تفريط، مع مراعاة الأولويات.

إماطة الأذى عن الطريق: صدقة عظيمة، تدل على رقي الإيمان وحب الخير للمسلمين، وهي من شعب الإيمان.

التبسُّم في وجه أخيك: صدقة، فالبشاشة وحسن الخلق من خصال المؤمن التي يحبها الله ورسوله، وتدخل السرور على القلوب.

زيارة المرضى، اتباع الجنائز: فيها أجر عظيم وتذكير بالآخرة، وتثبيت للقلب، وفيها مواساة لأهل الميت وتخفيف عنهم.

قضاء حوائج الناس: السعي في قضاء حوائج إخوانك المسلمين، سواء بالمال أو الجاه أو المشورة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

التسامح والعفو عن الناس: طهِّر قلبك من الأحقاد والضغائن، وسامح من أساء إليك، واطلب العفو والمغفرة من الله، فالعفو من صفات المتقين، وسبب لمغفرة الله لك.

كفَّ اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب: احرص على حفظ لسانك من كل ما يغضب الله، فاللسان هو مفتاح الخير والشر، وبه يدخل العبد الجنة أو النار. تذكر أن "أكثر ما يدخل الناس النار: الفم، والفرج".

حفظ الجوارح: البصر، السمع، اللسان، اليد، القدم، عن كل ما يغضب الله. اجعلها طائعة لله في هذه الأيام المباركة وفي غيرها طوال حياتك، فكل جارحة ستشهد عليك يوم القيامة.

طلب العلم الشرعي: ولو بالاستماع إلى دروس ومحاضرات نافعة عن فضل هذه الأيام أو عن أحكام الأضحية أو غيرها من أمور الدين، فطلب العلم فريضة على كل مسلم.

حسن الخلق: اجمع بين كثرة العبادة وحسن الخلق، فخير الناس أحسنهم خلقًا، وأقربهم مجلسًا من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحاسنهم أخلاقًا.

الوقفة الثالثة:
الأيام الخاصة في العشر: محطات إيمانية كبرى:
يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة): يوم العتق من النار:
هذا اليوم هو جوهرة العشر، وهو يوم الوقفة الكبرى للحجاج على صعيد عرفات، ويوم مغفرة الذنوب لغير الحجاج، وهو يوم عظيم عند الله، يتجلى فيه كرم الله وفضله على عباده:
الصيام: كما ذكرنا، صيامه يكفر ذنوب سنتين (السنة الماضية والسنة القادمة)، وهي فرصة لا تعوض للمغفرة الشاملة. اجعل نيتك خالصة لله، واستشعر أنك بصيامك هذا اليوم تمحو ذنوبًا عظيمة.

الإكثار من الدعاء: من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وخاصة بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس. اجعل هذا الوقت مخصصًا للدعاء بقلب خاشع ولسان ذاكر، وارفع يديك إلى السماء، وألحَّ في الدعاء، وكن موقنًا بالإجابة، فدعاء يوم عرفة خير الدعاء.

التكبير المطلق: استمر في التكبير المطلق في كل وقت وحين، مع استشعار عظمة الله، وإعلان توحيده.

قراءة القرآن والذكر: أكثر من تلاوة القرآن والأذكار المتنوعة، وحاول أن تكون في خلوة مع ربك، بعيدًا عن أي مشتتات. اجعل هذا اليوم يومًا للعبادة الخالصة والاتصال العميق بالله.

يوم النحر (اليوم العاشر من ذي الحجة - عيد الأضحى): يوم الأضحية والفرح:
يوم النحر هو أعظم الأيام عند الله بعد يوم عرفة، وهو يوم العيد الأكبر للمسلمين، وفيه شعائر عظيمة، وهو يوم الأكل والشرب والذكر:
صلاة العيد: الحرص على أدائها في المصلى، والخروج إليها في أحسن هيئة، مع التكبير في الطريق إليها، فهي شعيرة عظيمة تجمع المسلمين على كلمة الحق.

الأضحية: لمن استطاع، وهي سنة مؤكدة، وفيها تقرب إلى الله وإطعام للمساكين والفقراء، وتوسعة على الأهل والأحباب. احرص على توزيعها كما أمر الشرع؛ ثلث لك، وثلث لأقاربك وجيرانك، وثلث للفقراء والمساكين.

التكبير المقيد: يبدأ التكبير المقيد بعد صلاة فجر يوم عرفة ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق (اليوم الثالث عشر)؛ أي: بعد كل صلاة مفروضة. وهو تذكير دائم بعظمة الله في أيام العيد.

التهنئة بالعيد وصلة الأرحام والزيارات: تبادل التهاني مع الأهل والأصدقاء، وزيارة الأقارب لتقوية الروابط الأسرية والعائلية، ونشر المحبة والألفة.

إظهار الفرح والسرور: العيد شعيرة من شعائر الله، فأظهر الفرح والبهجة به، وأدخل السرور على أهلك وأولادك، والبس الجديد، وتناول الطعام الطيب، وشارك الفرحة مع الجميع.

وحتى يكون البرنامج عباديًّا مثمرًا ومستمرًّا تنبه لما يلي:
لتحقيق أقصى استفادة من هذه الأيام المباركة، وتجنب أي تقصير، ضع هذه النصائح القيمة في اعتبارك، فهي مفتاح النجاح في اغتنام هذه الفرصة العظيمة:
النية الصادقة: قبل البدء بأي عمل، جدد نيتك واجعلها خالصة لوجه الله تعالى وحده. فصلاح العمل وقبوله مرهون بصدق النية وإخلاصها، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم. استشعر أنك تفعل ذلك ابتغاء مرضاته، لا لمدح الناس أو رياء.

التخطيط: ضع جدولًا يوميًّا للعبادات والطاعات يناسب ظروفك. يمكنك كتابة قائمة بالمهام الروحية لكل يوم، وتحديد أوقات معينة لكل عبادة (مثلًا: بعد الفجر للقرآن، قبل الظهر للضحى، بعد العصر للدعاء). هذا يساعدك على تنظيم وقتك وعدم تضييع هذه الأيام الثمينة في الغفلة أو الانشغال بالدنيا. التخطيط الجيد يضمن لك الاستفادة القصوى من كل لحظة.

الاستمرارية: الأهم ليس الكم الهائل من العبادات في يوم واحد ثم الانقطاع، بل الاستمرارية والمداومة على العمل الصالح ولو كان قليلًا. تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإنْ قلَّ)). فالمداومة على الطاعة تورث الثبات وتزيد البركة في العمر والرزق، وتجعل العبادة جزءًا لا يتجزأ من حياتك.

التعاون الأسري: شجِّع أفراد أسرتك على المشاركة في هذا البرنامج. اجعلوا العبادة جزءًا من حياتكم اليومية المشتركة. يمكنكم تخصيص وقت جماعي لقراءة القرآن، أو الذكر، أو الاستماع لدروس دينية، أو التكبير الجماعي. هذا يعزز الروابط الأسرية ويغرس حب الطاعة في نفوس الصغار، ويجعل البيت عامرًا بذكر الله.

الاستغفار من التقصير: إذا قصرت في يوم أو شعرت بالفتور أو ارتكبت ذنبًا، فلا تيأس من رحمة الله الواسعة. استغفر الله بصدق وجدِّد العزم على الاستمرار والعودة إلى الطاعة. باب التوبة مفتوح دائمًا، والله يحب التوابين، ويغفر الذنوب جميعًا.

الدعاء بالقبول: بعد كل عمل صالح تقوم به، ادعُ الله أن يتقبَّله منك، فالله تعالى هو الموفق وهو القابل للأعمال، فكم من عمل عظيم لم يقبل، وكم من عمل يسير قبل بفضل الله ورحمته. كن متواضعًا في دعائك، معلقًا قلبك بالله وحده.

نسأل الله أن يبلغنا هذه الأيام المباركة، وأن يعيننا على اغتنامها في طاعته، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا من المقبولين الفائزين في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.





ابوالوليد المسلم 05-06-2025 01:39 PM

رد: وقفات مع عشر ذي الحجة
 
وقفات مع عشر ذي الحجة

د. عبدالسلام حمود غالب



الوقفة الثانية:
البرنامج اليومي المقترح لعشر ذي الحجة: دليل عملي للتقرب إلى الله:
هذا برنامج مقترح يُمكنك تكييفه ليناسب ظروفك اليومية، المرونة في التطبيق هي المفتاح، ولكن الأهم هو المداومة والإخلاص لله تعالى في كل عمل تقوم به، تذكر دائمًا أن "القليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع"، فليس المطلوب إجهاد النفس بما لا تطيق ثم الانقطاع، بل المطلوب هو الاستمرارية والثبات على الطاعة.

اجعل هذه الأيام بمنزلة خَلوة رُوحية عميقة، تنفصل فيها عن صخب الدنيا وضجيجها، لتتصل بخالقك اتصالًا حقيقيًّا، وتجدِّد عهدك معه، وتستشعر قربه منك في كل لحظة، إنها فرصة لتطهير القلب، وتزكية الروح، وتصحيح المسار، والانطلاق نحو حياة أفضل وأكثر قربًا من الله، هذه الخلوة الروحية ستنعكس إيجابًا على سلامك الداخلي، وعلى علاقاتك بمن حولك، وعلى نظرتك للحياة بأسرها، وتزيد من بركة وقتك ورزقك.

1- الصلاة والعبادات الأساسية: مفتاح الصلة بالله:
الصلاة هي عمود الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا يصح إسلام المرء إلا بها، وفي هذه الأيام المباركة يزداد فضل المحافظة عليها والاجتهاد فيها، فهي مفتاح القرب من الله، والسكينة القلبية، ومصدر الطمأنينة للنفس.

المحافظة على الصلوات الخمس في وقتها: احرِص أشد الحرص على أداء كل صلاة في أول وقتها، فهي أحب الأعمال إلى الله بعد الإيمان به، وليكن ذلك طول حياتك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال الصلاة لوقتها"؛ (صحيح مسلم).

أقول للرجل: اجتهد في أدائها جماعة في المسجد، ففيها أجرٌ عظيم، وتزيد من خشوعك وتواصلك مع إخوانك المسلمين، وتعينك على الثبات على الطاعة، وتطهير النفس من الشوائب.

وأقول للنساء: احرصنَ على أدائها في أول وقتها في البيت مع الخشوع والتدبر، ويُمكنهنَّ كذلك أن يُصلين جماعةً مع أفراد الأسرة؛ مما يعزز الروحانية الأسرية.

حاول أن تجعل قلبك حاضرًا في الصلاة، متفكرًا في معاني الأذكار والآيات التي تتلوها، مستشعرًا وقوفك بين يدي الله تعالى، وكأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذا الاستشعار يرفع من جودة صلاتك ويجعلها نورًا لك في الدنيا والآخرة.

السنن الرواتب: لا تفرِّط في أداء السنن القبلية والبعدية للصلوات المفروضة، سواء في هذه الأيام أو غيرها، وهي اثنتا عشرة ركعة يوميًّا: أربع ركعات قبل صلاة الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد صلاة المغرب، وركعتان بعد صلاة العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، هذه السنن تعوِّض أي نقص قد يحدث في الصلوات المفروضة، وترفع درجات العبد عند ربه، وتبني له بيتًا في الجنة، كما ورد في الحديث الشريف: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعًا، بنى الله له بيتًا في الجنة"؛ (صحيح مسلم)؛ إنها استثمار عظيم لآخرتك بأقل جهد، وتزيد من رصيدك من الحسنات في هذه الأيام المباركة.

صلاة الضحى: استغلَّ وقت الضحى المبارك لأداء صلاة الضحى، وهي صلاة الأوَّابين، تبدأ بعد شروق الشمس بربع ساعة تقريبًا، وتمتد إلى قبل صلاة الظهر، أقلها ركعتان وأكثرها ثماني ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، فيها أجر عظيم، وتُعد صدقة عن مفاصل الجسد؛ كما ورد في الحديث: "يُصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى"؛ (صحيح مسلم)؛ إنها تفتح أبواب الرزق وتجلب البركة في اليوم.

قيام الليل: ولو بركعتين خفيفتين قبل الفجر، فهي من أعظم القربات في هذه الأيام المباركة، قُم الليل ولو يسيرًا، ناجِ ربَّك، ادْعُه بما شئت من خير الدنيا والآخرة، استغفره من ذنوبك، ففي الثلث الأخير من الليل ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، ويقول: "هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟"؛ (متفق عليه).

هذا الوقت هو وقت إجابة الدعاء، ووقت الخلوة مع الله؛ حيث يصفو القلب وتزكو الروح، اختم قيامك بصلاة الوتر، فهي خاتمة صلاة الليل، وهي سنة مؤكَّدة.

2- تلاوة القرآن الكريم: ربيع القلوب ونور الدروب:
القرآن نور وهدى وشفاء لما في الصدور، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي هذه الأيام المباركة اجعل له نصيبًا وافرًا من وقتك، فهو ربيع القلوب، ومصدر الطمأنينة، ومفتاح السعادة في الدارين.

ورد يومي من القرآن: خصص وقتًا ثابتًا لا يتغير لتلاوة جزء أو أكثر من القرآن الكريم يوميًّا. اجعلها عادة لا تتركها، كأنها وجبة روحية لا تستغني عنها، تمامًا كوجباتك اليومية، حتى لو كان جزءًا يسيرًا، فالمهم هو المداومة والاتصال بكتاب الله، فتلاوة القرآن تجلب السكينة والبركة للبيت وأهله، وتُضيء القلوب، وتطرد الشياطين، وتزيد من الإيمان، فاجعل لك مصحفًا خاصًّا بهذه الأيام، أو استخدم تطبيقًا للقرآن على هاتفك لتسهيل التلاوة في أي مكان.

حفظ ومراجعة: إن كنت من حَفَظَةِ القرآن، استغل هذه الأيام لمراجعة ما حفظت وتثبيته، فمراجعة القرآن من أفضل الأعمال وأعظمها أجرًا، و"تعاهَدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تفصيًّا من الإبل في عُقلها"؛ (صحيح مسلم)، وإن لم تكن كذلك، فحاول حفظ بعض السور القصيرة أو الآيات التي تتردد على مسامعك، أو على الأقل اقرأها بتدبُّر، يمكنك تخصيص وقت محدد يوميًّا للحفظ أو المراجعة، وليكن ذلك في وقت السحر أو بعد صلاة الفجر؛ حيث يكون الذهن صافيًا.

التدبر: لا تكتفِ بالتلاوة المجردة دون فَهْم، بل حاوِل فَهْم معاني الآيات وتدبَّرها بعمق، يُمكنك الاستعانة بتفسير ميسر؛ مثل: تفسير السعدي أو المختصر في التفسير، أو الاستماع إلى شروحات صوتية للآيات من علماء ثقات، توقف عند الآيات التي تحرِّك قلبك، وفكِّر في معناها، وكيف يُمكنك تطبيقها في حياتك اليومية، اجعل القرآن منهج حياة لا مجرَّد تلاوة، فهو دستورك الذي ينظِّم حياتك كلها، ويرشدك إلى الصراط المستقيم، تدبَّر القرآن يفتح لك آفاقًا جديدة في فَهْم الدين ويقوِّي إيمانك.

3-الأذكار والتكبير: غذاء الروح وقوة الإيمان:
الذكر هو حياة القلوب، وبه تطمئن النفوس وتستنير الأرواح، وهو من أيسر العبادات وأعظمها أجرًا، وفي هذه الأيام يزداد فضل الذكر والتكبير، لِما لهما من أثرٍ عظيم في تعظيم الله وشكره، وتطهير اللسان من اللغو:
التكبير المطلق والمقيد:
التكبير المطلق: أكثِر من التكبير في كل وقت وحين، في البيت، السوق، السيارة، العمل، في أي مكان وزمان، ارفع صوتك به إذا كنت في مكان لا يسبب إزعاجًا للآخرين، أو قُلْه سرًّا بينك وبين نفسك بما تسمع به أذنك، صيغته المشهورة: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد"، هذا التكبير يعظِّم الله ويشعر العبد بعظمة الخالق في هذه الأيام التي يتقرب فيها الناس إليه بالنسك والعبادات، ويملأ القلب هيبةً لله وخشية منه، إنه إعلان لعظمة الله في كل مكان وزمان.

التكبير المقيد: يبدأ التكبير المقيد من فجر يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة)، ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق (اليوم الثالث عشر من ذي الحجة)؛ أي: بعد كل صلاة مفروضة مباشرة، وهو سنة مؤكدة ينبغي الحرص عليها، وتذكير للمسلمين بعظمة هذه الأيام.

الإكثار من ذكر الله: اجعل لسانك رطبًا بذكر الله في كل أحوالك، عند القيام والقعود، وفي العمل والراحة، أكثِر من قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، (الباقيات الصالحات)، فهذه الكلمات أحب الكلام إلى الله، وتثقل الميزان يوم القيامة، وتَمحو الذنوب، وتغرس لك نخلًا في الجنة، يُمكنك تخصيص عددٍ معين لكل ذكر، أو ترديدها بلا عدد في أوقات فراغك، أو أثناء المشي أو الانتظار.

الاستغفار: أكثِر من قول: "أستغفر الله العظيم وأتوب إليه" بنية صادقة وعزم على عدم العودة للذنب، فكل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون، والاستغفار يمحو الذنوب، ويجلب الرزق، ويفتح أبواب الخير والبركة، ويُزيل الهموم والغموم، ويجعل العبد قريبًا من ربه، فاجعله جزءًا من حياتك اليومية، خاصة بعد الذنوب أو التقصير.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أكثر من قول: "اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد": الصلاة على النبي ترفع الدرجات، وتحط الخطايا، وتجلب شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وتزيد من محبته في قلبك، وتجعل دعاءك مستجابًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليَّ صلاةً، صلى الله عليه بها عشرًا"؛ (صحيح مسلم).

4- الصيام: تزكية للنفس وتكفير للذنوب:
الصيام من أفضل القربات إلى الله، وهو عبادة تزكي النفس وتُهذبها، وتعوِّدها على الصبر والتحمل، وله فضل عظيم في هذه الأيام المباركة:
صيام الأيام الثمانية الأولى: إن استطعت، فصيامها مستحبٌّ وله أجر عظيم، فكل عمل صالح في هذه الأيام مضاعف الأجر، الصيام يزكي النفس ويرفع الدرجات، ويقرب العبد من ربه، حتى لو لم تستطع صيام كل الأيام، فصُمْ ما تيسَّر لك منها، ولو يومًا أو يومين، فكل يوم تصومه في هذه العشر له فضل عظيم، اجعل نيتك خالصة لله، واستشعر الأجر العظيم.

صيام يوم عرفة (اليوم التاسع): هذا أهم يوم في العشر، وهو يوم مغفرة الذنوب العظيمة، ويوم الوقفة الكبرى للحجاج، صيامه يكفِّر ذنوب سنتين (السنة الماضية والسنة القادمة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده"؛ (صحيح مسلم)، فلا تفوِّت هذه الفرصة العظيمة، فهو يوم عتق من النار، ويوم مباهاة الله بعباده، ويوم يستجاب فيه الدعاء، اجتهد فيه بالصيام والدعاء والذكر، وابتعِد عن كل ما يشغلك عن ذكر الله، تذكَّر أن هذا اليوم هو فرصة ذهبية لمحو الذنوب والبدء بصفحة جديدة مع الله.

5- الصدقة: برهان الإيمان ومفتاح البركة:
الصدقة برهان على صدق الإيمان، وهي دليلٌ على محبة الله للعبد، وفي هذه الأيام المباركة يزداد أجرها وثوابها أضعافًا مضاعفة، وتَجلب البركة في المال والعمر:
الصدقة اليومية: خصِّص مبلغًا ولو يسيرًا تتصدق به يوميًّا، فالصدقة في هذه الأيام مضاعفة الأجر، يُمكنك وضع صندوق صغير في البيت للصدقة اليومية، وعلِّم أبناءَك وأهل بيتك ذلك، لغرس حبِّ العطاء في نفوسهم، أو التصدق عبر التطبيقات الإلكترونية الموثوقة، تذكر أن "أحب الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلم"، وأن "ما نقص مال من صدقة".

البحث عن المحتاجين: ابحث عن الأيتام، الفقراء، الأرامل، المساكين في محيطك، أو شارك في مشاريع خيرية موثوقة تخدم هذه الفئات، تفقَّد أحوال جيرانك وأقاربك المحتاجين، فحال الناس وأحوالهم تتغير، وقد يكون أقرب الناس إليك في حاجة، بادِر بالمساعدة ولو بأقل القليل، فالقليل عند المحتاج كثير.

سُقيا الماء، إطعام الطعام: من أفضل الصدقات وأحبها إلى الله، خاصة في الأماكن التي يندر فيها الماء، أو يشتد فيها الجوع أو الحر، فإطعام الطعام للمساكين أو حتى للعمال المحتاجين له أجرٌ عظيم، وقد يكون سببًا لدخول الجنة، بادِر في ذلك وادْعُ غيرك للمشاركة، وكن قدوة في العطاء.

الصدقة الجارية: إن استطعت، فأسهِم في بناء مسجد، حفر بئر، طباعة مصاحف، كفالة طالب علم، أو أي مشروع له أثر مستمر بعد وفاتك، فثوابها يستمر ما دام نفعها موجودًا، هذه الصدقات هي استثمار لآخرتك، وتظل حسناتها تجري لك حتى بعد مماتك.

6- الإكثار من الدعاء: سلاح المؤمن وعبادة الأنبياء:
الدعاء هو مخ العبادة، وهو صلة العبد بربه، وهو السلاح الذي لا يخطئ، وفي هذه الأيام المباركة تَكثُر أوقات الإجابة، وتُفتح أبواب السماء، ويَستجيب الله لدعاء عباده المخلصين.

الدعاء في أوقات الإجابة: اجتهد في الدعاء في الأوقات التي يرجى فيها الإجابة: بين الأذان والإقامة، في السجود، آخر ساعة من يوم الجمعة، عند نزول المطر، عند السفر، وعند الإفطار للصائم، كن ملحًّا في الدعاء، واثقًا بالإجابة، ولا تيئَس مهما طال انتظارك، فالله يحب العبد اللحوح.

دعاء يوم عرفة: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، فاجتهِد فيه بالدعاء لنفسك، أهلك، أولادك، والديك، أصحابك، المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها، وللخير كله في الدنيا والآخرة، أكثِر من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، فهذا هو خير ما قاله النبيون في يوم عرفة، وهو دعاء جامع مانع.

الدعاء بخيري الدنيا والآخرة: لا تقتصر على دعاء معين، بل ادعُ الله بكل ما في قلبك من خير، وبكل ما تحتاجه في دينك ودنياك وآخرتك، ادعُ بالهداية، بالرزق الحلال، بالصحة والعافية، بالزوج الصالح، بالذرية الصالحة، بالنجاح في الدنيا والآخرة، وبالثبات على الدين حتى الممات، كنْ على يقين بأن الله كريم لا يرد سائلًا.

7- الأعمال الصالحة المتنوعة: استثمار كل لحظة في الخير:
هذه الأيام فرصة لتنويع الطاعات والاجتهاد في كل أنواع الخير، فالعمل الصالح فيها محبوب إلى الله، وكل حسنة فيها مضاعفة:
بر الوالدين وصلة الأرحام: الإحسان إليهما بالقول والفعل، زيارتهما، السؤال عنهما، تلبية حاجاتهما، والدعاء لهما بظهر الغيب، وصلة الأرحام تزكي العمر وتزيد في الرزق، وتصل ما بينك وبين الله، كما ورد في الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصِلْ رحمه"؛ (متفق عليه).

الاهتمام بالجيران: تفقَّد أحوالهم، السؤال عنهم، مساعدتهم عند الحاجة، كف الأذى عنهم، خاصه إن كانوا محتاجين أو مرضى، تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورثه"؛ (متفق عليه).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما يتناسب مع قدرتك ومكانتك، دون إفراط أو تفريطٍ، مع مراعاة الأولويات.

إماطة الأذى عن الطريق: صدقة عظيمة، تدل على رُقي الإيمان وحب الخير للمسلمين، وهي من شُعب الإيمان.

التبسُّم في وجه أخيك: صدقة، فالبشاشة وحُسن الخلق من خصال المؤمن التي يحبها الله ورسوله، وتُدخل السرور على القلوب.

زيارة المرضى، اتباع الجنائز: فيها أجرٌ عظيم وتذكير بالآخرة، وتثبيت للقلب، وفيها مواساة لأهل الميت وتخفيف عنهم.

قضاء حوائج الناس: السعي في قضاء حوائج إخوانك المسلمين، سواء بالمال أو الجاه أو المشورة، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.

التسامح والعفو عن الناس: طهِّر قلبك من الأحقاد والضغائن، وسامِح مَن أساء إليك، واطلُب العفو والمغفرة من الله، فالعفو من صفات المتقين، وسبب لمغفرة الله لك.

كَفُّ اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب: احرِص على حفظ لسانك من كل ما يغضب الله، فاللسان هو مِفتاح الخير والشر، وبه يدخل العبد الجنة أو النار، تذكَّر أن "أكثر ما يدخل الناس النار الفم والفرج".

حفظ الجوارح: البصر، السمع، اللسان، اليد، القدم، عن كل ما يغضب الله، اجعلها طائعة لله في هذه الأيام المباركة وفي غيرها طول حياتك، فكل جارحة ستشهد عليك يوم القيامة.

طلب العلم الشرعي: ولو بالاستماع إلى دروس ومحاضرات نافعة عن فضل هذه الأيام أو عن أحكام الأضحية، أو غيرها من أمور الدين، فطلب العلم فريضة على كل مسلم.

حُسن الخلق: اجمَع بين كثرة العبادة وحُسن الخلق، فخير الناس أحسنهم خلقًا، وأقربهم مجلسًا من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أحاسنهم أخلاقًا.





ابوالوليد المسلم 07-06-2025 11:08 AM

رد: وقفات مع عشر ذي الحجة
 


وقفات مع عشر ذي الحجة(3)

د. عبدالسلام حمود غالب





أصداء التكبير: الأثر النفسي والروحي لذكر الله تعالى:
في خِضمِّ صخب الحياة المتسارع، وتلاطُم أمواج الدنيا التي لا تتوقف عن الجريان، يبقى ذكر الله تعالى هو مَرساة النجاة الحقيقية وسفينة الأمان التي تُبحر بنا نحو شاطئ الطمأنينة والاستقرار الروحي، وتزداد أهمية هذا الذكر وعمقه، وبخاصة في الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة المبارك، هذه الأيام الفضيلة التي تُعد بحقٍّ من أفضل أيام العام على الإطلاق وأكثرها بركة وخيرًا، تتجلَّى فيها فضيلة التكبير والتهليل والتحميد بشكلٍ لم يَسبق له مثيلٌ في أي وقت آخر.

إنها ليست مجرد كلمات تُردِّدها الألسن في جو من العبادة الجماعية والفردية، أو طقوس تُؤدى بشكل آلي، بل هي أصداءٌ إيمانية عميقة، تَنبع من أعماق القلب وتُلامس شغافه؛ لتهز أركان النفس، وتُحدث تحولًا عميقًا وملموسًا في الوعي الباطني للإنسان، وفي روحه التي تتوق إلى خالقها. يتجاوز هذا المحور الفقهيات الظاهرة والطقوس الشكلية للعبادة؛ ليُسلِّط الضوء بشكل مكثف على الأثر النفسي والروحي العظيم لذكر الله في هذه الأيام المباركات، وفي غيرها من الأيام والمواسم، وكيف يُمكن أن يُصبح هذا الذكر وقودًا لا ينضب لحياةٍ مليئةٍ بالطمأنينة والسكينة الدائمة، والاتصال العميق والمستمر بالخالق العظيم؛ مما ينعكس إيجابًا على سلوك الفرد اليومي، وتفاعله مع محيطه الاجتماعي، ونظرته للحياة ككلٍّ.

الأثر النفسي لذكر الله:
إن ذكر الله تعالى هو بلسَمٌ شافٍ لروح الإنسان المتعبة التي أرهقتها ضغوط الحياة، ودواءٌ ناجعٌ لأسقام النفس التي تُصيبها من توترات العصر الحديث؛ يقول الله تعالى في كتابه العزيز، مؤكدًا هذه الحقيقة الكونية والنفسية التي لا تقبل الجدل: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، هذه الآية الكريمة ليست مجرد دعوة عابرة، بل هي وعد إلهي صريح بتحقيق السكينة الداخلية والراحة النفسية لكل مَن يلتزم بذكر الله، وهي تُشكل محور فَهْمنا للأثر النفسي العميق للذكر على الإنسان.

الطمأنينة والسكينة:
يُعَدُّ الذكر المستمر، والتكبير خاصةً، من أقوى الوسائل وأكثرها فعالية لجلب الطمأنينة الحقيقية إلى القلب تلك الطمأنينة التي لا يُمكن أن تشتريها الأموال أو توفِّرها المناصب، ففي لحظات القلق والاضطراب التي تَعصف بالإنسان، سواء كانت قلقًا على المستقبل، أو توترًا من ضغوط العمل، أو حزنًا على ما فات، يكون ذكر الله ملاذًا آمنًا وملجأً حصينًا؛ حيث يجد القلب راحة وسكونًا عميقين لا يوفرهما أي شيء آخر من متاع الدنيا؛ وقد أشار ابن القيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه النفيس "مدارج السالكين" إلى أن "الذكر قوت القلوب وغذاؤها، فإذا فقدته صار الجسم بمنزلة من حُرم قوته".

هذا التشبيه البليغ يوضح أن الذكر هو الغذاء الروحي الأساسي الذي لا تستقيم حياة القلب بدونه، فكما أن الجسد يحتاج إلى الطعام ليحيا، كذلك القلب يحتاج إلى الذكر لينبض بالإيمان والسكينة، وأن هذه الطمأنينة لا تعني غياب المشاكل أو التحديات من الحياة، بل هي القدرة على مواجهة هذه الصعاب بقلبٍ ثابتٍ، ونفسٍ راضيةٍ بقضاء الله وقدره، مدركةً أن كل أمر بيد الله، وأن تدبيره هو الخير المطلق؛ مما يمنح الإنسان قوة داخلية للتكيف والصمود

تخفيف القلق والتوتر:
أظهرت العديد من الدراسات الحديثة في علم النفس وعلم الأعصاب أن الذكر المنتظم يُسهم بشكل فعال في خفض مستويات هرمون الكورتيزول، المعروف بـ "هرمون التوتر"، الذي يرتفع في حالات الضغط النفسي الشديد، ويؤثر سلبًا على الصحة الجسدية والنفسية؛ كما يُعزز الذكر إفراز الدوبامين والسيروتونين، وهي نواقل عصبية أساسية مرتبطة بمشاعر السعادة، والهدوء، والاستقرار النفسي، وتحسين المزاج العام، فالتكبير بترديد عبارة "الله أكبر" ذات المعنى العظيم، يُعيد برمجة العقل الباطن ليُركِّز على عظمة الخالق وقدرته المطلقة على كل شيء؛ مما يُزيل الخوف من المخلوقين، ويُقلل من الشعور بالعجز أمام التحديات الدنيوية، ويُبدل القلق بالتوكل الصادق والثقة التامة بالله؛ مما يؤدي إلى شعور عميق بالراحة النفسية والتحرر من الأعباء.

إن التركيز على عظمة الله يقلِّل من حجم المشكلات في نظر الإنسان، ويجعله يرى الأمور بمنظور أوسع وأكثر إيجابية.

تقوية الإرادة والعزيمة:
عندما يُدرك الإنسان عظمة الله وقوته اللامتناهية من خلال الذكر المتواصل بقلب حاضر، تتولد لديه قوة داخلية هائلة تُعينه على مواجهة التحديات الكبرى والصغرى في حياته اليومية، والتحلي بالصبر الجميل على البلاء، والإقدام على الطاعات والأعمال الصالحة بقلبٍ منشرح ونفس تواقة للخير.

يصبح الذكر بمنزلة شحنٍ مستمرٍّ للهمَّة، وتقوية للعزيمة على فعل الخير، والثبات على الحق في وجه الصعوبات والإغراءات، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في تشبيه بليغ يُوضح أهمية الذكر للقلب: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟". هذا التشبيه يُبرز الضرورة القصوى للذكر لاستمرار حياة القلب الروحية، فكما يموت السمك خارج الماء، يضعف القلب ويموت روحيًّا إذا انقطع عن ذكر الله، ويفقد القدرة على الصمود والإنجاز.

الذكر يمنح الإنسان شعورًا بالقدرة على التغيير الإيجابي في حياته، ويجعله أكثر تصميمًا على تحقيق أهدافه الروحية والدنيوية.

الأثر الروحي لذكر الله:
ذكر الله ليس مجرَّد تمرينٍ نفسي يُمارس لتهدئة الأعصاب أو تحسين المزاج، بل هو رحلةٌ عميقةٌ ومباركةٌ في عوالم الروح، تُعزز الاتصال الوثيق بالخالق، وتُعلي من قدر الإنسان ومكانته الروحية في الدنيا والآخرة؛ إنه يفتح آفاقًا جديدة من الفهم والإدراك الروحي.

تعزيز الصلة بالله:
الذكر هو حبل الوصل المتين بين العبد وربه، وهو الجسر الروحي الذي يربط الأرض بالسماء، ويُمكن العبد من الشعور بالقرب الإلهي، فكلما ازداد العبد من الذكر بصدق وإخلاص، زادت قربته من خالقه، وشعَر بمعية الله في كل حين؛ في حركاته وسكناته، في يقظته ومنامه، في شدته ورخائه، هذه الصلة تُصبح جزءًا لا يتجزأ من وعيه، وتُشعره بالأمان والحماية؛ يُروى عن الإمام الحسن البصري - رحمه الله - قوله: "تفقَّدوا الحلاوة في ثلاث: في الصلاة، وفي القرآن، وفي الذكر، فإن وجدتموها وإلا فاعلَموا أن البرايا غير مصافاة لكم".

هذا القول يُشير إلى أن حلاوة الإيمان والعبادة الحقيقية لا تُدرك إلا بهذه الأمور الثلاثة، وأن غيابها دليل على وجود خللٍ أو نقص في العلاقة مع الله تعالى، مما يستدعي المراجعة والتصحيح.

تصفية القلب وتنقيته:
الذكر يُنقي القلب من الشوائب والران الذي يُغطيه نتيجة الذنوب والمعاصي المتراكمة التي تُثقل القلب وتحجب عنه نور الإيمان والهداية، إنه بمنزلة مرآة تُجلَّى بها القلوب؛ لتنعكس عليها أنوار الهداية والإيمان والسكينة، وتُصبح أكثر شفافية لاستقبال الإلهامات الربانية؛ قال الإمام الغزالي -رحمه الله - في "إحياء علوم الدين": "القلب مَحلُّ ذكرِ اللهِ، وكلُّ ذكرٍ بغيرِ قلبٍ فهو كغَيبةِ الروحِ عن الجسدِ".

هذا يعني أن الذكر الحقيقي ليس مجرَّد ترديد باللسان دون وعي، بل هو حضور قلبي، وإذا غاب القلب عن الذكر، أصبح الذكر جسدًا بلا روح، لا يؤتي ثماره المرجوة من التزكية والتنقية، ويُصبح مجرد عادة لا قيمة لها، والذكر الصادق يزيل الصدأ عن القلب ويجعله أكثر إشراقًا وتلقيًا للفيوضات الإلهية.

الشعور بمعية الله:
عندما يُكثر العبد من ذكر الله بصدق وإخلاص، ويُصبح الذكر جزءًا من كِيانه، يُصبح الله تعالى معه في كل خطوة يخطوها، فيقوده ويسدِّده ويُلهمه الرشد والصواب في قراراته وأفعاله، هذا الشعور بمعية الله يُورث العبد قوةً وثباتًا لا تُضاهَى، ويُعينه على الثبات على الحق في وجه الفتن والتحديات، ويُشعره بالأمان التام في كنف الله وحمايته، هذه المعية ليست مجرد شعور عاطفي، بل هي حقيقة إيمانية تُترجم إلى توفيق في الحياة، وبركة في الأعمال، وحفظ من الشرور، وشعور بالاستغناء عن الخلق والاعتماد على الخالق وحده، إنه يمنح الطمأنينة بأن الله لن يخذله أبدًا.

إحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم:
التكبير في العشر من ذي الحجة هو إحياء لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام الذين كانوا يُكثرون من التكبير في هذه الأيام الفاضلة، سواء كان التكبير المطلق في كل الأوقات والأماكن، أو المقيد بعد الصلوات المفروضة، هذا الإحياء يُشعر المسلم بالانتماء لأمةٍ عظيمةٍ ذات تاريخ مجيد وقيم راسخة، ويزيد من حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُقوي ارتباطه بالمنهج النبوي الشريف؛ مما يعمِّق لديه الشعور بالهوية الإسلامية والفخر بانتمائه لهذه الأمة، كما أنه يربط المسلم بالجيل الأول من الصحابة والتابعين، ويجعله يسير على خطاهم في اغتنام هذه الأيام المباركة.

تطبيقات عملية لذكر الله في العشر من ذي الحجة:
لتحقيق أقصى استفادة من ذكر الله في هذه الأيام المباركات، وتحويلها إلى تجربة روحية عميقة تُثمر في حياة المسلم، يُمكن تطبيق ما يلي من ممارسات عملية وخطوات واضحة:
• التكبير المطلق والمقيد: الإكثار من التكبير في كل الأوقات والأماكن (المطلق)، مثل الأسواق، والطرقات، والبيوت، والمساجد، تعظيمًا لله وإظهارًا لشعائر الإسلام في كل مكان، ويمكن ترديد صيغ التكبير المختلفة؛ مثل: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد". والتكبير بعد الصلوات المفروضة (المقيد)، بدءًا من فجر يوم عرفة وحتى آخر أيام التشريق (نهاية اليوم الثالث عشر من ذي الحجة)، وهو ما يسمى بالتكبير الجماعي بعد الصلوات، ويُستحب أن يُجهر به الرجال وتُسر به النساء.

• جعل الذكر رفيقًا دائمًا: تحويل الذكر إلى عادة يومية متأصلة في كل الأنشطة الحياتية، بحيث لا يمر وقت إلا واللسان يلهج بذكر الله، ويمكن تحقيق ذلك عند الاستيقاظ من النوم، قبل النوم، أثناء العمل، في السيارة أثناء القيادة، وأثناء الانتظار في أي مكان، أو أثناء المشي، يمكن استخدام السبحة أو عدَّاد الأذكار لمساعدة النفس على الاستمرارية، أو حتى استخدام تطبيقات الهواتف الذكية المخصصة لذلك، والهدف من ذلك هو أن يُصبح الذكر جزءًا لا يتجزَّأ من الوعي اليومي.

• التدبر في معاني الذكر: عدم الاكتفاء بالترديد اللفظي المجرد للكلمات، بل استحضار معاني الكلمات العظيمة التي تُردَّد بقلب حاضر وعقل متفكِّر، فمثلًا عند قول: "الله أكبر"، استشعِر أن الله أعظم من كل شيء في هذا الكون، أعظم من همومك، وأحزانك، ومخاوفك، وأكبر من أي قوة دنيوية، وأكبر من كل ما يشغلك عن طاعته، وعند قول: "الحمد لله"، استشعِر الشكر العميق على النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، الظاهرة والباطنة، وتذكَّر فضل الله عليك، وعند قول: "لا إله إلا الله"، استشعِر التوحيد المطلق لله وحده، وأنه لا معبود بحقٍّ سواه، وأنه المستحق للعبادة وحده، هذا التدبر يُحول الذكر من حركة لسان إلى عبادة قلب، ويُعظم أثره الروحي.

• المشاركة في الذكر الجماعي: الانضمام إلى حلقات الذكر في المساجد أو البيوت، أو التكبير الجماعي الذي يُقام في هذه الأيام المباركة، ففيه قوة وتشجيع على الاستمرارية، وتنبيه الغافلين وتذكيرهم، ويُعزز من رُوح الأخوة الإيمانية، ويُشعر المسلم بأنه جزءٌ من أمة عظيمة تذكر ربها وتتجه إليه بقلب واحد، الأجواء الجماعية تُساعد على زيادة الهمة والتركيز في الذكر.

• الدعاء المصاحب للذكر: ربط الذكر بالدعاء والتضرع إلى الله بقلب خاشع، فهو يفتح أبواب الإجابة ويزيد من الصلة بالخالق، فبعد كل ذكر ارفَع يديك بالدعاء بما تشاء من خير الدنيا والآخرة، مستشعرًا أن الذكر يُمهد الطريق لقبول الدعاء، وأن الله يحب العبد اللحوح في دعائه. يُمكنك الدعاء بالثبات على الطاعة، والمغفرة، والرزق، وصلاح الحال والأولاد، وأن يفرِّج الله عن إخواننا في عزة وغيرها من الأدعية الجامعة.

إن أصداء التكبير في العشر من ذي الحجة ليست مجرَّد ترانيم تُعبر عن فرحة عابرة أو حماس موسمي سَرعان ما يزول، بل هي تعبيرٌ عميقٌ عن الإيمان الراسخ في القلب، ووقودٌ لا ينضب للنفس والروح، ودليلٌ ساطعٌ على الارتباط الوثيق بالخالق العظيم، فلنجعل من هذه الأيام الفضيلة فرصةً حقيقيةً لإعادة شحن قلوبنا بذكر الله، وتجديد عهدنا معه، ليُصبح هذا الذكر نبراسًا يُضيء دروبَ حياتنا في كل لحظة، ويُعيننا على مواجهة تحدِّياتها وصعابها بقلبٍ مطمئن ورُوحٍ قوية، ونُحوِّل أصداءَ التكبير العظيمة إلى نبضٍ دائمٍ يُغذي أرواحنا بالسكينة والطمأنينة، ويُعلي من شأننا عند الله تعالى، ويُثمر صلاحًا في دنيانا وآخرتنا.





ابوالوليد المسلم 08-06-2025 04:16 PM

رد: وقفات مع عشر ذي الحجة
 
وقفات مع عشر ذي الحجة(4)

د. عبدالسلام حمود غالب



وقفه مع أبي الأنبياء في التسليم والتضحية


تُعَدُّ واقعة النبي إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليهما السلام، إحدى أبرز السرديات الدينية وأكثرها عمقًا وتأثيرًا في الوجدان البشري، كما وردت تفاصيلُها في النصوص القرآنية الكريمة والسنة النبوية الشريفة، ولا تقتصر أهمية هذه الواقعة على كونها حدثًا تاريخيًّا يُستذكَر فحسب، بل تتجاوز ذلك لتُشكل مصدرًا لدروس خالدة في التسليم المطلق للمشيئة الإلهية دونما تردُّد أو تساؤل، وفي تقديم التضحية بكل ما هو نفيس وغالٍ في سبيل الله تعالى، لا يُنظر إلى هذه الواقعة على أنها مجرد ذكرى سنوية تُحتفى بها في عيد الأضحى المبارك، بل هي بمنزلة نموذج إلهي متكامل ومدرسة ربانية تُقدم للأجيال المتعاقبة عبر العصور جوهر العقيدة الحقة، والصبر الجميل على البلاء، والثقة المطلقة بالقدر الإلهي والحكمة البالغة الكامنة وراء كل أمر.

سنقف في هذا الموضوع مع تفاصيل هذه الواقعة الملهمة، مع تسليط الضوء على المعاني المتعددة والمتجددة للفداء، وكيف يمكن استلهام هذه الدروس الجليلة وتطبيقها في السياقات المعاصرة للحياة البشرية، لتكون بمنزلة منارة تُضيء مسارات التحدي والابتلاء، وتُعين على مواجهة الصعاب بيقين وثبات.

التسليم المطلق: جوهر الإيمان:
يُقدم النبي إبراهيم عليه السلام نموذجًا فريدًا لا يُضاهى في التسليم المطلق للأمر الإلهي، حتى وإن بدا هذا الأمر متعارضًا مع المنطق البشري المحدود، أو الفطرة الأبوية التي جُبل عليها الكائن البشري، أو حتى مع المشاعر الإنسانية الطبيعية التي تَميل إلى الحفاظ على الذرية، يُعد هذا التسليم ذِروةَ الإيمان ولبَّه، وهو ما يُعرف بالاستسلام الكامل لإرادة الخالق.

الثقة المطلقة في الذات الإلهية:
عند تلقي إبراهيم عليه السلام الرؤيا الصادقة التي تضمنت الأمر الإلهي بذبح ابنه إسماعيل، لم يُلاحظ أي تردُّد أو تأخير في الاستجابة، بل تَم الإذعان الفوري والكامل للأمر الرباني؛ مما يُبرهن على وجود ثقة مطلقة ويقين لا يتزعزع بأن الأمر الإلهي هو الحق المحض، وأن وراءه حكمة بالغة وخيرًا عظيمًا قد يتعذَّر على العقل البشري إدراكه في حينه.

إن رؤيا الأنبياء كما هو مُقرر في العقيدة الإسلامية، لا تُعد مجرد أحلام عابرة أو إشارات رمزية، بل هي وحي إلهي مباشر يتطلب الطاعة المطلقة والامتثال الفوري، وقد أشار ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية الكريمة إلى أن "هذا دليلٌ على كمال التسليم والانقياد لأمر الله؛ حيث إن رؤيا الأنبياء حق ووحْي".

يُؤكد هذا التأكيد أن الأوامر الإلهية حتى وإن بدت قاسية أو غير مفهومة في ظاهرها، فإنها تحمل في طياتها الخير المطلق والغاية الأسمى التي لا يُمكن للعقل البشري استيعابها إلا بعد تحقُّقها، أو بتجلي حكمة الله فيها، هذا المستوى من الثقة يُعد أساسًا للتوكل على الله في جميع شؤون الحياة.

التغلب على الهوى النفسي:
تُعد أشد أنواع التضحية وأصعبها على النفس تلك التي ترتبط بفلذات الأكباد؛ أي الأبناء الذين يمثلون زينة الحياة الدنيا وبهجتها، إن مقدرة إبراهيم عليه السلام على كبح مشاعره الأبوية الجياشة، التي تُحركه نحو حب ابنه والشفقة عليه، وتسليم أمره لله تعالى دون تردُّد أو اعتراض، تُظهر قوة إيمانه العظيمة وتغلُّبه على هوى النفس وشهواتها وميولها الطبيعية، يُعد هذا الانتصار على الذات دليلًا على سُمو الروح وعُلو الهمَّة، وقد ورد في النص القرآني تصوير بديع لهذه اللحظة الفارقة، يُبرز الحوار الهادئ والمطمئن بين الأب والابن؛ ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].

تُبرز هذه الآية قوة الإيمان والتسليم، ليس فقط من جانب الأب الذي تلقى الأمر الإلهي، بل من جانب الابن أيضًا الذي أظهر استجابة وطاعة غير مسبوقة؛ مما يُعكس عمق التربية الإيمانية التي تلقَّاها، هذا التغلب على الهوى النفسي يُعد درسًا في الانضباط الذاتي والتقديم المطلق لإرادة الخالق على الرغبات الشخصية.

دور إسماعيل في التسليم: لا يقل تسليم إسماعيل عليه السلام لأمر ربه ووالده عظمة وإلهامًا عن تسليم أبيه، فقد كانت استجابته الفورية وقوله بقلبٍ مطمئن وروح راضية: "يا أبتِ افعل ما تُؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، برهانًا ساطعًا على نشأته الصالحة، وتربيته الإيمانية السليمة، وإيمانه الراسخ بالذات الإلهية، يُقدم هذا الموقف درسًا بالغ الأهمية في ضرورة تربية الأبناء على التسليم لأمر الله، وغرْس قيم الطاعة والصبر في نفوسهم منذ الصغر؛ لكي يُصبحوا أفرادًا صالحين قادرين على مواجهة تحديات الحياة بإيمان وثبات، يُمكن استخلاص أن هذا التسليم المتبادل بين الأب والابن يُعزِّز من مكانة القصة بوصفه نموذجًا تربويًّا متكاملًا، يُظهر كيف أن الإيمان الصادق يُورث من جيلٍ إلى جيل عبر التربية السليمة والقدوة الحسنة.

إن موقف إسماعيل يُبرز أن التسليم ليس مجرد طاعة عمياء، بل هو فَهْم عميق للحكمة الإلهية وقناعة داخلية بأن ما يأمر به الله هو الخير المطلق، حتى وإن بدا صعبًا على النفس البشرية.

معاني الفداء المتعددة: لا تُعد قصة الأضحية مجرد فداء لكبْش عظيم عن النبي إسماعيل عليه السلام فحسب، بل هي فداءٌ بمعانٍ أوسع وأعمق بكثير، تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتُقدم دروسًا مستمرة لكل الأجيال، تُسهم في تشكيل الوعي الإنساني وتوجيهه نحو الغايات السامية.

فداء بالنفس والتعلقات الدنيوية: تُذكِّر الأضحيةُ البشرَ بأن كل ما يَملِكون في هذه الحياة من أموال وأولاد وصحة ومكانة اجتماعية، إنما هو منحة من الله تعالى، وأنه لا يمتلك الإنسان شيئًا على سبيل الملكية المطلقة، بل كل ذلك عارية ومسؤولية، وعليه يجب أن يكون المرء مستعدًّا للتخلي عن أغلى ما لديه في سبيل الله وطاعته، وذلك ليس من باب الخسارة، بل من باب العطاء والتضحية التي يُرجى منها الأجر العظيم، إنها تُشكل فداءً للتعلق بالماديات الزائلة، وفداءً للأنا والغرور، واستعدادًا لتقديم كل شيء طاعة لله تعالى، وابتغاءً لمرضاته، لذا يُمكن القول: إن هذا الفداء يُحرر النفس من قيود الدنيا وأسْر الشهوات، ويُعليها إلى مراتب القرب الإلهي والسمو الروحي؛ مما يُفضي إلى تجرُّد من الماديات الزائفة وتحقيق غنى القلب والروح، هذا المفهوم يُعزز من قيمة الزهد المشروع والتخلي عن كل ما يُشغل القلب عن الله.

فداء الذنوب بالتقرب إلى الله: تُعد الأضحية قربانًا عظيمًا يُقدم لله تعالى في أيام مباركة، يُرجى من خلاله مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، إنها بمنزلة محاولة صادقة للفداء عن التقصير في حق الله، والتقرب إليه بالعمل الصالح الذي يرضيه، يُنظر إلى هذا القربان على أنه رمز للتوبة والإنابة؛ حيث يُقدم العبد جزءًا من ماله أو ممتلكاته تعبيرًا عن خضوعه لله ورغبته في التطهير من الآثام، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم فضلَ هذه العبادة وعِظَم أجرها بقوله: "ما عمِل آدمي مِن عملٍ يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم"؛ (رواه الترمذي).

يُبين هذا الحديث الشريف عِظَمَ أجر الأضحية ومكانتها عند الله، وأنها من أحب الأعمال إليه في هذا اليوم المبارك؛ مما يُعزز من قيمتها الروحية كأداة للتطهير والتقرب، ويُشجع المسلمين على أدائها ابتغاءً لمرضاة الله ومغفرة ذنوبهم، لذا يُمكن اعتبار الأضحية بمنزلة تجديد للعهد مع الله، وتأكيد للولاء والطاعة.

فداء الأمة بالإصلاح والتضحية: تُعلِّم قصة إبراهيم عليه السلام أن بناء الأمم الصالحة، وإصلاح المجتمعات، ورفع راية الحق والعدل، يتطلب فداءً وتضحيةً مستمرة لا تتوقف عند حدود الفرد؛ فإبراهيم عليه السلام كان أمةً وحدَه في دعوته وتضحيته؛ حيث واجه الشرك والضلال بمفرده، وقدَّم ابنه قربانًا طاعة لله؛ مما يُبرز دوره بوصفه نموذجًا رائدًا في التضحية من أجل المبادئ السامية. ومن بعده جاءت الأنبياء والأمم التي سارت على نهجه، مُضحيةً بالغالي والنفيس في سبيل الله، يُلهم هذا النموذج الأجيال المتعاقبة ليكونوا مستعدين للتضحية بوقتهم الثمين، وجهدهم، ومالهم، وراحتهم الشخصية في سبيل بناء مجتمع صالح، ونشر الخير، ورفع راية الحق والعدل في الأرض، اقتداءً بالأنبياء والصالحين، وقد أشار ابن القيم - رحمه الله - في "زاد المعاد" إلى أن "الأضحية هي سنة أبي الأنبياء، وإمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام، وفيها من الأسرار والعبر ما لا يخفى". يُمكن استنتاج أن التضحية الجماعية من أجل الصالح العام تُعد ركنًا أساسيًّا في تحقيق النهضة والتقدم المجتمعي، وأن الأفراد يُصبحون جزءًا من كِيان أكبر يُسهم في بناء حضارة قائمة على العدل والإحسان؛ مما يُعزز من مفهوم التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع.

دروس للتضحية في حياتنا المعاصرة: يُطرح التساؤل حول كيفية تجسيد معاني التضحية العظيمة المستقاة من قصة إبراهيم وإسماعيل في الواقع اليومي المعاصر، الذي يختلف كثيرًا عن زمانهما من حيث التحديات والظروف، ومع قُرب عيد الأضحى نستلهم معاني كثيرة من قصة إبراهيم وإسماعيل، ومنها ألا تُعد التضحية محصورة في ذبح الأنعام، بل هي مفهوم أوسع يشمل كل ما يُقدم من أجل الله والآخرين، وتتخذ أشكالًا متعددة تتناسب مع طبيعة العصر.

التضحية بالوقت: يُقصد بذلك تخصيص جزءٍ من الوقت الثمين للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولخدمة المجتمع من خلال الأعمال التطوعية في شتى المجالات، ولتربية الأبناء تربية صالحة على قيم الإسلام ومبادئه السامية، ولطلب العلم الشرعي والدنيوي النافع الذي يُسهم في تقدم الأمة، وذلك بدلًا من إضاعته في توافه الأمور واللهو المباح الذي لا يُقدم ولا يؤخر في بناء الذات أو المجتمع، يُمكن اعتبار هذه التضحية استثمارًا في بناء الذات والمجتمع؛ حيث تُثمر عن أفراد صالحين ومجتمع متقدم.

التضحية بالمال: تتضمن هذه التضحية الإنفاق في سبيل الله بسخاء، وإخراج الصدقة والزكاة بانتظام فريضةً وعبادة، ودعم المشاريع الخيرية والإنسانية التي تُسهم في رفع المعاناة عن المحتاجين، ومساعدة الفقراء والمساكين، وذلك بدلًا من الاكتناز والبخل وحب الدنيا الذي يُعد آفة تُعيق تقدم الأفراد والمجتمعات.

تُعد التضحية بالمال دليلًا على الإيمان بأن الرزق من عند الله، وأنه يُخلف على المنفقين؛ مما يُعزز من مفهوم الكرم والعطاء والتكافل الاجتماعي.

التضحية بالراحة والشهوات: تُشير هذه التضحية إلى كبح النفس عن المعاصي والآثام، ومقاومة الشهوات التي تدعو إلى الحرام، وتحمُّل مشقة العبادة والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال واللسان، وذلك بدلًا من الانغماس في الراحة والكسل والبحث عن الملذات الزائلة التي تُفسد الروح وتُضعف الإرادة؛ تُقوي هذه التضحية النفس وتُزكيها؛ مما يُسهم في بناء شخصية متوازنة وقادرة على ضبط الذات والتحكم في رغباتها، وتحقيق السمو الروحي.

التضحية من أجل الصالح العام: تُعنى هذه التضحية بتقديم المصلحة العامة للمجتمع والأمة على المصلحة الشخصية الضيقة، والعمل بروح الفريق والتعاون لخدمة الأمة والمجتمع، حتى لو تطلب ذلك التنازل عن بعض الحقوق الشخصية أو الرغبات الفردية، لذا يُمكن اعتبار هذا المبدأ أساسًا للتماسك الاجتماعي والتقدم الجماعي؛ حيث يُضحي الأفراد بجزء من مصالحهم الفردية من أجل تحقيق خيرٍ أكبر يعود بالنفع على الجميع.

التضحية بترك العناد والكبر: تُشير هذه التضحية إلى التسليم للحق عندما يتبين، والقبول بالنصيحة من الآخرين، والتواضع لله ولخلقه، حتى لو كان ذلك يعني التنازل عن الرأي الشخصي أو التخلي عن العناد الذي يمنع الإنسان من رؤية الحقيقة، تُطهر هذه التضحية القلبَ من أمراضه كالكبر والعجب، وتُعزز من قيم التواضع والانفتاح على الحقيقة؛ مما يُسهم في بناء شخصية متسامحة ومتقبلة للآخر.

إن واقعة التضحية التي قام بها إبراهيم عليه السلام وأوشك أن يذبح فيها ابنه استجابةً لأمر الله تعالى، لا تُعد مجرد ذكرى عابرة، بل هي نداءٌ متجددٌ للإيمان الصادق، والتسليم المطلق لأمر الله، والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيله، إنها دعوةٌ للبشرية للتفكر بعمق في أولويات الحياة، وفي مدى الاستعداد لتقديم التضحيات في سبيل الله تعالى، وفي نوعية التضحيات التي يُمكن تقديمها لخدمة الدين والمجتمع، فليست التضحية محصورةً في ذبح الأنعام فحسب في عيد الأضحى، بل هي روحٌ وسلوكٌ يُجسِّده المؤمن في كل لحظةٍ من لحظات حياته؛ سعيًا لرضا الله تعالى، وبناءً لأمةٍ قويةٍ عزيزةٍ تسير على خطى الأنبياء والصالحين الذين ضحَّوْا بالغالي والنفيس في سبيل الله، مُقدمين بذلك نموذجًا يُحتذى به للأجيال القادمة.




الساعة الآن : 12:18 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 67.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 67.03 كيلو بايت... تم توفير 0.22 كيلو بايت...بمعدل (0.33%)]