صيانة الشريعة لحقّ الحياة
صيانة الشريعة لحقّ الحياة
حقَّ الحياة وحِفظ النفس من أهمّ حقوق الإنسان التي نادت بها الشريعة، وحثت على حفظها، تشريعًا محكمًا لتأمينها، ومعاقبة المعتدي عليها، وسدَّت كلّ الطرق أمام كل ما يعترضها أو يتلِفها. حقّ الحياة في الإسلام المراد بحقِّ الحياة في الإسلام هو ثبوتُ حماية النفس من التَّلف كليّة بالوفاة، وكذلك حفظ بعض الجسد من التلَف، وهي الأجزاء التي يؤدّي إتلافها إلى ما يقرب من انعدام المنفعة الكلي بالنفس، ويكون في إتلافها خطأً ديةٌ كاملة، فقد ثبت هذا الحقُّ، وجُعل حقًّا شرعيًّا من عند الله، وثبت ذلك بمقتضى الخطاب الشرعي، وكلُّ واجبٍ في الشريعة يقابله حقٌّ؛ فحق الحياة حقّ وواجبٌ في آنٍ واحد؛ لارتباطه بالتكليف والأمانة التي حملها الإنسان لعمارة الدنيا والاستخلاف فيها، وتطبيقا لسننه في الكون. وحرم الإسلام على الإنسان الاعتداء على نفسه أو إزهاقها أو السماح لغيره بشيء من ذلك، اللهم إلا إذا كان ذلك لتحقيق قصد شرعي؛ كجهاد العدو، أو المحافظة على حياة، كبتر عضو مريض يتوقّع منه سريان فساده لبقية البدن والتعرض لخطر محقق. وحق الحياة ليس حقًّا خالصًا للفرد يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل هو مقيَّد بالغاية التي من أجلها وجد الإنسان، وهي عبادة الله ثم عمارة الكون، وتنظيم الحياة فيه على مقتضى من النظر الشرعي، وهو تشريع لم تأخذ به معظَم القوانين الحديثة في العالم. في صدارة كليات الشريعة ومقاصدها ويعدُّ الحفاظ على النَّفس في صدارة كليات الشريعة ومقاصدها العامة بعد الحفاظ على الدين، كما أن المقاصد الضرورية الأخرى متوقّفة على وجود النفس الإنسانية والحفاظ عليها؛ لأنه لو عدم المكلَّف لعُدِم من يتديّن وينهض بأصل الحفاظ على الدين، ولعدمت معه ضرورة النسل التي تتفرع عن الحفاظ على النفس وبقائها، ولعُدم العقل الذي لا يقوم أصلا بغير نفس، ولعُدمت أهمية المال الذي يكتسب قيمته من انتفاع الأنفس به وتموّلها له؛ فالمصالح الضرورية إنما تقوم وتتحقَّق إذا وجدت النفس الإنسانية وتحقّق الحفاظ عليها، فمن أوضح الواضحات الشرعية بيان أن حقَّ الإنسان في الحياة مقرّر شرعًا ومحفوظ، وأن الجناية عليه ليست كأي جناية. بل أعلى من ذلك نقول: إن حق الحياة مكفول شرعًا للحيوان، كما روى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رسول -الله - صيانة الشريعة لحقّ الحياة- قال: «عذبت امرأة في هرة؛ حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار»، قال: فقال والله أعلم: «لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستيها، ولا أنتِ أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض». دور الشريعة في الحفاظ على النفس البشرية جعلت الشريعة أعظم الفساد الذي يقع في الدنيا، هو مفسدة تفويت الحياة الإنسانية بانتهاك حقِّ الإنسان في الحياة، قال ابن تيمية: «الفساد إما في الدين وإما في الدنيا؛ فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق؛ ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدِّين الذي هو الكفر؛ لذا شرعت السبل لحفظ الروح الإنسانية، وعُدَّت «أهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص، كفًّا وردعًا للظالمين والجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع، والأصول التي لا تختلف فيها الملل»، ومن هذه السبل ما يلي: (1) حرمة القتل بغير حق قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29)، فقد أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهيُ أن يقتل بعضُ الناس بعضًا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدّي إلى التلف، ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجَر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي. ويقول -تعالى-: {ولاَ تَقْتُلوا النَّفْسَ التِّي حَرّم اللهُ إلاَّ بالحقِّ} (الأنعام: 151)؛ وهذا لأن القتل هدم لبناء أراده الله، وسلب لحياة المجني عليه، واعتداء على عصبته الذين يعتزون بوجوده، وينتفعون به، ويحرمون بفقده العون، ويستوي في التحريم قتل المسلم والذمي وقاتل نفسه، والناظر للقتل بغير حق يجده جريمة كبرى؛ لأنه اعتداء على حق الحياة، وإفساد، والله -تعالى- لا يحب الفساد. كما أن الناس جميعًا متساوون في حقِّ الحياة، وما دام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين، أو أن يكون فعله أُسْوَة لغيره، ومادام قد اسْتَن مثل هذه السُّنة، سنجد كلَّ من يغضب منْ آخر يقتله، وتظل سلسلة القتل تتوالى. (2) تشريع القصاص راعت الشريعة في القصاص حقَّ الحياة وحفظ النفوس؛ فالله -تعالى- يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وكون القصاص حياةً يرجع إلى أنه إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يُقتصّ منه، فحييا بذلك معا. كما أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها يرتدِع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كلّ أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطِّن النفوس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم. (3) النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة يقول الله -تعالى-: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، فقد نهى الله -سبحانه وتعالى- عن المخاطرة بالنفس، وحرم تعريضها إلى خطر الهلاك إلا في الجهاد أو عند دفع الصائل، قال الإمام الطبري رحمه الله: «إن الله -جل ثناؤه- قد حرم على كل أحد تعريض نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل». (4) تشريع الرخص للحفاظ على الحياة فقد شرع الله -سبحانه- بعض الرخَص للحفاظ على حياة الإنسان، ورفعًا للحرج عن المكلَّف؛ ذلك أن حفظ النفس هو أحد مقاصد الشريعة الخمس، والضرورة هي ما يرجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فيصبح المحظور في حق المضطر واجبًا كأكل الميتة إذا لم يجد ما يغنيه عنها لقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. ومن هذه الرخَص: الفطر للمريض مرضًا شديدًا، فإن أدى امتناعه عن الفطر إلى إهلاك نفسه فإنه يكون قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، والله -سبحانه- قد أمره بألا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وقد كان قادرًا على إحياء نفسه بما أحله الله له، أما إن امتنع فإنه يأثم، وليس في دين الله ولا شريعته إلزام الإنسان بالصوم على وجه يوجب هلاكه. (5) تحريم الإجهاض ودية الجنين وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا وباعتداء وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًّا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة، قال -تعالى-: {وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (الإسراء:31)، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 12)، قال ابن كثير: «وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعمُّ قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه»، ولما كانت الشريعة داعيةً إلى حفظ النفوس وراعيةً للحقوق كان من مقتضى ذلك ألا يقتل الجنين في بطن أمه، ولو كان مخَلَّقًا من ماء الزنا، فقد جاء التوجيه النبوي بتركه حتى يولد ثم يرضع حتى يطعم الطعام، ومن شدة عناية الإسلام بحماية الأنفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدبّ الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سببٌ حقيقيّ يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة. (6) تحريم الانتحار حرم الإسلام الانتحار؛ حماية للنفس، ولأنه اعتداء عليها؛ إذ الحياة ليست في الحقيقة مِلكًا لصاحبها، بل هي هبة من الله -تعالى- في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها، وقرر أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- أن نفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق، أي: حق الله -تعالى-؛ إذ ليس له التسلّط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف؛ فلهذا عدَّ الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا». قال ابن دقيق العيد: «هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست مِلكا له، وإنما هي ملك لله -تعالى-، فلا يتصرَّف فيها إلا إذا أذن له فيه». (7) مشروعية دفع الصائل الأصل في دفع الصائل قوله -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194)، والمقصود بالنفس الآدمية التي عُنيت الشريعة بحفظها هي النفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، فنفس المسلم وكذلك نفس الذمي والمعاهد والمستأمَن هي النفوس المحترمة التي لا يجوز إهدارها في نظر الإسلام، أما ما عداها من الأنفس -مثل نفس المحارب ونفس المرتد- إن لم يتب فلا عصمةَ لها، على أن النفس المعصومة في الأصل قد يجوز إزهاقها بسبب شرعي كقتل الزاني المحصن، أو القصاص من القاتل عمدًا عدوانًا. (8) تحريم المبارزة والاقتتال لما كفلت الشريعةُ حقَّ الحياة للجميع، كان الوعيد الشديد على من أزهق النفس بغير حق، أو عزم على ذلك وباشر أسبابه، عن الأحنف بن قيس- رضي الله عنه - قال: ذهبتُ لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»، فهذا الحديث فيه وعيد شديد وزجر عن هذا التصرف، وإيماء إلى حرمة الدماء، ورعاية حق الحياة، والمبارزة هنا هي: الاقتتال بين شخصين لإثبات حقّ ما، أو لدفع إهانة ورد اعتبار. اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات |
الساعة الآن : 05:51 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour