تفسير آيات الصيام
https://al-forqan.net/wp-content/med...s/jpg_2084.jpg تفسير آيات الصيام (1) الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة هذه حلقات مختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، فإن الاعتناء بتفسير كتاب الله -تعالى- من أجل العلوم وأنفعها وأشرفها؛ إذ إن شرف العلم بشرف مُتَعَلَّقِه، وليس بعد شرف القرآن شرف، فهو كلام الله المنزل، ومصدر التشريع الأول. وجدير بالمسلم وهو في شهر رمضان أن يتعلم أحكام الصيام ويتدبر الآيات التي نزلت به وتعلقت بها أحكامه، حتى يؤدي هذا الركن علىَّ الوجه الذي أمر الله به. ولقد مَنَّ الله علي بشرح أحاديث الصيام من كتاب: (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) لابن حجر العسقلاني -رحمه الله- التي كان لها القبول والذكر الحسن عند الناس وطلبة العلم، حتى شجعني هذا الأمر على أن أكتب هذه الرسالة المختصرة التي تضمنت صفحاتها شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم أنتقي الألفاظ الغريبة على السمع أو الموهمة أكثر من معنى وأشرحها شرحا لغوياً معتمدا على المعاجم العربية، أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد معتمداً على أقوال أشهر المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً من بطون كتب السنة أو التفسير بالمأثور إن كان صحيحاً أو حسن الإسناد.ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي، ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت والتي لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها.وقد اعتمدت كثيرا على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء. راجيا من الله تعالى الهداية والقبول، وبركة العمر وحسن العاقبة، وأن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارئها والله الهادي إليه سبيلاً. فضل الصيام جعل الله -تعالى- الصيام ركنا من أركان الإسلام، وجعل الصوم من أفضل القربات وأجل العبادات التي يتقرب بها المتقربون إلى ربهم، ويكفي في أهمية هذه العبادة خصائصها وآثارها العظيمة في الدنيا والآخرة , من تزكية النفوس وإصلاح القلوب وحفظ الجوارح والحواس من الفتن والشرور, وتهذيب الأخلاق. وفيها من الإعانة على تحصيل الأجور العظيمة, وتكفير السيئات المهلكة, والفوز بأعالي الدرجات في الجنة. وقد حوى الصيام فضائل كثيرة يقصر المقام عن استقرائها وذكرها، أذكر منها ما لاح من ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة، وما خفي فهو أكثر من ذلك: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85). 1- أنه ركن من أركان الإسلام فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» (1) وقوله: «بني الإسلام على خمس» أي أن أعمال الإسلام خمس هي له كالدعائم بالنسبة للبناء لا وجود له إلا بها. 2- أنه العبادة التي اختصها الله لنفسه ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به...» (2) ولمسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به..» (3) قال: بن عبد البر كفى بقوله الصوم لي فضلا للصيام على سائر العبادات» (4). 3- أن الله جعله سببا للمغفرة والأجر العظيم - قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿٣٥﴾} (الأحزاب: 35). فالصيام من أكبر أعمال الخير والبر التي أعد الله لعامليها أمرين عظيمين: - {مَّغْفِرَةً}، وذلك بغفران الذنوب أي بسترها وعدم المحاسبة عليها، ونُكرت المغفرة لتعظيم أمرها، فهي إذا ً مغفرة شاملة. - {وَأَجْراً عَظِيماً}، وذلك في جنات النعيم مع الكرامة في موقف الحساب(5). 4- الصيام سبيل إلى التقوى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183). قال البغوي: «{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم؛ لأن الصوم صلة إلى التقوى؛ لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات»(6)، وقال ابن كثير: «لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (7). 5- الصيام جنة من عذاب النار. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين «(8) ومعنى (الصيام جنة) أي وقاية من النار. قال المناوي: أي وقاية (من النار) لصاحبه؛ لأنه يقيه ما يؤذيه من الشهوات. وقال ابن العربي: إنما كان جُنَّة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنَّار محفوفة بها.(9) وقد تنازع العلماء هل الصيام أوقى للإنسان من النار أم الصلاة ؟ وقد أشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات فقال:» حسبك بكون الصيام جنة من النار فضلًا» وقال ابن حجر: المشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة.(10) 6- باب الريان للصائمين: عن سهل -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد «(11) قال ابن حجر: الريان: من الري اسم علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه؛ لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين (وقد ورد) أن من دخله لم يظمأ قال القرطبي اكتفى بذكر الري عن الشبع؛ لأنه يدل عليه من حيث إنه يستلزمه، قلت: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع.(12) 7- خلوف فم الصائم روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله، يوم القيامة، من ريح المسك»(13) قال ابن عبد البر: قوله[: «لخلوف فم الصائم»...، يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم، يحضهم عليه ويرغبهم فيه، وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم(14). 8- شفاعة الصيام: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبيصلى الله عليه وسلم : «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان»(15) قال الملا علي قاري: «وهذا دليل على عظمتهما» (16). 9- الصيام لا يعدله شيء: فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلىالله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله مُرْني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصيام فإنه لا عدل له»(17) قال السندي: «فإنه لا مثل له» في كسر الشهوة ودفع النفس الأمّارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب.(18) وقال المناوي: فإنه لا عدل له؛ إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كل وجه، وأحاطت به الحسنات من كل جهة. (19) 10- الصوم كفارة للسيئات: بوب الإمام البخاري في صحيحه باب (الصوم كفارة)، ثم ذكر الحديث بسنده عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه:من يحفظ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة» قال: ليس أسأل عن هذِهْ، إنما أسأل عن التي تموج كما يموج البحر، قال: وإن دون ذلك باباً مغلقاً، قال: فيفتح أو يكسر؟ قال: يكسر، قال: ذاك أجدر ألا يغلق إلى يوم القيامة، فقلنا لمسروق: سَلْهُ، أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله فقال: نعم، كما يعلم أن دون غد الليلة»(20) قال ابن عبد البر: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ إِنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا فِتْنَةٌ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مَا لَمْ يُوَاقِعِ الْكَبَائِرَ، دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.(21) قال القاري: «والمعنى أن الرجل يبتلى ويمتحن في هذه الأشياء، ويسأل عن حقوقها، وقد يحصل له ذنوب من تقصيره فيها، فينبغي أن يكفرها بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيّئَـاتِ} (هود:144)(22). الهوامش: 1- رواه البخاري (8) ومسلم (16). 2- البخاري (1904) ومسلم (1151). 3- رواه مسلم (1151). 4- نقله ابن حجر في فتح الباري 4/108. 5- الصيام ورمضان في السنة والقرآن (ص: 119 – 120). 6- تفسير البغوي 1/196. 7- تفسير ابن كثير 1/479. 8- البخاري (1894) ومسلم (1151). 9- حكاه ابنه في طرح التثريب في شرح التقريب 4/91. 10- نقله ابن حجر في فتح الباري 4/104. 11- رواه البخاري (1896) ومسلم 1152). 12- فتح الباري 4/111. 13- البخاري (1894) ومسلم (1151). 14- الاستذكار 3/375. 15- رواه أحمد في مسنده (6626)، والحاكم في المستدرك (2036) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (984). 16- المرقاة شرح المشكاة (4/454). 17- رواه ابن حبان (3426) والنسائي (2222) وصححه الألباني 18- حاشية السندي على سنن النسائي 4/165. 19- فيض القدير 4/330. 20- صحيح البخاري (1895). 21- التمهيد 17/393. 22- مرقاة المفاتيح 8/3426. اعداد: د. ناظم المسباح |
رد: تفسير آيات الصيام
https://al-forqan.net/wp-content/med...s/jpg_2085.jpg تفسير آيات الصيام (2) التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تتقون: أي تحذرون وتصونون أنفسكم من عذاب الله بوقاء الطاعة هذه الحلقات المختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي، فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم أنتقي الألفاظ الغريبة وأشرحها شرحا لغوياً أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً، ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي. ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية؛ فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت ممّا لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها. وقد اعتمدت على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت على كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء. تفسير آيات الصيام قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183). معاني المفردات: - (كُتِبَ): أي فُرِضَ وأُوْجِبَ، مأخوذ من الكَتْب الذي هو ضَمُّ أديم إلى أديم بالخياطة، وفي العُرف يطلق على الحروف المضموم بعضها إلى بعض بالخط أو باللفظ، ويعبَّر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفَرْض والقضاء بالكتابة، ووجه ذلك أن الشيء يراد ثم يُقال ثم يُكْتَب.(1) - (الصِّيَامُ): في اللغة الإمساك، وسيأتي تفصيل التعريف في شرح الآية. والفرق بين الصيام والصوم: أن الصيام هو الكف عن المفطرات مع النية، ويرشد إليه قوله تعالى: {كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم }. وأما الصوم: فهو الكف عن المفطرات، والكلام كما كان في الشرائع السابقة، وإليه يشير قوله تعالى مخاطبا مريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}(مريم:26). حيث رتب عدم التكلم على نذر الصوم.(2) - (تتقون): أي تحذرون وتصونون أنفسكم من عذاب الله بوقاء الطاعة، وأصلها من (وَقَى) التي تدل على دفع شيء عن شيء بغيره.(3) قال ابن رجب رحمه الله: «وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه»(4). سبب نزول الآية: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء، فأنزل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى قوله: {طَعَامُ مِسْكِينٍ} فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك)(5). المعنى الإجمالي: يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين، مخبراً لهم بأنه قد افترض عليهم عبادة الصيام كما فرضها على غيرهم من الأمم السابقة إشعاراً منه بوحدة الدين وأصوله ومقصده، وتأكيداً لأمر هذه الفريضة وترغيبا فيها، وأن من نعم الله على عباده أن شرع لهم ما يتقربون به إليه وينالوا به رضوانه وجنته، مبيناً الحكمة من وراء هذا التشريع وهو تحصيل التقوى؛ إذ إن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ فهو يكسر الشهوة التي هي مبدأ المعاصي. مسائل وفوائد من الآية الخطاب بـ{يا أيها الذين آمنوا}: وردت هذه الآيات في صيغة الخطاب للمؤمنين حتى تتهيأ نفوسهم لهذا الأمر، ويضعوه موضع العناية والتقدير والاهتمام، وإشارة إلى أن ما يأتي بعد الخطاب هو من مقتضيات الإيمان، وقد روي عن ابن مسعود والحسن وغيرهما من السلف: «إذا سمعت الله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}. فأرع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به، أو نهي تُنهى عنه».(6) تعريف الصوم: الصيام لغة ً: يُطلق ويقصد به «مطلقُ الإمساك»؛ أي: التوقُّف عند كلِّ فعل أو قول، فالصائم إنما سمِّي كذلك لإمساكه عن شهوتَيِ البطن والفرج، والمسافر إذا توقَّف عن سيره سُمِّي صائمًا، والصامت عن الكلام صائم، ومنه قوله تعالى: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26)، وكذا الفرس إذا أمسكت عن العَلَف فهي صائمة، وإذا قامت في موقفها، فهي في مصامها، وصوم الماء ركودُه، وصوم الريح توقُّفُها، وصومُ الشمس استواؤها في كَبِد السماء قُبيل الزوال، عند انتصاف النهار(7) وقال الراغب: يقال للفرس الممسك عن السير أو العلف: صائم. قال الشاعر: خيلٌ صيامٌ وأخرى غير صائمةٍ تحت العجاجِ وأخرى تَعلِكُ اللُّجُما(8) والصيام في الاصطلاح: كما قال الحافظ: هو إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، عن شيء مخصوص، بشرائط مخصوصة(9)، وهذا التعريف هو الذي تواطأت عليه تعريفات الفقهاء وإن اختلفت عباراتهم فيه. ولا بد من إضافة قيد (التَّعَبُّد لله) بهذا العمل حتى نفرِّق بين ما هو عادة وما هو عبادة. يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة».(10)مراحل تشريع الصيام: عبادة الصيام كغيرها من العبادات التي كانت مفروضة في شرائع أهل الكتاب من قبلنا كما دل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183). وقد كان الصوم بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب معروفاً عند العرب في الجاهلية، فقد كانوا يصومون يوم عاشوراء كما جاء في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة، وترك عاشوراء، فكان من شاء صامه ومن شاء لم يصمه» (11) ثم جاء الإسلام ليستقرَّ فيه تشريع الصيام على الوجه الأكمل، لكن بعد مراحل تدرج بها تشريع الصيام كما هو الحال في كثير من التشريعات في الإسلام؛ تيسيراً من الله على عباده كما قال سبحانه: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة (185). وهذه المراحل يمكن إجمالها فيما يلي: المرحلة الأولى: تشريع صيام بعض أيام في السنة كصيام يوم عاشوراء، على حد بعض أقوال أهل العلم كالإمام أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية. ومن أدلتهم: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه»(12) قال ابن بطال: «دلّ حديث عائشة على أن صومه كان واجباً قبل أن يُفْرَض رمضان، ودل أيضاً أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضاً»(13). وذهب الجمهور من المفسرين وغيرهم واختاره ابن جرير الطبري(14) إلى أنه لم يفرض على الأمة قبل رمضان صوم، قال ابن حجر: «ذهب الجمهور – وهو المشهور عند الشافعية – إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان» (15). المرحلة الثانية: التخيير في صيام عاشوراء، وكان ذلك بعد الأمر بصيام أيام معدودات، التي هي عِدَّة أيام شهر رمضان، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 183 – 184). وقد صام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضانُ ترك(16)، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه»(17). المرحلة الثالثة: الترخيص بالإفطار في رمضان للقادر على الصيام، مع إيجاب الفدية عليه، فقد كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأدَّى الفدية؛ حيث إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا قومًا لم يتعوَّدوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديدًا. قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 184). المرحلة الرابعة: نسخُ هذا الترخيص عند القدرة على الصيام؛ وذلك بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 185)؛ فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } (البقرة: 184)، كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها(18)، فصار الأمر بهذه المرحلة أن كلَّ من شهد استهلال شهر الصوم أي دخوله من المسلمين، فقد وجب صيامه عليه، ولا رخصة له بالإفطار حال كونه قادرًا على الصيام، حتى لو أدَّى فديةً طعام مسكين. المرحلة الخامسة: تخصيص الترخيص بالإفطار في رمضان في حالين؛ الأول: المرض في البدن الذي يشقُّ معه الصيام، أو يؤدي إلى تأخُّر بُرء المريض، أو يتسبب بزيادة مرضه، والثاني: حال السفر؛ بأن كان متلبِّسًا بالسفر وقت طلوع الفجر، فله في هذين الحالين أن يفطر، ثم يقضي بعد رمضان صيام أيامٍ، عددَ ما أفطره حالَ المرض أو السفر؛ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } (البقرة: 185).(19) ومع دخول الصيام مرحلة الإلزام ونسخ التخيير فيه للقادر على صيامه كان الصوم من عشاء اليوم الأول إلى مغرب اليوم الثاني، فكان الصحابة يصومون طيلة اليوم والليلة عدا ما بين المغرب والعشاء،وإن نام قبل أن يفطر أمسك بقية ليلة ويومه؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه : قال: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبيصلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (البقرة: 187) ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: {ْوَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} (البقرة: 187)(20). وقد استقر التشريع - ولله الحمد - على ذلك الوجه الأكمل بعد أن تدرَّج بهم، مريدًا بهم اليسر، وإتمام عدة صيام الشهر المبارك، وذلك بصيامه كاملاً عند عدم العذر، وبتدارك ما فات منه بعذرٍ بالقضاء؛ قال تعالى: { َيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185). أما تاريخ تشريع فريضة الصوم، فقد كان ذلك في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة الشريفة، على الكيفية التي استقرَّ عليها، وقد صامه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين.(21) حكم الصيام: أما حكم الصيام فقد أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض. والدليل على الفرضية الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183) وقوله {كتب عليكم}: أي فرض. وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:185). وأما السنة، فحديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)(22). كما انعقد الإجماع على فرضية صوم شهر رمضان، لا يجحدها إلا كافر (23). صيام الأمم السابقة: أشار قوله تعالى {كما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} إلى فرضية الصوم على الأمم من قبلنا، لكنه لم يشرح كيفيته ولا زمنه ولا مقداره، ولا من هي الأمم التي شرع فيها الصوم. - فأما المراد بالأمم السابقة فقد قيل هم أهل الكتاب، وقيل هم النصارى فقط، وقيل هم جميع أهل الملل(24)، والذي يذكره بعض المفسرين أن الصوم كان من لدن آدم عليه السلام، وأن نوحا -عليه السلام- صام رمضان بعد أن هبط بالسفينة. قال القرطبي -رحمه الله-: «قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة.... وقال مجاهد: كتب الله -عز وجل- صوم شهر رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم»(25). والذي يظهر من كلام الإمام مجاهد -رحمه الله- واختاره القرطبي أن الصوم كان من لدن آدم عليه السلام، لكن يبقى القول بتحديد شهر رمضان، قول يفتقر إلى دليل وليس ثمة دليل يؤيد ذلك والله أعلم. وأما كيفية الصيام فقد تنازع العلماء في دلالة كاف التشبيه من قوله تعالى: {كما كتب على الذين من قبلكم..}. قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: «وفي موضع التشبيه في كاف (كَمَا كُتِبَ) قولان: - أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته لا في عدده، قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام وهو عليهم ثابت، وقد أرخص لكم. - والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام، ثم في ذلك قولان: - أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم، قال عطية عن ابن عباس في قوله -تعالى- كما كتب على الذين من قبلكم قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ برمضان.. - والثاني: أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه، قال ابن عباس فقدم النصارى يوما ثم يوما وأخروا يوما، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. انتهى.(26) وقد دلت نصوص من القرآن الكريم على نوع من أنواع الصوم عند الأمم السابقة وهو الصوم عن الكلام، في آية مريم عند قوله تعالى على لسان مريم: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}(مريم: 26) ومعنى صَوْما: أي صمتا، روى ابن جرير عن السدي قال: فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ».(27) الصيام فرض على الأمم السابقة وحكمة التذكير بأن الصيام قد فرض على الأمم السابقة هو تخفيف وقعه على النفوس؛ فالصائم يشعر بمشقة مَنْع نفسه عما اعتاده من اللذائذ والشهوات، والله -سبحانه وتعالى- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به، وتستجيب له مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه، فيقرر لهم أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين وأن الغاية واحدة لجميع الشرائع.(28). وقد لخص الإمام ابن عاشور -رحمه الله- أغراض هذا التذكير في ثلاثة أغراض: - الغرض الأول: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها. وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم - الغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة حتى لا يستثقلوا هذا الصوم فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب. - الغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة. الحكمة من الصيام: قوله تعالى: (لعلكم تتقون) جملة تعليلية جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه- سبحانه- يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الصوم جنة» أي وقاية من الوقوع في المعاصي، ووقاية من عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة.(29) قال ابن عثيمين رحمه الله: ومن فوائد هذه الآية أنه ينبغي سلوك الأسباب الموصلة إليها؛ لأن الله أوجب الصيام لهذه الغاية؛ إذاً هذه الغاية غاية عظيمة؛ ويدل على عظمها أنها وصية الله للأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } (النساء: 131). ويتفرع على هذه الفائدة اعتبار الذرائع؛ يعني ما كان ذريعة إلى الشيء فإن له حكم ذلك الشيء؛ فلما كانت التقوى واجبة كانت وسائلها واجبة....(30). الهوامش: 1- التوقيف على مهمات التعاريف ص279. 2- معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص325. 3- معجم مقاييس اللغة 6/131. 4- جامع العلوم والحكم ص398. 5- رواه أبو داود برقم (507) وصححه الألباني، وهو جزء من حديث طويل. وانظر تفسير الطبري 3/420 بتحقيق أحمد شاكر. 6- انظر تفسير ابن كثير 1/200. ونقله ابن المبارك في الزهد والرقائق 1/12. 7- انظر (لسان العرب)، لابن منظور (4/2592)، و(القاموس المحيط)، للفيروز آبادي: ص: 1460). 8- مفردات ألفاظ القرآن/ 500. 9- فتح الباري 5/1. 10- الشرح الممتع (6/310). 11- رواه البخاري (4504). 12- رواه البخاري في كتاب التفسير، باب {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.. } (4502)، ومسلم في كتاب الصيام، باب صوم عاشوراء (1125). 13- شرح ابن بطال على البخاري (4/141). 14- جامع البيان (3/417). 15- فتح الباري (4/103)، وانظر: المجموع (6/433 – 435) للنووي. 16- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم: (1892)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما. 17- متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم؛ باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه - كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126). 18- متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه -؛ كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126). 19 ملخصا من كتاب (الصوم جنة) د. خالد بن عبد الرحمن بن علي الجريسي ص17فما بعدها. 20- صحيح البخاري كتاب الصوم باب قول الله تعالى:(أحل لكم ليلة الصيام..)، برقم (1915) 21- أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم: (1892)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما. 22- رواه البخاري كتاب الإيمان باب قول النبيصلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس...)رقم (8)، ومسلم في الإيمان باب أركان الإسلام ودعائمه العظام رقم (16). 23- الموسوعة الفقهية الكويتية 28/8. 24- زاد المسير 1/140. 25- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/290. 26- زاد المسير ج1 ص184: 185(بتصرف). 27- تفسير الطبري 15/520. 28- في ظلال القرآن لسيد قطب 1/168. 29- التفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي 1/381. 30- تفسير العثيمين 2/318. اعداد: د. ناظم المسباح |
رد: تفسير آيات الصيام
https://al-forqan.net/wp-content/med...s/jpg_2091.jpg تفسير آيات الصيام (3) جواز الفطر حال المشقة من سفر ومرض وعليه القضاء في أيام أخر يجوز الفطر حال المشقة من سفر ومرض وعليه القضاء في أيام أخر إذا زال المرض وانقضى السفر، قال الله تعالى:{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة:184). معاني المفردات: ( أياماً معدودات): أي مؤقَّتات، أو قليلة العدد، غاية في السهولة، وهو أسلوب عربي يستعمل للتقليل من الشيء وتهوينه، مثل قولهم: «دراهم معدودة»، وجاء لفظ (أياماً) بصيغة النكرة، والنكرة تفيد القلة، وتفيد الكثرة، وتفيد العظمة، وتفيد الهون - بحسب السياق؛ ولما قرنت هنا بقوله تعالى: {معدودات} أفادت القلة. و{معدودات} من صيغ جمع القلة؛ لأن جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم من صيغ جمع القلة؛ يعني: فهي أيام قليلة(1). - (فَعِدَّة): والعِدَّة فعلة من العدد، وهو بمعنى المعدود؛ لأن العدد والمعدود واحد، والمعنى: فعليه عدة، أو فالحكم عدة، أو فالواجب عدة، من غير أيام مرضه وسفره(2) (يطيقونه): يُطِيقُونَهُ يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب؛ لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، والوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة. قال الراغب: والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، ومنه: {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}. أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه: لا تحملنا ما لا قدرة لنا به. - (فدية) جمعها (فِدَى) وهو بذل المال لتخليص النفس، ومنه: فداء الاسير(3)، ثم أطلق على ما يُقدَّم لله تعالى جزاءً لتقصير في عبادة. وهي في الاصطلاح: ما يجب لفعل محظورٍ أو ترك واجب، وقيل: الفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله الإنسان، يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها(4). - (مسكين): المسكين، معناه في كلام العرب: الذي سكَّنه الفقر، أي قلل حركته. واشتقاقه من السكون؛ يقال: قد تمسكن الرجل، وتسكن إذا صار مسكيناً، وتمدرع، وتدرع: إذا لبس المدرعة أي الجبة وغالبا تكون من الصوف(5) - (تطوع) التطوع تَفَعُّلٌ من الطاعة، وتَطَوَّعَ كذا: تَحَمَّلَه طَوْعًا، وتَكَلَّفَ استطاعته، وهو في اصطلاح العلماء ما تَبَرَّعَ به الإنسان من ذات نفسه مـما لا يلزمه وغير مفروض عليه(6). المعنى الإجمالي: لما أخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أنه قد فرض عليهم الصوم وهو أعلم بما في نفوسهم من الضعف، أراد أن يخفف عنهم ويسليهم فقال إنما هي أيام قليلة غاية في السهولة يستطيع أن يتحملها الإنسان العادي، ثم جاء لهم بتيسير آخر وهو جواز الفطر حال المشقة من سفر ومرض، لكن لما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة. أما الذين يشق عليهم الصيام كالكبير والمريض مرضًا مزمنًا فعليهم فدية عن كل يوم طعام مسكين عوضًا عن فوات الصوم في وقته، وتحصيلا للحكمة من الصيام وهي تحقيق التقوى التي تتأتى من امتثال لأمر الله تعالى، وتحقيقًا لمبدأ العبودية لله تعالى. مسائل وأحكام: المسألة الأولى: المراد بالأيام المعدودات في قوله:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. ذهب العلماء في بيان المراد بها إلى مذهبين: المذهب الأول: أنها غير رمضان، قيل هي ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء وذلك لوجوه عدة: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ»(7)؛ فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كان صوماً آخر واجباً. وثانيها: أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة، وهو لا يجوز. وثالثها: قوله تعالى هنا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(البقرة: 184)، تدلُّ على أنَّ هذا واجبٌ على التخيير، إن شاء صام، وَإِنْ شاء أعطى الفدية، وأَما صوم رمضان، فواجبٌ على التعيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان. والمذهب الثاني وهو اختيارُ جمهور المحقِّقين، وبه قال ابن عباس رضي الله عنه من أن المراد بهذه الأيَّام المعدُوداتِ هو صومُ رمضان، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهذا محتملٌ ليوم ويومين، وأيَّام، ثم بينه بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فزال بعض الاحتمال، ثم بَيَّنه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ}(البقرة: 185)، فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان، وإذا أمكن ذلك، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ(8). وقالوا: أما حديث: «إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ»، ضعيف لا يحتج به، وإن صح فإنه لا يدل على أن الصوم المنسوخ ليس رمضان بل يحتمل رمضان أو غيره وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل الاستدلال به. وأما تكرار ذكر المسافر والمريض في الآية الثانية؛ فحتى يبين أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولا، فإن حكم الصوم لما انتقل من التخيير إلا الإيجاب، قد يظن أن الإيجاب ينطبق أيضاً على المريض والمسافر مثل الصحيح والمقيم، فأعاد الله ذكر حال المريض والمسافر حتى يقطع هذا الظن ويبين أنهما على حالهما في الرخصة سواء في مرحلة التخيير أو الإيجاب والله أعلم(9). - المسألة الثانية: صيام أهل الأعذار. من قوله تعالى: {فمن كان مريضا أو على سفر}. بعد أن ذكر الله فرضية الصيام في الآية الأولى، جاءت الآية الثانية كالاستثناء من قوله تعالى: {كتب عليكم}؛ لأن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم}، يشمل المريض، والمسافر، والقادر، والعاجز. ولقد قسمت الآية الأعذار إلى قسمين: عذر المرض، وعذر السفر. وصنفت أهل الأعذار إلى صنفين: صنف يرجى زوال عذره، وصنف لا يرجى زوال عذره. أما الصنف الأول الذي يرجى زوال عذره: فهو المسافر، أو المريض مرضا خفيفا يرجى برؤه، والحكم في هذا الصنف أن يفطر ما دام العذر قائما، فإذا ذهب العذر صام وقضى عن تلك الأيام التي أفطرها لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، ولا تجوز في حقه الفدية. وأما الصنف الثاني الذي لا يرجى زوال عذره، فهو المريض مرضا مزمنا، أو الكبير في السن الذي لا يقوى على الجوع والعطش لكبر سنه؛ فهذا الصنف كتب الله له الفدية بدلا من الصوم وهناك عذر ثالث لم تذكره الآية، وهو عذر الحيض والنفاس، والحامل أو المرضع إن خافت على نفسيهما أو ولديهما، ويلحق أهل هذا العذر بالصنف الأول الذي يرجى زوال عذره؛ لأنه عذر مؤقت. - المسألة الثالثة: ضابط المرض والسفر من قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر} ذكرت الآية عذرين من أعذار الفطر وهو المرض والسفر، وكلا هذين العذرين يجمعهما حصول الضرر على المكلف، لكن الضرر قد يتفاوت من حالة لأخرى ومن شخص لآخر. - أولا: المرض المبيح للفطر: قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: فإذا قال قائل: ما مقياس الضرر؟ قلنا: إن الضرر يعلم بالحس، وقد يعلم بالخبر؛ أما بالحس: فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره، ويثير عليه الأوجاع، ويوجب تأخر البرء، وما أشبه ذلك. وأما الخبر: فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، أي: بأنه يضره؛ فإن أخبره عامي ليس بطبيب فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير عالم، ولكنه متطبب، فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير ثقة فلا يأخذ بقوله. وهل يشترط أن يكون مسلماً لكي نثق به؛ لأن غير المسلم لا يوثق؟ فيه قولان لأهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، وأننا متى وثقنا بقوله عملنا بقوله في إسقاط الصيام؛ لأن هذه الأشياء صنعته، وقد يحافظ الكافر على صنعته وسمعته، فلا يقول إلا ما كان حقاً في اعتقاده، والنبي صلى الله عليه وسلم وثق بكافر في أعظم الحالات خطراً، وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً مشركاً من بني الدَيَّل، يقال له: عبد الله بن أريقط؛ ليدله على الطريق وهذه المسألة خطرة؛ لأن قريشاً كانت تبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجعلت مائة ناقة لمن يدل عليه، ولكن الرسولصلى الله عليه وسلم كان واثقاً منه، فدل هذا على أن المشرك إذا وثقنا منه فإننا نأخذ بقوله(10). وقال في موضع آخر -رحمه الله-: (وللمريض حالات: الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر. الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله. الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}(النساء: 29)(11). ثانيا:السفر المبيح للفطر: مذهب جمهور العلماء أن المسافة التي يفطر فيها الصائم ثمانية وأربعون ميلاً، وتقدير ذلك بالكيلو متر نحو ثمانين كيلو متر تقريباً(12). وذهب بعض العلماء إلى أن السفر لا يحدد بمسافة معينة، بل المرجع في ذلك إلى العرف، فما عده الناس في العرف سفراً فهو السفر الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية كالجمع بين الصلاتين والقصر والفطر للمسافر(13). وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك لأن الله تعالى لم يحدد مسافة معينة لجواز القصر وكذلك النبي[ لم يحدد مسافة معينة(14). الهوامش: 1 - التفسير الثمين لابن عثيمين 2/320. 2 - فتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان 1/364. 3 - معجم لغة الفقهاء 1/80. 4 - تاج العروس 39/220. 5 - انظر الزاهر في معاني كلمات الناس1/127. 6 - انظر غريب الحديث لابن قتيبة 1/229، معجم مقاييس اللغة 3/431. 7 - رواه مالك في الموطأ برقم (662) والبيهقي في السنن الكبرى برقم (19020)، قال عنه الألباني (ضعيف جدا) انظر السلسلة الضعيفة (904). 8 - انظر اللباب في علوم الكتاب لسراج الدين النعماني الحنبلي 3/256 (بتصرف). 9 - انظر تفسير الرازي 5/242. 10 - الشرح الممتع على زاد المستقنع 6/330. 11 - التفسير الثمين 2/95. 12 - وقيل 85 كيلومتراً، وقيل 86.6 كيلوا متراً. 13- الموسوعة الفقهية الكويتية 25/28. 14 - انظر مجموع الفتاوى 24/109. اعداد: د. ناظم المسباح |
رد: تفسير آيات الصيام
https://al-forqan.net/wp-content/med...s/jpg_2101.jpg تفسير آيات الصيام (4) أحكام أصحاب الأعذار في الفطر من شهر رمضان مع وجوب القضاء والكفارة هذه الحلقات المختصرة تضمنت شرحاً موجزاً لآيات الصيام الواردة في القرآن الكريم، وما حوته من أحكام شرعية متعلقة بهذه العبادة العظيمة، وقد ذهبت في شرحها مذهب التفسير التحليلي فجعلت أذكر الآية القرآنية كما هي في المصحف، ثم انتقي الألفاظ الغريبة وأشرحها شرحا لغوياً أو أبين معناها الشرعي الخاص إن وجد، ثم إن كانت الآية نزلت لسبب معين فإني أذكره نقلاً، ثم أذكر معنى الآية إجمالاً على طريقة التفسير الإجمالي، ثم أنتقل إلى صلب الموضوع والهدف من هذا الشرح وهو الأحكام الفقهية في الآية فأتناول بالشرح المفصل ما حوته الآية من هذه الأحكام وغيرها مما دل عليه ظاهرها، أو أشارت إليه، أو استنبطه العلماء منها، ثم أختم الشرح ببعض الفوائد المتعلقة بالآية إن وجدت والتي لا صلة لها بالأحكام الفقهية كالفوائد الأصولية أو السلوكية وغيرها، وقد اعتمدت على التفاسير الفقهية والتحليلية في شرح الآيات كتفسير القرطبي وابن العربي والشوكاني وتفسير ابن عثيمين وغيرهم ممن أثبته في حواشي هذا الشرح، وعرضت على كثير من النوازل العصرية المتعلقة بالصيام مع بحثها والترجيح فيها متى ما لاح لي الحق واطمأنت إليه نفسي وسبقني إليه سلف من العلماء. المسألة الرابعة: قضاء الصيام دل قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} على وجوب القضاء، والآية فيها مجاز بالحذف وهو جائز في القرآن الكريم، والمعنى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فأفطر أَوْ عَلى سَفَرٍ فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، أي: فعليه صوم عدد أيام المرض، أو السفر من أيام أخر إن أفطر، ويسمى هذا الأسلوب في العربية بفحوى الخطاب، وهو ما يفهم من التقدير لا من اللفظ. وقوله-تعالى-: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان؛ لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وقال القرطبي: وفي التعبير بــ(عدة) إشارة إلى وجوب استيفاء ما أفطره من الأيام. وروى البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: نزلت: «فعدة من أيام أخر متتابعات «فسقطت متتابعات»، وجاء في موطأ مالك: أنها قراءة أبي بن كعب. واستدل بعضهم بهذا الزيادة على وجوب التتابع في قضاء رمضان، ولحديث رواه البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه). والصحيح عدم وجوب التتابع، لضعف حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين، وبدون زيادة (متتابعات) وظاهر الآية يدل قوله: {فعدة من أيام أخر}، يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع، وإنما قالوا: إن صام القضاء متتابعا كان أفضل، لا لأجل دلالة الآية وإنما لاستحباب المسارعة في قضاء العبادة ولعموم قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}آل عمران (133)، وقوله صلى الله عليه وسلم : «فدين الله أحق أن يقضى» وغيرها من الأدلة التي تحث على المسارعة إلى فعل الطاعات. وإلى هذا القول ذهب جماعة من الصحابة كأبي عبيدة عامر بن الجراح، وابن عباس، وأبي هريرة، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص وهو مذهب الجمهور. قال القرطبي في تفسيره: وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء، وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعية، والدليل على صحة هذا قول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر فوجب أن يجزيه، قال ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معيناً، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. ومن فوائد لفظ (فعدة) أن القضاء لما فات من رمضان يكون بالعدد: فمن أفطر رمضان كله، وكان ثلاثين، وقضاه في شهر بالهلال، وكان تسعة وعشرين يوما، صام يوما آخر، وإن فاته صوم رمضان وهو تسعة وعشرون يوما، وقضاه في شهر - وكان ثلاثين يوما - فلا يلزمه صوم اليوم الأخير، لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. وقال آخرون: إن قضى شهرا هلاليا أجزأه، سواء كان تاما أم ناقصا وإن لم يقض شهرا، صام ثلاثين يوما(8). - المسألة الخامسة: نسخ آية الصيام. قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}: أي يقدرون على صيامه. وقرأ ابن عباس وعلى الذين (يُطَوَّقُونَه) بضم الياء وفتح الطاء وتخفيفها وفتح الواو وتشديدها، أي: يكلفون الصوم. وللعلماء أقوال في المراد بقوله- تعالى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} أشهرها قولان: - القول الأول: أن معناها يقدرون على صيامه مع مشقة وتعب، ويؤيد هذا التفسير قراءة ابن عباس «يُطَوَّقُونَه»، وعلى هذا فالآية عندهم محكمة وإنما نزلت في شأن الشيخ الكبير الهرم، والمرأة العجوز، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا، ورجح هذا العلامة السعدي -رحمه الله- وحملها بعضهم على كل من شق عليه الصوم فأدخل في ذلك الحامل والمرضع أخذا بمدلول اللفظ، وأن الطاقة هي القدرة مع المشقة. - القول الثاني: أن معناها: يستطيعون صيامه مطلقا، وعلى هذا فتكون الآية منسوخة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وأنها نزلت في المقيم الصحيح خيَّره الله- تعالى- بين الصوم وبين الفداء، وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم. وقال بن عباس إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما. ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها. وفي رواية للإمام مسلّم من طريق آخر عن سلمة- أيضا- قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية: {(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وهذا هو الراجح لمطابقة حديث أم سلمة لظاهر الآية. المسألة السادسة: كفارة الصوم: - من قوله: {فدية طعام مسكين} والمعنى من لم يشأ أن يصوم فعليه فدية وهي أن يطعم عن كل يوم مسكينا، وكان هذا في وقت التخيير كما بينا، وقد قرئت بالإضافة {فِدْيةُ طَعامِ مِسكين} وهذا ليس بالجيد؛ لأن الطعام تفسير للفدية، وليست الفدية بمضافة إلى الطعام. - ومعنى (فدية) أي فداء يفتدي به عن الصوم؛ والأصل أن الصوم لازم لك، وأنك مكلف به، فتفدي نفسك من هذا التكليف والإلزام بإطعام مسكين. - وأما كيفية الإطعام: فإن عليهم لكل يوم طعام مسكين؛ وليس المعنى طعام مسكين لكل شهر؛ بل لكل يوم؛ ويدل لذلك القراءة الثانية في الآية: {طعام مساكين} بالجمع؛ فكما أن الأيام التي عليه جمع؛ فكذلك المساكين الذين يطعَمون لا بد أن يكونوا جمعاً. - وأما المراد بالمسكين: فهو من لا يجد شيئاً يكفيه لمدة سنة؛ فيدخل في هذا التعريف الفقير؛ فإذا مر بك المسكين فهو شامل للفقير؛ وإذا مر بك الفقير فإنه شامل للمسكين؛ أما إذا جمعا فقد قال أهل العلم: إن بينهما فرقاً: فالفقير أشد حاجة من المسكين؛ الفقير هو الذي لا يجد نصف كفاية سنة؛ وأما المسكين فيجد النصف فأكثر دون الكفاية لمدة سنة. - ومقدار الكفارة: أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مداً من غالب قوت البلد وهذا قول فقهاء الحجاز، وقال بعض فقهاء العراق: عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم، وقال بعضهم: نصف صاع من البر وصاع من غيره، وقال ابن عباس: يعطي كل مسكين عشاءه وسحوره. - وأما نوعها: فقد أطلق الله -تعالى- لفظ الإطعام ولم يذكر نوعه ولا كيفيته، فيرجع في بيان ذلك للعرف، والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى الحقيقة العرفية - ومن فوائد إطلاق لفظ الإطعام التيسير على المكلفين، في اختيار كيفية الإطعام إما بتمليك الفقير أو بتغذيته غداء أو عشاء؛ لأن الكل يصدق عليه لفظ الإطعام. المسألة السابعة: الزيادة على الكفارة. من قوله -تعالى-: {فمن تطوع خيرا فهو خير له}. التطوع: السعي في أن يكون الإنسان فاعلاً للطاعة باختياره بدون إكراه. والخير: مصدر خار إذا حَسُنَ وَشَرُفَ، وهو منصوبٌ لتضمين تطوع معنى أتى، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيراً. قال الطبري -رحمه الله- والمعنى: فإن أطعم مسكينين فهو خير له، وقيل المراد بها: فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية، والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله -تَعَالى- ذِكْرُه عَمَّمَ بقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً}، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذِكْرُه عَنَى بقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً}، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له؛ لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل. المسألة الثامنة: الصيام أفضل من الصدقة. قوله: {وأن تصوموا خير لكم} معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية وفيه ترغيب في الصوم وتحبيب فيه. أي: وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم، أو أيها المكلفون جميعا خير لكم من كل شيء سواه، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم، وحسن جزائه في آخرتكم. وعن أبى أمامه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا عِدْل له- أي لا يعادل ثوابه بشيء- فقلت: يا رسول الله مرني بعمل، فقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. فقلت: يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له»؛ وذلك لأن الأفعال البدنية كثيراً ما يدخلها الرياء إلا الصوم؛ فإنه لا يوقف عليه ما لم يخبر الإنسان عنه بلسانه، ولا عبادة يدخل فيها الإنسان بالنية المجردة إلاً الصوم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة». وقوله: {إن كنتم تعلمون} أي: إن عرفتم ما فيه من المنفعة، وتحققتم ما يثمره لكم لم تتهاونوا في تحمله، وليس (إن) شرطية، بل استئنافية، ينبغي الوقوف قبلها، واستئناف الكلام بها. فوائد متفرقة من الآية: بينت الآية سعة رحمة الله -تعالى- بعباده في هذا التكليف؛ حيث تدرج بهم وأخذ بهم جانب اليسر والسعة. نقل الإمام الرازي في تفسيره عن الإمام القفال -رحمه الله- قال: «انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت، ثم ثانيا: بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف، ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة، ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا». اعداد: د. ناظم المسباح |
رد: تفسير آيات الصيام
https://al-forqan.net/wp-content/med...s/jpg_2112.jpg تفسير آيات الصيام (5) الغرض تحقيق التقوى وليس تعذيب عباده المكلفين – امتن الله -تعالى- على عباده ببيان تيسيره عليهم في أمر الصيام وسائر أحكام الشريعة قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(البقرة: 185). معاني المفردات:- (شهر): يطلق الشهر في اللغة ويراد به الوضوح والإضاءة في الأمر، قال ابن فارس: «الشين والهاء والراء أصل صحيح يدل على وضوح في الأمر وإضاءة، من ذلك الشهر، وهو في كلام العرب الهلال، ثم سُمي كل ثلاثين يوماً باسم الهلال، فقيل: شهر». والشهر: مأخوذ من الشهرة يقال، شَهَرَ الشيء إذا ظهر، ويطلق على العدد المعروف من الأيام؛ وسمي بذلك لِأَنَّهُ يُشْهَر بالقمر، وَفِيه عَلامَة ابْتِدَائه وانتهائه، وَالْجمع أشْهُرٌ وشُهُورٌ. - (رمضان) من الرَّمْض؛ وهو شدة الحر، ومنه سمي رمضان؛ لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيامَ شدة الحر ورمضه، وكان هذا قبل الإسلام. - (القرآن) مصدر مشتق من (قَرَأَ) وأصله من «القَرْء» بمعنى الجمع والضم، يُقال: «قرأت الماء في الحوض»، أي جمعته فيه، وسمي القرآن قرآنًا؛ لأنه يجمع الآيات والسور ويضم بعضها إلى بعض، قال تعالى: {إِنَّ علينا جَمْعه وقُرآنه} أَي جَمْعَه وقِراءَته {فَإِذا قَرَأْنَاهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، أَي قِراءَتَهُ. وروي عن الإمام الشافعي أنه كان يقول: (القرآن) اسم لكتاب الله وليس بمشتق من قَرَأْتُ. - وقال الفرّاء: «هو مشتق من القرائن لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا وهي قرائن). - (بينات) جمع بينة مأخوذ من (البَيْن) وهو الوضوح، والمعنى أنه واضح الدلالة، وفي اللغة: البّيِّنَةُ: الحجَّةُ الوَاضِحَةُ. وسُميت آيات القرآن بيِّنَات لوضوح دلالتها ولإبانتها باطل ما كان عليه المشركون. - (الفرقان) مصدر (فَرَقَ) الذي يدل على التمييز بين الشيئين، ثم أُطْلق على كل ما فُرق به بين الحق والباطل، ومن معانيه: الحجة والبرهان، وهما بمعنى واحد؛ لأن الحجة تفرق بين الحق والباطل، ومن معانيه الهداية والنور ومنه قوله تعالى: {إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}(الأنفال: 29)، و(الفرقان) اسم من أسماء القرآن الكريم، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان: 1)؛ وسمي بذلك؛ لأنه فرق بين الإيمان والكفر والهدى والضلالة، وكل الكتب السماوية يصْدُق عليها هذا الاسم، ومنه قوله تعالى في حق التوراة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} - (شَهِدَ) الشين والهاء والدال أصل يدل على الحضور والعِلم والإعلام، وقوله {فمن شَهِدَ منكم الشهر} أي حضر الإعلان عن رؤيته، من الشهادة ضد الغيَبة.وقيل معناه: شَاهَدَ، لكن يرد عليه إشكال ذكر الشهر، فالشهر مدة ما بين الهلالين، والمدة لا تشاهد، وقد يقال: إن في الآية حذفاً تقديره {فمن شهد منكم هلال الشهر}، لكن حمل المعنى على الحضور أولى لعدم الحذف. وتفسير (شهد) بالمشاهدة مردود أيضاً بإشكال آخر وهو أن الناس لا يشترط في وجوب الصوم عليهم أن يرى كل واحد منهم الهلال، بل يكفي في ذلك رجلان يشهدان برؤيته، ويرجحه أيضا قوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر} أن السفر يقابل الحضر. - (العِدَّة) مصدر (عَدَّ): وتطلق العدة ويراد بها المعدود، والمقصود بها في الآية أيام رمضان. المعنى الإجمالي: بعد أن أوجب الله -سبحانه وتعالى- في الآيتين السابقتين الصيام في أيام معدودات، جاء هنا ليكمل البيان ويوضح المقصود بأن الأيام المعدودات التي أُطْلِقَتْ في الآية الأولى هي شهر رمضان. ثم ذهب يبين سبب اختيار هذا الشهر من بين الشهور وأنه شهر مبارك أنزل الله فيه القرآن هداية للناس فهم يستدلون به على ما ينفعهم في دينهم، ودنياهم؛ لأنه مشتمل على الآيات البينات التي يهتدي بها الناس إلى الحق فهو جامع بين الهداية، والبراهين الدالة على صدق ما جاء فيه من الأخبار، وعلى عدل ما جاء فيه من الأحكام. وبعد أن بين فضيلته، الحكمة في تخصيصه عَيَّن صيامه على المقيم الصحيح، ثم لما كان النسخ للتخيير، بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر> لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة فقال: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر}. ثم امتن الله -تعالى- على عباده ببيان تيسيره عليهم في أمر الصيام وسائر أحكام الشريعة, وأن الغرض من ذلك تحقيق التقوى وليس تعذيب عباده المكلفين، وأن هذا التيسير في العبادة والهداية إليها يستوجب الشكر ويكون بالإتيان بها على النحو الذي يُرضي الله -تعالى- وبإتمام عدتها دون نقص، ثم بتعظيمه وتكبيره فإن فعل العبد ذلك فقد حقق التقوى المقصودة من العبادة، وحقق مقام الشكر الذي أراده الله قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران:123). مسائل وأحكام المسألة الأولى: تعلق الأحكام الشرعية بالشهر العربي. الشهر العربي هو الشهر المرتبط بالهلال وليس بالحساب، وبه يحسب التاريخ الهجري، وهو التاريخ الذي شرعه الله لجميع الشرائع السماوية، لكن اليهود والنصارى تركوه وابتدعوا التأريخ الشمسي والميلادي؛ ولهذا كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام؛ إنما هي على حساب القمر وسَيْرِه ونزوله، لا على حساب الشمس وسيرها حكمةً من الله ورحمة، وحفظاً للدين وأهله لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذر الغلط والخطأ، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والخطأ ما دخل في دين أهل الكتاب.قال القرطبي في تفسير قوله -تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}(التوبة: 36): «هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعدها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر, وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج. المسألة الثانية: كيفية ثبوت الشهر العربي. يعرف دخول الشهر العربي أو خروجه بالأهلة، ولم تكن للعرب قديما وسيلة في معرفة دخول الشهر وخروجه إلا رصد القمر، الذي يبدأ هلالاً ينمو ويكبر حتى يكتمل بدرًا، ثم يتناقص ويصغر حتى يعود دقيقًا كالعرجون القديم، ثم يختفي ليظهر من جديد هلالاً يبدأ دورة ثانية، وهكذا تتم دوراته تستغرق كل منها شهرًا، تتكون وحداته من أيام ترتبط بالليل والنهار اللذين يحددهما جغرافيًّا مشرق الشمس ومغربها. ثم جاء الإسلام وأقر هذه الوسيلة فقال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }(البقرة:189)، ثم جاء بتشريعات تؤدى في أوقات محدودة، منها الصيام والحج، وعدة النساء وغيرها قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(البقرة: 185)، وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(البقرة:197). وقال أيضاً: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ..}(الطلاق:4).وعَنِيَ أيضاً بضبط عدة أيام الشهر حتى لا يجتهد مجتهد فيُغيرها عن حقيقتها كما غيرها اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم : «إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا» يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين) اعداد: د. ناظم المسباح |
الساعة الآن : 03:11 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour