عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 18-10-2010, 08:29 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سورة يوسف: قراءة نفسية


وبعد هذا التذكير الذي قام به يوسف لتحضير نفسيَّة الفتيان، بدأ في تأويل رؤيَيْهما؛ حيث قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]. فانظر إلى الأسلوب المباشر في تفسير الرؤيا، بعد التحضير النفسي الذي قام به قبل ذلك، وانظر إلى الاختصار الشديد والواضح جدا في عملية التأويل، وانظر إلى المعاني الرمزية في الرؤيا، وكيف استطاع يوسف - عليه السلام - بذكائه ونفاذ بصيرته، أن يدرك - بإلهام من الله تعالى - القيمة التنبُّئيَّة للرؤيا، بناءً على فهمه لموقفَيْ صاحبَيْه في السجن، وبناءً على ما كانا يشعران به ويفكران فيه.

وإيماناً منه بنجاة أحدهما؛ طلب منه يوسف - عليه السلام - أن يتذكره بعد خروجه، وأن يذكره عند ربه، لعله يعيد النظر في الحكم الصادر ضده ظلماً وبهتاناً، ولكن الفتى انشغل بأمور دنياه، ونسي تماماً ما وصَّاه به يوسف، ولم يتذكر التماس يوسف بأن يذكر قصته عند الملك، إلا بعد أن سمع رؤيا الملك، وقد مضت قبل ذلك بضع سنين، قضاها يوسف - عليه السلام - في السجن صابراً محتسباً، ولك أن تتصور مختلف الانفعالات والأفكار التي جالت بذهن يوسف وهو يقاسي وحيداً آلام السجن، بعيداً عن أهله ووطنه، ولكنْ لم يكن يوسف وحيداً في السجن؛ بل كان الوحي معه، وكان يدرك تماماً مغزى الرؤيا التي رآها؛ فكان ذلك عزاءه ومحطَّ آماله، فلم ييئس، ولم يقنط، وبقي ينتظر الفرج.

رؤيا الملك:

ويشاء الله - تعالى - أن يُرى الملك رؤيا لم يستطع فهم مغزاها؛ فلجأ إلى حاشيته، يقصُّ رؤياه، لعله يجد لها تفسيراً: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]. فكيف أجابه الملأ الذين لم يفهموا معاني الرموز - (البقرات والسنبلات والسنين) - في الرؤيا؟ {قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]. قد يبدو من هذا الجواب أن تأويل الأحلام لم يكنْ شيئاً معروفاً - كعلم - عند حاشية الملك، كما قد يرجع إلى أن أغلب الناس حينئذ - بل إلى الآن - لم يكونوا يعتقدون بأن للأحلام معاني ودلالات، وقدرة على التنبُّؤ بما سيقع مستقبلاً؛ بل يعتبرون الأحلام عبارة عن أضغاث، أي: خيالات وأوهام لا معنى لها، وفي هذا الموقف تجاهل - إن لم يكن جهلاً - لأحد مصادر المعرفة، التي قد تُفيد في فهم السلوك وغيره من الظواهر، إن بنيت على أساس من العلم المنهجي، بدلاً من "التخريف والتجديف" والادعاءات الكاذبة! ورغم هذا التجاهل والجهل، فقد اعترفت حاشية الملك بأنه لا علم لها بتأويل الأحلام؛ وفي هذا الاعتراف ما قد يدل على التواضع وعدم الادِّعاء، وإن كان إقراراً بجهلهم.

وجاء دور الذاكرة ليؤدي واجبه؛ فقد تذكر الذي كان في السجن مع يوسف صاحبَ سجنه، وتذكر قدرته على تأويل الأحلام؛ فطلب الترخيص له، ليسأل يوسف عن تعبير رؤيا الملك، وأسرع الخطى إلى السجن، وما التقى بيوسف حتى راح يستفتيه في رؤيا الملك ودلالتها، قائلاً: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:46]. فكان جواب يوسف - بعد أن أدرك المغزى الرمزي للرؤيا - عن السؤال مباشرةً، حيث قال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49]. ونلاحظ هنا أن يوسف - عليه السلام - لم يكن أسير انفعالاته؛ إذ راح يقدم الجواب عن طيب خاطر، ولم يحاول استغلال الموقف.

ولاشك أن الملك قد أعجب إعجاباً شديداً بتعبير يوسف لرؤياه؛ فأمر بإحضاره، ولكن يوسف لم يمتثل هذه المرة لطلب الملك، بل ردَّ الرسول رداً جميلاً، طالباً منه أن يرجع إلى الملك، ويسأله عن النسوة اللاتي قطَّعنَ أيديهنَّ، وكِدْنَ له؛ لوضعه في السجن، حيث لبث بضع سنين، وفي هذا تعبير عن غضب يوسف على السلطة الحاكمة، التي لم تحاول تحرِّي الحقيقة وإنصاف المظلومين، وكان من أهداف يوسف من وراء ذلك: أن يدفع الملك ليتحرَّى بنفسه ما حدث، حتى تنجلي حقيقة الموقف، وينكشف المجرم، ويبرِّئ يوسف ذمَّته.


محاكمة النساء:

عندما سأل الملك نسوة المدينة عن مراودتهنَّ ليوسف، ومن هو المسئول عن ذلك، اعترفت النساء ببراءة يوسف، وعند هذا الحدِّ لم يكن هناك أمام امرأة العزيز إلا الاعتراف والإقرار بما قامت به؛ فقالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51]. لقد اعترفت امرأة العزيز؛ فبرَّأت ساحة يوسف، وشهدت بصدقه، وبالتالي كذبها، وحمَّلت نفسه مسؤولية ما حدث، مشيرةً بصراحة إلى نفسها التي أمرتها بالسوء؛ أي: بالهوى والخضوع إلى نداءات اللذة، والتعسُّف في استخدام السلطة، ولا شك أن الانفعالات التي سيطرت على امرأة العزيز في هذه اللحظات قد تمثلت في الشعور بالإثم والندم على ما بدر منها، والغضب على سلوكها، مع مسحةٍ من الحزن.

ومما يُستخلص من قول امرأة العزيز: هو أن النفس أمَّارةٌ بالسوء أصلاً، أي: أن نوازع الشر جزء من الطبيعة البشرية، وهذه النوازع - حسب قولها - هي الغالبة عليه، ولا ينجو منها إلا مَنْ رحمه الله، وتداركه بغفرانه، مما يدل على أن الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - واستدرار رحمته منجاةٌ من الوقوع فريسةً سهلةً لنوازع الشر؛ الشيء الذي يكوِّن في النفس مقاومةً روحيةً لهذه النوازع، التي وإن كان لا يقضي عليها تماما، إلا أنها تضعف بازدياد الإيمان، واستبدال نوازع الشر بنوازع الخير والرحمة والمغفرة، ويرينا هذا الإدراك مثالاً لكيفية تأثير الجانب الروحي في الجانب الوجداني وفي السلوك، كما يرينا إدراك امرأة العزيز لعدم فلاح مسعى الخائنين وكيدهم، رغم تجنيدهم القوي للانفعالات السلبيَّة الهدَّامة، مثل الغضب والغيرة والحسد.


أما الملك الذي قاضي النساء، فقد اقتنع تماماً ببراءة يوسف، ولم يخبرنا القرآن الكريم كيف حكم على امرأة العزيز؛ بل يخبرنا أن الملك اتخذ قراراً سريعاً بإحضار يوسف، وجعله من المقربين. وفي هذا القرار إنصافٌ ليوسف - عليه السلام - من جهة، وتعويضٌ لما تعرَّض له من ظلم واضطهاد من جهة أخرى، خاصةً وأن الملك أراد أن يستخلصه لنفسه، مما أشعر يوسف بمودَّة وتقدير الملك له، كيف لا، وقد قال له الملك: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].

ولقد أورد الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيره لسورة يوسف عن قتادة: أن هذا دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، إذا علم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بذلك" [ 9، ص329].


تعليق على الرؤى الثلاث في سورة يوسف:

1- الملاحَظ أن كل الرؤى رمزية في مضمونها وأشخاصها، ويتطلَّب فهمها تأويل الرموز الواردة فيها.
2 - أن للرؤى دلالات ثقافية مرتبطة بالبيئة الجغرافية؛ وبدون فهم الثقافة السائدة؛ لا يمكن فهم وتأويل الرؤيا، فالرؤيا الأولي: (ليوسف - عليه السلام -) تتعلق برموز فلكية (الشمس، والقمر، والكواكب)، وهي رمز للعلوّ، وتتضمن تلك الرؤيا موضوع السجود؛ والسجود لا يكون إلا لعظيم (الله، الملك). والرؤيا الثانية: (لأصحاب يوسف في السجن)، تتضمن (الخمر، والخبز، والطير). والرؤيا الثالثة: (للملك) ذات مضمون زراعي (سنبلات، وبقرات).
3 - أن الرُّؤَى ذات قيمة تنبُّئيَّة؛ أي: القدرة على استكشاف ما سيجري في المستقبل، سواء كان هذا المستقبل قريباً أم بعيداً.
4 - أن الرُّؤَى قد لا تتحقق إلا بعد مرور سنوات عديدة، كما هو الشأن في رؤيا يوسف.
5 - أن الرُّؤَى تؤثر في الجانب الوجداني في الإنسان، فغالباً ما تحيره وتقلقه، وقد تدهشه وتحزنه، كما قد تسرُّه!! فالرؤيا قد تحمل بُشْرَى كما قد تحمل نذيراً؛ وبالتالي فهي تؤثر في أبعاد الإنسان: الوجدانية، والعقلية، والسلوكية.
6 - ليس كل ما يراه الإنسان في الأحلام عبارة عن رُؤَى؛ فقد يكون بعض ما يراه الإنسان في المنام أضغاث أحلام، وبالرغم من ذلك؛ فإن لهذه الأضغاث معاني وأهدافاً، ولكنها لا تحمل بالضرورة قيمة تنبُّئيَّة.
7 - قد تدل الأحلام على الصراعات، وإشباع الرغبات التي لا يستطيع الفرد إشباعها في اليقظة، ولكن الرؤيا غير ذلك؛ إذ أن قيمتها تتمثل في التنبُّؤ أساساً.
8 - تأتي الرؤيا واضحةً، وإن كانت بصفة رمزية، وقد تتكرر نفس الرؤيا عدة مرات، بينما تأتي الأحلام غير واضحة، ويقع فيها خلط، ولذا تسمَّى بالأضغاث؛ فالأضغاث جمع ضِغْث، وهي حزمة من الحشيش التي تخلط فيها الأعشاب الطرية بالأعشاب اليابسة؛ وكذلك تكون الأحلام مختلطة في أغلب الأحيان.

يوسف القائد:

بالإضافة إلى ما اتصَّف به يوسف - عليه السلام - من حسن الخَلْق والخُلُق، وما آتاه الله من العلم والحكمة؛ فقد برزت صفة القيادة في شخصيته؛ إذ بمجرد ما شعر بتقريب الملك له، ورغبة هذا الأخير في تحميله مسؤوليةً ما، ومكافأته على صبره، وعلى ما أبداه من الحكمة والمعرفة، تبرَّع بعرض خدماته لتحمُّل مسؤولية الخزينة والاقتصاد.

لقد أدرك يوسف أن البلاد ستعرف سبع سنين من الرخاء، تعقبها أزمةٌ اقتصاديةٌ تدوم سبع سنوات أيضاً، يسودها القحط والجفاف والمجاعة، مما يستدعي قيادةً تتميز بالأمانة والعلم؛ وهاتان خاصَّتان أساسيتان في القيادة، وخاصةً في المجال الاقتصادي، أمانةٌ وعلمٌ خلال سنوات الرخاء؛ حتى لا يحدث الإسراف والتبذير، والمحاباة وخدمة المصالح الشخصية، وعلمٌ بفنون التسيير، والتقويم، والتخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والإنتاج، وكذلك الأمانة والعلم خلال سنوات الأزمة؛ حتى يتحمَّل الناس عواقبها الوخيمة بالعدل، وتحقيق حسن التوزيع، وترشيد الاستهلاك، والتخطيط للخروج من الأزمة بتجنيد القوى العاملة إلى أقصى الحدود، وتشجيع الناس على الإنتاج أكثر من الاستهلاك؛ لتحقيق النمو الاقتصادي.

وهكذا مُكِّن ليوسف - عليه السلام - في الأرض؛ فأصبح يتبوَّأ منصباً رفيعاً، تحيطه العناية الإلهية في جهوده القائمة على إتقان العمل والإخلاص فيه، والسعي حثيثاً لتحسين فنون الزراعة، وما يرتبط بها من سقي، وتعهُّد، ورعاية، وحصاد، وجمع، وتخزين، وتوزيع. ولابد أن يكون الإنتاج في سنوات الرخاء أعلى من الاستهلاك، ولابد أن يكون احتياطي الموارد الغذائية كبيراً، ومبنيّاً على حسابات دقيقة؛ بحيث يغطي هذا الاحتياطي حاجة المجتمع خلال سنوات الأزمة.


ومما يستخلص من هذا الموقف:

أولاً: حاجة التنمية الاقتصادية - وتنمية المجتمع بصفة عامة - إلى قيادة رشيدة، من خصائصها الرئيسة: العلم، والأمانة، وإتقان العمل، وما ينضوي تحتها من خصائص فرعية.

ثانياً: ينبغي أن يكون السلوك الإنتاجي مدروساً؛ بحيث يحقِّق فائضاً في الإنتاج؛ فلا يمكن أن تتحقق تنميةٌ اقتصاديةٌ إذا كان الإنتاج مساوياً للاستهلاك، ويزداد الأمر سوءاً إذا كان الإنتاج أقل من الاستهلاك، كما هو الحال في الدول المتخلفة. وقد أفاض مالك بن نبي - مثلاً - في شرح العلاقة بين الحقوق والواجبات، والإنتاج والاستهلاك [10].


ثالثاً: يتطلب التمكُّن والتمكين في الأرض خصائص قيادية، كنتيجة للعلم والحكمة، والتمحيص والابتلاء، والخبرة والممارسة.


رابعاً: تتطلب القيادة المرتبطة بالوحي والإيمان والتقوى الاعتقاد الجازم في الحصول على الأجر في الآخرة، وأنه أحسن من كل أجر، بالإضافة إلى الخصائص الأخرى المشار إليها أعلاه.


ومسَّ القحط والجدب مصر والمناطق الأخرى، وبدأت القوافل تتوافد على خزينة الملك للحصول على المواد الغذائية - (الحبوب خاصةً) - التي تولى يوسف - عليه السلام - الإشراف على توزيعها، وجاء أخوته ضمن مَنْ جاء، فعرفهم، ولكنْ لم يعرفوه، وكيف يعرفونه وهم قد تخلصوا منه، وباعوه بثمن بخس، وتوقعوا له مصيراً سيئاً؟! ولاشك أن يوسف قد اندهش لرؤية إخوته، ولكنه لم يُبْدِ دهشته؛ بل ونجح في التحكم في انفعالاته، وضبط سلوكه كما ينبغي؛ فوفَّاهم الكيلَ، وعاملهم بإحسانٍ، وأنزلهم منزلاً حسناً.

ويتطلب منَّا هذا السلوك وقفة تأمل؛ لنرى أن يوسف الذي أُلقي في الجُبِّ، ويوسف الذي تعرض للفتنة، ويوسف الذي سُجن بضع سنين، ويوسف الذي تولى خزائن الأرض، قد أُرشد بالوحي خلال كل هذه المراحل من جهة، وأُنضج بالتجارب والخبرات المتعددة والمثيرة من جهة أخرى، وهذا ما جعل سلوكه مع إخوته وغيرهم يتَّسم بالنضج، والرُّشد، والاتِّزان الوجداني.


بالإضافة إلى هذا؛ فإن ليوسف هدفاً هاماً، وهو الإتيان بأخيه الشقيق إلى مصر؛ لكي يراه ويطمئن على أبيه. قد استعمل يوسف الترغيب والترهيب للحصول على هذا الهدف، فقال: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59]. ولا يخفى أن استعمال الترغيب أهمُّ من استعمال الترهيب للحصول على الهدف؛ ولذلك فقد عمد يوسف - عليه السلام - أولاً إلى استقبال إخوته استقبالاً جيداً، وإنزالهم منزلاً طيباً، وجهَّزهم أحسن تجهيز.

وبعد ذلك عمد إلى الترهيب، وذلك بتهديدهم بعدم الكيل لهم، وعدم الاقتراب منه إذا لم يحضروا أخاهم من أبيهم المرة القادمة، وقد نجحت خطة يوسف - عليه السلام - في إقناع إخوته بضرورة إحضار أخيهم، وزيادةً في الضغط على إخوته، فقد أمر بإرجاع بضاعتهم لكي يستخدموها كحجة عند أبيهم حتى يقتنع بضرورة إرسال شقيق يوسف معهم بالفعل؛ فقد قالوا لأبيهم بأنهم قد مُنعوا من الكيل؛ إلا أن يرسل معهم أخاهم، واعدينَ بأنهم سيحمونه: {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63]. ولكنَّ أباهم لم يصدِّق وعدهم، وكيف يصدِّقهم وقد وعدوه من قبل حمايةَ يوسف، ثم ادَّعوا بأن الذئب قد أكله؟! وطافت ذكرى يوسف الحزينة بذهن النبي يعقوب - عليه السلام - فذكَّر نفسه وأبناءه بأن الله هو {خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].


وعندما فتح الأبناء متاعهم اكتشفوا أن بضاعتهم قد رُدَّت إليهم مع الكيل؛ فأصيبوا بالدهشة، وبشيءٍ من الغضب والحزن على ذلك؛ فراحوا يستخدمون ردَّ البضاعة كورقة ضغط نفسيٍّ على أبيهم؛ فقالوا: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65]. لكنَّ أباهم الذي هزته ذكرى يوسف الحزينة لم يقتنع بسهولة، وهذا أمر طَبَعِيٌّ؛ لأن تغيير اتجاه شخص ما نحو أشخاص آخرين كان قد اتخذ موقفاً سلبيًّا ضدهم، يتطلب جهداً كبيراً في التأثير على جوانبه العقلية والوجدانية مجتمعة، وبالفعل؛ فإن أباهم لم يقتنع حتى أعطوه عهداً ومَوْثِقاً من الله بحماية أخيهم، وعدم التفريط فيه، وأَشْهَدَهم الله - تعالى - على ما قالوا.


وكشأن الآباء المهتمين بأبنائهم؛ راح النبي يعقوب - عليه السلام - يوصي أبناءه بعدم الدخول من باب واحد عند وصولهم إلى مصر؛ بل ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة، فلماذا أوصاهم أبوهم بذلك؟ وما هي الحاجة التي أخفاها يعقوب في نفسه؟

يقال أن عدد إخوة يوسف هو أحد عشر أخاً، وتفسَّر نصيحة أبيهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة بخوفه عليهم من الإصابة بعيون الحاسدين، ورغم دخول أبناء يعقوب من أبواب متفرقة، "إلا أنهم أصابهم ما أصابهم من تفرُّق وافتضاح" كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره". ويقول الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيره "الكشاف" عن الإصابة بالعين، إنه: " يجوز أن يُحْدِثَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللاً من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاءً من الله، وامتحاناً لعباده؛ ليتميز المحقِّقون من أهل الحشو؛ فيقول المحقِّق: هذا فعل الله، ويقول الحَشَوِيُّ: هو أثر العين، كما قال – تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر : 31]. وعن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه كان يعوِّذ الحسنَ والحسينَ، فيقول: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل عين لامَّة، ومن كل شيطان وهامَّة)) [6، ص333].

وقد يُردُّ على رأي الزَّمَخْشَرِيِّ هذا برأي أهل السنة والجماعة، الذين يرون أن العين حقٌّ، وأن تأثير العين من قبيل ربط الأسباب بالمسبِّبات، كربط الإحراق بالنار، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى [ 11، ص488].

ومهما يكن؛ فإن موضوع (الإصابة بالعين) في حاجة إلى مزيد من الدراسات الشرعية والنفسية والثقافية؛ لتوضيح حقيقتها، وكيفية إحداث التأثير في الآخرين، وسبل علاجها بالرُّقية الشرعية مثلاً.


ورغم احتياط النبي يعقوب - عليه السلام - بهدف حماية أبنائه، فقد كان يعلم تماماً بأن ذلك الاحتياط - الدخول من أبواب متفرقة - لن يغني عنهم من الله شيئاً؛ فلله الحكم، وعليه فليتوكل المتوكلون. وهنا حكمةٌ بالغةٌ تتجلى في إيمان يعقوب - عليه السلام - بضرورة التوكل على الله - تعالى - واعتقاده الجازم بأن الحكم بيده – تعالى - ورغم اعتقاده الجازم، فإن ذلك لم يمنعه من اتخاذ الأسباب الضرورية، واعتماد الاحتياطات المناسبة لحماية أبنائه مما قد يصيبهم إن دخلوا من باب واحد، وفي هذا الموقف تمييزٌ واضحٌ بين التوكل والتواكل.


لم تكن نصيحة النبي يعقوب - عليه السلام - لأبنائه صادرةً من قلب أبٍ رحيمٍ شفيقٍ على أبنائه فحسب؛ بل إن نصيحته قائمةٌ على علمٍ أيضاً، وهذا العلم مما آتاه الله إيَّاه، حيث وصفه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]. وتشير الآية الكريمة إلى أن هذا العلم مما يجهله أكثر الناس، ولذلك لم يخبر أبناءه لماذا ينبغي لهم الدخول من أبواب متفرقة؛ بل كتم حاجته من وراء ذلك، ولاشك أن الأبناء قد قبلوا نصيحة أبيهم، وعملوا بها؛ ففرح لذلك، وانشرح صدره.


وأقبل إخوة يوسف مع أخيهم غير الشقيق؛ فانفرد يوسف - عليه السلام - بأخيه الشقيق، فكشف له عن شخصيته الحقيقية، فقال: {إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يوسف:69]. لقد أراد يوسف أن يدخل السرور إلى قلب أخيه، وطرد الحزن منه جرَّاء ما كان يرتكبه إخوته الآخرون من حماقات، وكانت لحظاتٍ رائعةً، سادتها الدهشة والمفاجأة السارَّة، وفرح اللقاء بعد أحزان الفراق. ولكم أن تتصوروا سرور أخوَيْن شقيقَيْن التقيا بعد عدة سنوات من الحزن وانعدام بارقة أيِّ أمل، ويشاء الله ويمهد الأسباب للقاء الأخوَيْن في مكانٍ لم يخطر لهما من قبل على بال، ولكم أن تتخيلوا دهشة شقيق يوسف عندما يكشف له شقيقه عن شخصيته، وكيف لا يندهش وقد أُخبر من طرف إخوته أن الذئب قد افترس يوسف، وجاؤوا بقميصه ملطخاً بالدماء؟! كيف لا يندهش، وقد رأى بأمِّ عينيه دماً على قميص شقيقه؟! والآن يرى بأم عينيه يوسفَ وقد تبوَّأ مكانةً عظيمةً في قصر الملك؟! كيف لا يفاجأ، بينما لم يكن طموحه في مجيئه مع إخوته إلى مصر يتعدى الحصول على كيل بعير من الحبوب، والرجوع به إلى أبيه سالماً مع إخوته؟!.


وتتوالى المفاجآت، حيث ينادي المنادي إخوة يوسف، ويتهمهم بالسرقة، فيصابون بالدهشة والتعجب، فيقبلون على المنادي يستفسرون عمَّا ضاع، ويتعجب إخوة يوسف أكثر عندما يسمعون أن صِوَاع الملك قد سُرق، وأنه قد رُصدت مكافأةٌ لمَنْ يجده، وأن المنادي متحمسٌ جداً للحصول على المكافأة، ونلاحظ هنا قوة الدَّافعية عند المنادي، وتأثيرها في سلوكه بفعل المكافأة المغرية (حمل بعير). وتحت تأثير المفاجأة الشديدة والاتهام القوي، راح إخوة يوسف يحلفون لدفع التهمة عنهم، بأنهم ما جاؤوا إلى مصر ليفسدوا في الأرض، أو ليسرقوا، وإنما جاؤوا تجاراً، يستبدلون سلعة بسلعة.

ولكن ما هو جزاء إخوة يوسف إن وُجد صِوَاع الملك في رحالهم؟ لابد أن يعترفوا بجرمهم، وأن يقبلوا حكم الملك - أو من ينوب عنه – فيهم، كيف لا يقبلون بحكم الملك وهم ينكرون أنهم سارقون، وأنهم مفسدون، أو أنهم كاذبون؟!.


وبدأ التفتيش، ولتضليل إخوة يوسف بأن الأمر غير مدبَّر؛ بدأ في تفتيش أوعية إخوته غير الأشقاء قبل وعاء أخيه الشقيق، ولكنَّ الصِّوَاع لم يوجد إلا في رَحْل أخيه، وبهذا الإجراء الذي اتخذه يوسف؛ تمكَّن من أن يضمن بقاء أخيه معه بطريقة قانونية، وهذا يتطلَّب علماً، وفوق كل ذي علم عليم.


واندهش إخوة يوسف، وأخذتهم المفاجأة؛ فأصيبوا باضطراب شديد ظهر على وجوههم، وفي حركاتهم، وبعد استيعاب الصدمة تفطَّنوا إلى ضرورة الدفاع عن أنفسهم، وتبرير ما حدث بأيِّ شكل من الأشكال، فلم يجدوا عذراً ولا مبرِّراً مقبولاً إلاَّ أن يتهموا أخاهم بالسرقة، مضيفين إلى ذلك اتهام يوسف نفسه بالسرقة؛ وكأن لسان حالهم يقول: إن أخانا غير الشقيق قد سرق مثلما سرق أخوه الشقيق من قبل، بينما نحن الإخوة الأشقاء لسنا سارقين؛ فالعيب في الأخوَيْن الشقيقَيْن - يوسف وأخوه - وليس فينا.


ورغم صدور هذا الاتهام الخطير من طرف شبانٍ ثبتت عليهم السرقة؛ فلم يكن في وسع يوسف - عليه السلام - إلا أن يكون حليماً معهم، ولم يظهر ما شعر به بسبب هذا الاتهام، بل أخفى انفعالاته. ورغم ذلك؛ فإنه لم يتمالك نفسه في وصف إخوته بأنهم أشراراً {شَرٌّ مَّكَاناً} [يوسف:77]، وأنه يترك ما يصفون به يوسف وأخاه لله – تعالى- الذي يعلم كل شيء، وكأن يوسف بهذا القول يريد أن يوقظ الضمير عند أخوته، ويشعرهم بالذنب لما اقترفوه في حقِّ يوسف عند إلقائه في الجُبِّ، وبيعه مثل العبيد، وأكل ثمنه، ثم اتهامه بالسرقة.


ورغم صعوبة الموقف الذي وجد أخوه يوسف أنفسهم فيه أمام حاكم قوي، أقام عليهم الحجة بالسرقة، فقد تذكروا وعدهم لأبيهم بالحفاظ على أخيهم؛ فراحوا يستعطفون العزيز – يوسف - أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم، مبرِّرين استعطافهم من جهةٍ بكبر سنِّ أبيهم {شَيْخاً كَبِيراً} [يوسف:78] الذي لن يتحمل صدمة ضياع ابنه الثاني، وبمدح العزيز ووصفه بالإحسان من جهةٍ أخرى، ونلاحظ هنا أن حجة إخوة يوسف في استعطافهم للعزيز قائمةٌ أساساً على تجنيد الجانب الوجداني عند العزيز؛ لعله يلين ويستجيب لاستعطافهم، ولكنَّ ردَّ العزيز كان منطقياً وعقلانياً؛ إذ رفض استعطافهم مبرِّرا ذلك بإقامة العدل؛ إذ ليس من العدل أن يأخذ شخصاً ما بجريرة شخصٍ آخر، وكيف يقام العدل إذا أُطلق (المجرم) الذي ثبتت عليه (السرقة)، وسُجن (البريء)؟!.


ألجم منطق العزيز ألسنة الشبان الذين أصيبوا بإحباط شديد، وفقدوا الأمل في إقناع العزيز واسترجاع أخيهم؛ فأخذوا يتناجون فيما بينهم ويتشاورون، فالموقف صعبٌ ومحرجٌ بالنسبة إليهم للغاية، سواءٌ أمام العزيز، أم أمام أبيهم الذي أخذ منهم مَوْثِقاً في عدم التفريط في أخيهم؛ وقد ذكَّرهم بهذا المَوْثِق أخوهم الأكبر، كما ذكَّرهم بتفريطهم في يوسف من قبل؛ إذ إن التفريط في أخيهم هذا سيضاف إلى تفريطهم في يوسف من قبل، مما سيُفقد مصداقيتهم عند أبيهم، ولذا أصرَّ أخوهم الأكبر على البقاء في مدينة العزيز؛ حتى يتلقى إذناً من أبيه بالمغادرة، أو يجعل الله له أمراً، وهو خير الحاكمين. ويطلب منهم أخوهم الأكبر بشيءٍ من الغضب الممزوج بالحزن أن يرجعوا إلى أبيهم، ويرووا له ما حدث بالضبط؛ قولوا لأبيكم: إن ابنك قد سرق ونحن نشهد على ذلك فقد أُخرج الصِّوَاع من رَحْلِه أمام أعيننا. وقولوا له: إن لم تصدِّقنا فاسأل القافلة التي جئنا فيها، واسأل أهل المدينة. وقولوا له أيضاً: لقد آتيناك مَوْثِقًا من الله أن نحافظ على أخينا، ولكنَّنا لم نكن نعلم الغيب، ولم نكن ندري بأنه سيسرق صِوَاع الملك، واشرحوا له أن هذه الحقائق كلها شهادات على صدقنا، وأنني قد بقيت هنا في انتظار أوامره؛ التزاماً بالعهد الذي عاهدناه عليه.


فكيف كان ردُّ فعل النبي يعقوب - عليه السلام - أمام هذا الخَطْب الجليل؟ ها هو ابنه الثاني يضيع منه كما ضاع يوسف من قبل، وسبب الضياع تهمة السرقة، وأي سرقة؟ سرقة صِوَاع الملك الذي أخرج من رَحْلِه أمام الملأ. ولا شك، أن الخبر طارت به الركبان، وانتقل من فاهٍ إلى فاهٍ، ومن قافلةٍ لقافلةٍ، ومن قبيلةٍ إلى أخرى.


ورغم تأكيد أبنائه لصدقهم؛ فإن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يصدِّقهم، واتهمهم بأن أنفسهم قد دفعتهم ليدبِّروا مكيدةً لأخيهم، كما دبَّروا مكيدةً ليوسف من قبل، ولكن النبي يعقوب - عليه السلام - لم يجد دليلاً على اتهامهم؛ فاكتفى بالإشارة ملتجِأً إلى الصبر الجميل، متيقِّناً بأن الله - تعالى - سيجمعه مع ابنَيْه، كما يقتضي علمه وحكمته.


لم يجد النبي يعقوب - عليه السلام - بُدّاً من الابتعاد عن أبنائه؛ فقد أصبح لا يطيق الموقف، واستولى عليه الحزن الشديد (الاكتئاب)؛ بل أصيب بصدمة شديدة من الإحباط والاكتئاب أثرت في عينيه؛ فكُفَّ بصره، لعجزه عن التعبير الصريح عن ألمه، وتفريغ شحنات غضبه وحزنه جرَّاء تصرفات وأقوال أبنائه، وقد أدَّى به كبت انفعالاته إلى إصابته بكفِّ البصر، وفي هذا دليلٌ واضحٌ على كيفية تأثير الجانب الانفعالي في الجانب الجسمي - الحزن الشديد والعمى في هذه الحالة. وفي هذه الحالة إشارة إلى أن كبت الانفعالات قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية - جسمية ( اكتئاب، عمى، قرحة ... الخ)، وليس الكبت الجنسي فقط هو الذي يؤدي إلى الاضطرابات النفسية، مثل العمى الهستيري، أو الشلل الهستيري، كما ادَّعى ذلك فرويد في (نظرية التحليل النفسي).


وفي الواقع؛ فإن حزن يعقوب - عليه السلام - كان شديداً وطويلاً إلى حدٍّ بَالَغَ فيه بعض المفسرين؛ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ في "تفسيره" – مثلاً - يصف حزن النبي يعقوب، وطول مدته:

"الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض؛ فكأنه حدث من الحزن. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله - صلي الله عليه وسلم – : أنه سأل جبريل - عليه السلام –: ((ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟)) قال: وَجْدُ سبعين ثكلى. قال: ((فما كان له من الأجر؟)) قال: مائة شهيد، وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قطُّ" [6، ص339]. وبعد أن يورد الزَّمَخْشَرِيُّ هذه الرواية دون مناقشة مدى صحتها عقلاً ونقلاً، وخاصةً فيما يتعلق بعدد سنوات الحزن، انتقل إلى مناقشة الحالة النفسية للنبي يعقوب؛ فقال: "فان قلتَ: كيف جاز لنبيِّ الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلَغ؟ قلتُ: الإنسان مجبولٌ على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حُمد صبره، وأن يضبط نفسه؛ حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.

ولقد بكى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ولدَه إبراهيم، وقال: ((القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الربَّ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون)). وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب" [6، ص497].


ومما جاء في "الكشاف" أيضاً بخصوص موقف الرسول - صلي الله عليه وسلم - من الانفعالات: أنه قيل له - عليه الصلاة والسلام -: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ((ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتَيْن أحمقَيْن: صوت عند الفرح، وصوت عند التَّرَح)) [6، ص498].


وقد تفطَّن أبناء يعقوب لما يعانيه أبوهم من حزنٍ شديدٍ، ولما قد ينجرُّ عن ذلك من اضطرابات؛ بل ومن هلاك: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85]. فما كان جواب يعقوب - عليه السلام - على تعليق أبنائه؟ لم يرد النبي يعقوب - عليه السلام - أن يشكو حزنه وألمه الشديد لأبنائه، مقتصراً في ذلك على الله – تعالى - ذلك لأنه قد علم من الله - تعالى - ما لم يكن أبناؤه يعلمون، فماذا كان يعقوب - عليه السلام - يعلم من الله – تعالى -؟


أمر يعقوب - عليه السلام - أبناءه أن يذهبوا يتحسَّسوا أخبار يوسف وأخيه، مما يدل على اعتقاده الجازم بأن يوسف ما يزال حيّاً، وأن الله - تعالى - سيجمعه معه ومع أخيه؛ ولم يكتف النبي يعقوب - عليه السلام - بإصدار الأمر؛ بل أوصى أبناءه ألاَّ يصيبهم اليأس في البحث عن يوسف وأخيه، والحصول عليهما؛ إذ ليس من صفات المؤمنين اليأس من رَوْح الله؛ فالله رحيم كريم. وهنا يفتح النبي يعقوب - عليه السلام - أمام أبنائه باب التفاؤل بدلاً من التشاؤم، وطريق الخير بدلا من الشر، وسبيل الأخذ بالعزيمة والأسباب بدلاً من التخاذل، والإحباط، وروح الهزيمة والتواكل، رغم ما كان يعانيه.


وجهز أبناء يعقوب - عليه السلام - بضاعتهم ليقصدوا عزيز مصر مرةً أخرى للمقايضة، والحصول على صدقاته، ودخلوا على العزيز على خجلٍ واستحياء، وهم يشكون إليه الضُّرَّ الذي مسَّهم وأهلهم جرَّاء الجدب والقحط، وعرضوا عليه بضاعتهم، راجين منه أن يتصدَّق عليهم، وهم يدعون الله له أن يجزيه خير جزاء.


وحان الوقت الذي ينبغي أن يكشف فيه العزيز عن سرِّه لأبناء يعقوب - عليه السلام - ففاجأهم بقوله: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89]. لم تكن المفاجأة في سؤال العزيز عن يوسف وأخيه فقط؛ بل في صيغة السؤال؛ حيث وجَّه إليهم سؤالاً استنكاريّاً، قرن العزيز فيه بين يوسف وأخيه من جهة، ووصف فيه سلوكهم بالجهل من جهة أخرى، ولعل صيغة السؤال ومؤشرات أخرى - قد تكون غير لفظية - هي التي نبَّهت أبناء يعقوب - عليه السلام - إلى أنهم بحضرة أخيهم يوسف.


ورغم المفاجأة الشديدة التي صعقتهم، فقد راحوا يتأملون بتمعن وجه العزيز، ويتبادلون النظرات وهم يهمسون، و{قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ} [يوسف:90]!!! ولمراقب هذا المشهد أن يتصور مدى الانفعال الشديد الذي أصاب إخوة يوسف جرَّاء المفاجأة، وجرَّاء انكشاف الحقيقة أمامهم، ولا شك أن ألسنتهم قد شُلَّت للحظات، وانسحب الدم بسرعة من وجوههم الشاحبة، ودقَّت قلوهم بسرعة فائقة، وارتجفت أوصالهم فَرَقاً وخجلاً من فعلهم الشنيع مع يوسف، وترقُّباً للخطر الذي أحدق بهم؛ فطأطؤوا رؤوسهم خوفاً وخجلاً.

احتفظ العزيز بهدوئه المعتاد، وأكدَّ لهم أنه هو يوسف ومعه أخوه، شاكراً نعم الله عليهما، مذكرا إياهم بأن التقوى والصبر هما وسيلتان للحصول على الأجر والثواب من عند الله، وتنبغي الإشارة هنا إلى اقتران التقوى بالصبر، مما يدل على الارتباط القوي بين الصفتين، وتأثيرهما في السلوك عند ارتباطهما.


وهذا الارتباط يدلنا على أن الصبر الحقيقي هو القائم على التقوى والإحسان، وليس الصبر القائم على الانهزام النفسي، والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنك تعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يراك، وإذا كنتَ في موقف البلاء والامتحان؛ فإنك تعتقد جازماً بأنه يراك ويرعاك. ويعضد هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3].



رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.12 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]