أيها الليل ..
ياليل العشاق والشعراء والمنشدين .
ياليل الأرواح والأشباح والأخيلة .
ياليل الشوق والصبابة والتذكار .
أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر , المتقلد سيف الرهبة , المتوج بالقمر , المتشح بثوب السكوت , الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة , المصغي بألف أذن إلى أنة الموت والعدم .
أنت هدوء يبيح بصمته خفايا الأرواح المستيقظة السائرة في الفضاء العلوي , والنهار ضجيج يثير بعوامله نفوس المنطرحين بين سنابك المقاصد والغرائب .
أنت عادل يجمع بين جنحي الكرى أحلام الضعفاء بأماني الأقوياء, وأنت شفوق يغمض بأصابعه الخفية أجفان التعساء ويحمل قلوبهم إلى عالم أقل قسوة من هذا العالم .
بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفاسهم , وعلى قدميك المغلفتين بقطر الندى يعرق المستوحشون قطرات دموعهم , وفي راحتيك المعطرتين بطيب الأودية يضيع الغرباء تنهدات شوقهم وحنينهم . فأنت نديم المحبين وأنيس المستوحشين , ورفيق الغرباء .
عندما ...عندما ملت نفسي البشر وتعبت أجفاني من النظر إلى وجه النهار سرت إلى تلك الحقول البعيدة حيث تهجع أشباح الأزمنة الغابرة .
هنالك وقفت أمام كائن أصم جامد مرتعش سائر بألف قدم فوق لسهول والجبال والأودية .
هنالك حدقت شاخصا بعيون الدجى , مصغيا لحفيف الأجنحة غير المنظورة شاعرا بملامس ملابس السكوت , مستبسلا أمام مخاوف الظلام .
هنالك رأيتك أيها الليل شبحا هائلا جميلا منصبا بين الأرض والسماء , متشحا بالسحاب , ممنطقا بالضباب , ضاحكا من الشمس , ساخرا بالنهار ,ساحقا بقدميك صغار النفوس .
هنالك رأيتك أيها الليل ورأيتني , فكنت بهولك لي أبا وكنت بأحلامي لك ابنا , فأزيحت من ستائر الأشكال وتمزق عن وجهينا نقاب الظن والتخمين , فأبحت لي أسرارك ونياتك , وأبنت أماني وآمالي , حتى إذا تحولت أهوالك إلى أنغام أعذب من همس الأزهار , وتبدلت مخاوفي بأنس أطيب من طمأنينة العصافير , رفعتني إليك , وأجلستني على منكبيك .
لقد صحبتك أيها الليل حتى صرت شبيها بك , وألفتك حتى تمازجت ميولي بميولك , وأحببتك حتى تحول وجداني إلى صورة مصغرة لوجودك .
ففي نفسي المظلمة كواكب ملتمعة ينثرها الوجد عند المساء وتلتقطها الهواجس في الصباح .
وفي قلبي الرقيب فمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم وطورا في خلاء مفعم بمواكب الأحلام .
وفي روحي الساهرة سكينة تبيح بمفاعيلها سرائر المحبين وترجع خلاياها صدى صلوات المتعبدين . وحول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة المنازعين .
أنا مثلك أيها الليل , وهل يحسبني الناس مفاخرا إا ماتشبهت بك وهم إذا ما تفاخروا يتشبهون بالنار !!
أنا مثلك وكلانا متهم بما ليس فيه
أنا مثلك بميولي وأحلامي وخلقي وأخلاقي .
أنا مثلك وإن لم يتوجني المساء بغيومه الذهبية .
أنا مثلك وإن لم يرصّع الصباح أذيالي بأشعته الوردية .
أنا مثلك وإن لم أكن ممنطقا بالمجرة
أنا ليل مسترسل منبيط هادئ مضطرب وليس لظلمتي بدء وليس لأعماقي نهاية , فإذا ماانتصبت الأرواح متباهية بنور أفراحها تتعالى روحي متجمدة بظلام كآبتها .
أنا مثلك أيها الليل ولن يأتي صباحي حتى ينتهي أجلي .