دخل ( خالد ) إلى القرية بعد أربع ساعات متواصلة من السفر .. ليدور بين منازلها مسترجعاً كل ذكرى جميلة عاشها بتلك القرية… أحس بسعادة لم يشعر بها من قبل في داخله وهو ينعطف يميناً مع آخر شارع ليكشف بيت أهل زوجته .. ولكنه توقف فجأة لتتعلق عينيه بمنظر خفق له قلبه بشدة مما جعل الخوف يزحف إليه ولسانه يردد بصوت منخفض بالكاد تسمعه خلايا عقله
- لماذا هذا الحشد من الناس أمام منزلهم .. ما الذي يحدث يا ترى ؟
قبضت تساؤلاته على قلبه مما جعله يزيد من سرعة سيارته ليقف أمام أحد الأطفال ليسأله بتردد وكأنه يخشى سماع الجواب
- ما الذي يحدث هنا يا صغيري ؟
لم يكد يلقي السؤال حتى بادره الصغير بإجابة سريعة
- لقد توفيت أبنتهم ..
وقع الجواب كالسيف على رأس ( خالد ) .. لتسود الدنيا أمامه حتى انه لم يعد يشعر بشيء من حوله.. لقد كانت ( رهام ) البنت الوحيدة لهذه العائلة.. ما إن جال هذا الشعور في داخله حتى انسابت الدموع على وجنتيه .. وذاكرته ترسم صورة لأجمل حب عاشه معها .. لقد نسجت ذاكرته شريطاُ لحياته التي قضاها بجوارها.. لقد كانت بالنسبة له روحاً وهو الجسد .. كانت الأمل الذي يدفعه في هذه الحياة الكئيبة .. ولكن سرعان ما تلاشت تلك الذكريات الجميلة ليحل محلها الندم الذي أخذ ينهش في مشاعره .. كم كره كبريائه في تلك اللحظة .. كم تمنى أن يكون العناد رجلاً حتى يقتله .. قبضة باردة تعتصر قلبه ألماً وندماً ..
- ماذا بك يا عـم ؟
قال الولد كلماته ليوقظ ( خالد ) من شروده ليجفف هذا الأخير دموعه وهو ينظر إلى الولد ليقول له بحزنٍ جارف .
- اذهب إلى أمك يا بني فقد تكون قلقة عليك .
قال كلماته وهو يطفأ محرك السيارة لينزل بخطوات متثاقلة متجهاً إلى بيت أهل ( رهام ) .. وبينما هو يمشي وقع بصرة على والدها ليحث الخطى متجهاً إليه .. لم تمضي ثواني معدودة حتى وصل إليه ليقف أمامه وهو يقول له
- عظم الله أجرك ..
لم يستطع ( خالد ) أن يسيطر على أحزانه بل أجهش ببكاء حتى رق له قلب والد ( رهام ) ليحتويه وهو يقول بتعجب
- ماذا بك يا بني .. لما تبكي هكذا وكأنك فقدت شخصاً عزيزاً عليك ؟
تطلع ( خالد ) إليه قائلاً
- ما الذي تقوله يا خالي .. مهما كان الذي حصل بيننا فأنا مازلت أحبها من أعماق قلبي .
عقد والد رهام حاجبيه ليزداد تعجبه من كلمات ( خالد ) ليقول له بنفاذ صبر
- عن من تتحدث يا ( خالد ) ؟
رفع ( خالد) رأسه إليه ليقول بصوت منخفض كمن يخشى أن يسمعه أحد
- عن المرحومة ( رهام ) ..
تطلع إليه والد رهام للحظات حتى كسر حاجز الصمت ليقول ببرود جاف
- ومن قال لك بأن ( رهام ) قد توفيت .
جحظت عينا ( خالد ) وهو يتطلع إلى والدها ليقول بصوت متلعثم
- أنا لم أعد أفهم ما يدور من حولي .
ابتسم والد رهام وهو يقول له
- تقصد ذلك العزاء الذي في بيتي .
أومأ ( خالد ) برأسه موافقاً على سؤاله كي يحثه على الاستمرار .. ما إن أستقبل والد رهام إمائه رأسه حتى أستطرد قائلاً
- إنه عزاء ابنة جارنا .
فرج ( خالد ) شفتيه ليسأل ولكن والد رهام أوقفه بكلمات سريعة
- لا تتعجل سوف أخبرك بكل شيء ..
- تفضل يا خالي .
- عندما توفيت ابنة جارنا شرعنا في دفنها .. وحينما انتهينا توجهنا إلى منزل جارنا فوجدنا بأن منزله صغير على استقبال الضيوف فما كان مني إلا أن اقترحت على جاري بأن يضع العزاء في بيتي فوافقني على اقتراحي .. وهذه هي القصة كلها يا ( خالد )
ما إن أنهى كلماته حتى علت الابتسامة وجه ( خالد ) والفرحة تملأ كيانه ليقول بتردد خالطه خجل قد بان على وجنتيه
- خالي تمنيت أن أكلمك في ظروف أفضل .. ولكنني لا أستطيع أن أصبر أكثر من ذلك .
- أعرف ماذا تريد يا بني .. تريد إرجاع ( رهام ) .
- أجل يا خالي .
صمت والد رهام لثواني معدودة أحس ( خالد ) بأن صمته دام لسنوات ليقول بعد هذا الصمت المهيب
- أسمع يا ( خالد ) ، إن كنت تريد ( رهام ) من كل قلبك .. فرهام تبلغك موافقتها على الرجوع إليك .
شعر ( خالد ) بسعادة وبتعجب داخل نفسه ولكن التعجب طغى على سعادته ليتحول إلى سؤال وجهه نحو خاله
- كيف علِمتَ بأنني سأرجعها وأنت لم تسألها .
- لقد اتصلت والدتك وأخبرتنا بقدومك .. فاستعدينا لاستقبالك ... فتفضل ودخل إلى منزلك الثاني يا ( خالد ) .
لم يكد ينهي والد رهام كلماته حتى شرع ( خالد ) بالدخول وهو يتنفس الصعداء فرحاً بأن ( رهام ) ستعود إليه وإلى أبنته .. ليس ذلك فحسب بل لأن ( رهام ) ما زالت تبادله نفس الشعور .. شعور العاشق الذي لا يستطيع أن يهجر محبوبته لو لثواني معدودة .. وإن هجرها فإن الألم يعتريه حتى يعود إليها .. هذا هو شعور الحب الخالد الذي يتملك الروح ويدفعها لافتداء المحبوب .
|