غير أني لا حظت في والدي إقبالا على العبادة في الشهور الأخيرة بما لا عهد لي به..
وتقول أختي وهي رفيقته في عدة سفرات :
لم تكن عادته أن يجمع الصلاة في السفر..
بل كان يحرص أن يصلي كل صلاة لوقتها في المسجد أينما وجد...
يحدثني شخص زارني للعزاء يقول:
قبل أسبوعين هرب شخص من الشقق المفروشة التابعة لوالدكم ..
ولم يدفع أجرة الشقق...
فقلت له يابو محمد عندك رقم جوال الرجل اتصل عليه وبلغ عنه الشرطة..
قال الوالد لا، دعه فسوف استرجعها منه يوم الدين فأنا سأحتاجها قريبا..!!
قرأت في كتاب التذكرة للقرطبي ،عن أثر أن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا وكل له
ملك ينشطه للطاعة قبل موته ثم يقبضه على الطاعة.. والله أعلم.
كان الوالد مع كبر سنه يسرع في قيادة السيارة..
فلقد انطلق بسرعة تفوق المائة وستين في الطريق السريع بين الطائف ومكة..
وفجأة ظهرت له سيارة في وسط الخط شبه متوقفة..
ويظهر أنها خرجت من فرجة وسط الطريق...
وقد أنكر ضابط المرور ذلك .. ولكن أختي أكدته وشاهدت السيارة..
على كل حصل أن تنبه الوالد لتلك السيارة ..
فأدار المقود للجهة اليمني لتنحرف المركبة بسرعة قاطعة الطريق من طرفيه...
حينها صرخت الفتاة وسقطت في تجويف السيارة أسفل المقاعد..
وهي من نوع الفرت الدفع الرباعي...
تشاغل الوالد بابنته فقد أيقن بالكارثة ..
جذبها نحوه وضمها لصدره وارتمى عليها.. ليحميها..
سقطت السيارة في الوادي وتقلبت أربع قلبات أو أكثر..
تمزقت السيارة فصارت شذر مذر..
وضرب سقفها الحديدي من جهة الأخت على رأس الوالد ..
كانت الضربة تلك هي القاتلة ..
أما أختي ففقدت الوعي .. ولم تشعر سوى أنها ببطن الوادي فوق شجرة طلح..
على بعد يتجاوز الخمسين مترا تقريبا.. حيث نفحتها قوة استدارة السيارة في الهواء..
وحصل ما حصل مما ذكرته سابقا... والله المستعان..
كانت تلك الأحداث المؤلمة تدور رحاها في طريق الطائف مكة..
وأنا والوالدة نتحدث عن الوالد وأمه...!! وبره بها وكيفية موتها..
تصادف عجيب .. !!!
تزاحم الناس كالعادة على مكان الحادث..
جاء ضابط شهم من قبيلة عتيبة ...
ومنع المتطفلين من الوصول للفتاة .. حيث لم تعلم بموت الوالد.. حينها..
قال أحد العسكر هل الميت يقرب للفتاة ؟؟
فصاحت البنت وولولت..
فقال لها الضابط : ليس أبوك يا أختي إنه الشخص في السيارة الثانية..
والدك نقلناه للمستشفى وستلحقينه قريبا ..
لقد قام هذا الشاب النبيل بجمع كل ما تناثر من نقود وذهب ومستندات ..
لأكثر من ساعتين من بعد الحادث..
وسلمها كما هي لي بغير نقصان.. بعد عدة أيام فجزاه الله خيرا..
حين وصولي لمدينة الباحة ... أدركت العشاء في المسجد..
وبعد الصلاة توجهت للسوق لشراء هدايا للأقارب..
وحينها اتصل علي ابن العمة...!!!
كنت فرحا باتصاله على غير عادته !!
قال لي أين أنت ؟
قلت له الآن وصلت للباحة..
قال والدك أصيب بحادث وأختك بخير وهو بخير ويجب عليك الحضور!!
لم أسمع مثل هذه العبارة من قبل !! أو أن عقلي من هول كلامه لم يدركها..!!
طلبته يكرر ما قاله كأنني أبله..!!
وحين أدركت معاني عباراته قذفت بما في يدي من حاجيات..
وحين رأيت الوالدة في السيارة .. ترددت!!
وقفت أنظر إليها من خلف السيارة!!
ماذا عساني أقول لها؟؟
ما هي العبارات المناسبة لموقف مخيف كهذا!!؟؟
اقتربت من النافذة وانحنيت كالمسكين حينما ينكسر للسؤال...
ونظرت في عينيها وقلت لها بصوت خافت وهادئ..
يامه أبي صار عليه حادث لازم نرجع للطائف !!
ايش؟ ما فهمت ايش تقول!! تتعتعت قليلا ثم تماسكت وقالت:
كيف أبوك ياولدي؟؟ ووينه؟؟ وأختك؟؟ عشرات العبارات انطلقت منها..
قلت لها لا أدري خلينا نرجع ونشوف...
استدرت بالسيارة فورا لرحلة العودة..
لمن يعرف طريق الجنوب في الليل فهو خطير للغاية ومليء بالدواب..
ومع ذلك فقد أسرعت بشكل جنوني لألحق بأبي محمد..
وما كنت أدري حينها أن الحبيب قد وضع رحاله في دار غير دارنا والله المستعان..
خلال الطريق لم تتوقف الاتصالات بيني وبين إخوتي..
فلقد خرجت العائلة عن بكرة أبيها حبا لهذا الرجل ..
ولم يكن يعلم أحد بوفاته قبل وصولنا..
اتصلت في الطريق على جميع مستشفيات مكة المعروفة لي ..
رابني ..إفادة الممرض بنقل الوالد لمستشفى الششه وأختي لمستشفى النور..!!
لماذا فرقوهما؟؟ قالوا لعدم وجود أسرة بسبب الحج..!!
كانت بعض الاتصالات من الأقارب مزعجة..
حيث لا يراعي البعض مشاعر الإنسان وهو يقود في طرق خطرة..
ولكن الله سلم..
أمرتني الوالدة بالتوجه لمستشفى الششه فقد كان الهم بالوالد أكبر!!
ومن ذا يعز عليها أكثر من أبي محمد!!
ولكن أخي الكبير حين علم بوجهتي وقد علم بموت الوالد حينه
خاطبني بنبرة عادية ولم يظهر عليها الحزن.. بالتوجه لمستشفى النور..
وأصر علي بإحضار الوالدة لهم ، وبعدها ننطلق لمشاهدة الوالد..
في إحدى اتصالاتي للششه طلبت من الممرض بإلحاح كبير أن يوصلني بالخط لأتحدث
مع الوالد، ولكنه ماطل بحجة بعد التلفون وأنه في غرفة العمليات ونحو هذا الكلام..
وحسنا فعل جزاه الله خيرا..
يعجبك فطنة بعض الناس في تصرفاتهم..
كانت الوالدة طوال الطريق تضرب بيدها على صدرها بشكل متتابع.. وبدون نواح..
ولصدرها أزيز كأزيز المرجل..
وتقول ياولدي أبوك صار له شيء أنا أشعر بذلك!!
أكيد يابو محمد صار عليك شيء ما شعرت يمه بمثل هذا الشعور قبل اليوم..!!
كنت أسفه رأيها، وفي قرارة نفسي أوافقها ولكنني رحمتها...
ولو تركت للظنون سبيلا لقلبها لانفطر من حينه لا قدر الله..
وصلت لمستشفى النور وبالكاد حصلت موقفا للسيارات..
كنت والوالدة نلهث خلف كل من نراه مقفيا نحسبه أخا أو والدا!!
وصلت للاستقبال.. لاحظت عليه البرود فأشعرني ذلك بالراحة..!!
أعطيته أسماء المصابين..
أشار لي بالذهاب لمكتب التنويم..
وبحمد الله قبل وصولي لهم اتصل أخي ..
فقد كانت عاطفتي والوالدة أشبه ببركان..ينتظر الثوران ..
أصررت على الوالدة أن تجلس على مقاعد النساء..
وبحثت عن أخوي وحينما شاهدتهما من بعيد.. تفرست في وجهيهما ..
لعلي أعرف خبرا ..
وحينما التقينا ، أشاح أحدهما بوجهه عني ليخفي دمعة تحدرت من عينيه..
ومن ثم ضمياني وبكيا كطفلين صغيرين..
مات أبونا يافلان مات..
استرجعت ،، ولم استطع الاستمرار في الوقوف فقعدت على
الرصيف أبكي كيتيم ...
كان الهم عند إخوتي على الوالدة..
فهي كبيرة في السن ولربما تسوء الكارثة ... وتتضاعف المصيبة ..
لم تنتظر الوالدة فلقد بحثت عنا فجاءت تتبع الخطى ..
وين أبوكم يامه؟؟
وين أختكم ؟؟
ويش صار وأنا أمكم ..
بكى الأخوان عندها فصرخت الوالدة وسقطت على الأرض..
أما الأخت فقد انكسرت ذراعها وأصيبت بشعور في الظهر.. ولكن الله سلم..
فقد كادت المسكينة تلحق بوالدها ..
فالحمد لله على عافيتها ..
كانت تلك الليلة كابوسا بما تعنيه الكلمة من معنى..
فهول المصيبة ثم ما يترتب عليها من ترتيبات من تغسيل وصلاة ودفن
وغير ذلك تشكل أزمة واستنفارا لكل الطاقات..
لم نذق جميعا طعم النوم ..
كنت في تلك الليلة أفكر بالوالد في الثلاجة ..
هممت أن أذهب للثلاجة لأكون قريبا منه!!
وما عساني أنفعه حينها!!
في ضحى اليوم الثاني ..
اجتمعت العائلة والأقارب والأعمام ..
انطلقنا للثلاجة..
كان يوما مشمسا ، والوجوه عابسة .. كنت وإخوتي كحفاري قبور..
لم نعرف كيف نبدأ كل له رأي وكل يتكلم ولكن ليس بينهم أبو محمد..!!
استكملنا إجراءات استخرج الجثة ومن ثم توجهنا للثلاجة..
كانت سيارة الإسعاف التي ستنقل الوالد جاهزة ومفتوحة الأبواب..
قادنا عامل بنغالي يحمل بيده نقالة صغيرة..
لم يظهر عليه أثر الخوف والتردد مثلنا!!!
كانت أمامه ثلاثة أبواب حديدية ضخمة..
فتح احدها فخرج منها تيار هوائي بارد للغاية..
ويا للمنظر الموحش..
أكثر من مئة جثة قد رصت بشكل فوضوي ..
دخل العامل للداخل فلحقته لوحدي .. ثم تتابع من جرؤ ورائي..
كانت بقع الدماء تملاء المكان ..
والجثث موضوعة في أدراج كأدراج الكتب والإضاءة خافته للغاية ..
بحث العامل في الأرقام وعيوننا جميعا تسير معه..
وأخيرا أشار لأبي.. وقال هذا هو ..!! دونكموه!!
اقتربنا من الوالد كان رحمه الله دقيق الجسم .. قليل اللحم ... رأيت يده فعرفتها..
أذكر أن أعمامي وإخوتي انكبوا على يده فقبلوه
لم يجرؤ أحد على رفع غطاء الوجه..
فقد كان الدم يغطيه بشكل مخيف..
وعلى جوانب النقالة سقط الدم..
كانت يده بارزة وتلمع فيها أزرار كم الثوب الحديدية..
وكان ثوبه أسودا كما تركته بالأمس..
لو لم أرى الدماء لظننته نائما رحمه الله فقد كانت كهيئته في ذلك كما عرفته..
أذكر مرة أنني في صغري وأنا لم أتجاوز الثمان سنوات ..
أنني دخلت على الوالد .. وكان نائما في صالة بيتنا القديم..
|