مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
بسم الله
قال تعالى
الآية : 106 {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
فيها خمس عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} "
مسالة :ما ننسخ من اية او ننسها
1-وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ ؛ وَلَا أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَيُجَوِّزُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ
2-وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَسَخَهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ :
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ }
فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ حُدُودُهُ وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا : كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ أَحَدٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ }
3- وَإِلَّا فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ إنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ لَيْسَ
4-فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ الصِّحَّةِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ .
4-وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةِ بِلَا قُرْآنٍ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ؛ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } .
5-وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ تِلْكَ الْغَايَةَ لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا مَجْهُولَةٌ فَصَارَ هَذَا يُقَالُ : إنَّهُ نَسْخٌ بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نَفْسِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ :
{ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِلَا رَيْبٍ .
الْوَجْهُ الثَّانِي :
أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ
قَوْلُهُ : وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ .
6- وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ :
{ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } الْآيَةَ ؛
فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُحْكَمَةِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ لَكِنْ يَقُولُونَ :
إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }
وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ .
الناسخ والمنسوخ
، وهذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك ، وقالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه ، فما كان هذا القرآن إلا من جهته ، ولهذا يناقض بعضه بعضا ، فأنزل الله :
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل 101] وأنزل {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}
-الثانية : معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام.
-قيل : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ !
فقال : لا ، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت!.
الثالثة : النسخ في كلام العرب على وجهين :
[أحدهما] النقل ، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وهذا لا مدخل له في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية : 29] أي نأمر بنسخه وإثباته.
الثاني : الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا ، وهو منقسم في اللغة على ضربين :
أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله تعالى : {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} .- وفي صحيح مسلم : "لم تكن نبوة قط إلا تناسخت" أي تحولت من حال إلى حال ، يعني أمر الأمة.
-: النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : انتسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب
الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه ، كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى قوله تعالى
{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج : 52] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله. وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب.
قلت : ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة "الأحزاب" كانت تعدل سورة البقرة في الطول ،
الرابعة : أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود ، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة :
1. إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه.
2. ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان
3. وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره ،
4.وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له : لا تذبحه
5. وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم
6.، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه ، ثم تعبد بها بعد ذلك ، إلى غير ذلك.
=وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة ، وحكم إلى حكم ، لضرب من المصلحة ، إظهارا لحكمته وكمال مملكته.
-ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية ، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور ، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح ،
كالطبيب المراعي أحوال العليل ، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته ، لا إله إلا هو ، فخطابه يتبدل ، وعلمه وإرادته لا تتغير ، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى
-وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا ، ولذلك لم يجوزوه فضلوا.
: والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم ، أو كان حراما فيحلل.
وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه ، كقولك : امض إلى فلان اليوم ، ثم تقول لا تمض إليه ، فيبدو لك العدول عن القول الأول ، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت : ازرع كذا في هذه السنة ، ثم قلت : لا تفعل ، فهو البداء.
الخامسة : اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى ، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا ، إذ به يقع النسخ ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا ، فيقال : صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء ، فالمنسوخ هو المزال ، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة ، وهو المكلف.
السادسة : اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا ، ، وزادا : لولاه لكان السابق ثابتا ، فحافظا على معنى النسخ اللغوي ، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة ، وتحرزا من الحكم العقلي ، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره ، وليخرج القياس والإجماع ، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي ، لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا ، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله ، كقولك : قم لا تقم.
السابعة : المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله