تقويم اللسان والبنان
نجيب جلواح
وقَالَ النّووِيّ رحمه الله: «وعلى طالِبِ الحديثِ أن يتعلّمَ مِنَ النّحوِ واللُّغَةِ ما يَسلَمُ به منَ اللّحْنِ والتّصحيفِ»(15).
وقال ابنُ الصَّلاحِ رحمه الله: «فحقّ على طالبِ الحديثِ أنْ يتعلّمَ مِنَ النَّحْوِ واللُّغَةِ ما يتخلَّصُ بهِ منْ شَيْنِ اللَّحْـنِ، والتّحريفِ، ومَعَرَّتِهمَا»(16).
وقال السَّخاويّ رحمه الله: «وظاهرُه الوجوبُ، وبه صرّحَ العزُّ بنُ عبدِ السّلامِ، حيثُ قال ـ في أواخرِ القواعدِ ـ: ...فالواجبةُ: كالاشتغالِ بالنّحوِ الذي نُقيمُ به كلامَ اللهِ تعالى ورسولِه ﷺ، لأنَّ حِفظَ الشّريعةِ واجبٌ لا يتأتّى إلاّ بذلك، فيكونُ مِنْ مُقدّمةِ الواجبِ، ولذا قال الشّعبيّ: «النّحوُ في العلمِ كالملحِ في الطّعامِ، لا يَستغني شيءٌ عنه»... وكذا صرّحَ غيرُه بالوجوبِ أيضاً، لكنْ لا يجبُ التّوغُّلُ فيه، بل يكفيهِ تحصيلُ مُقدّمةٍ مُشيرةٍ لمقاصدِهِ بحيثُ يفهمُها ويميِّزُ بها حركـاتِ الألفاظِ وإعرابها لئلاَّ يلتبسَ فاعلٌ بمفعولٍ، أو خبرٌ بأمرٍ، أو نحو ذلك، وإنْ كان الخطيبُ قال ـ في «جامعه» ـ: إنّهُ ينبغـي للمُحدِّثِ أنْ يتّقيَ اللّحنَ في روايتِهِ، ولنْ يقدِرَ على ذلك إلاَّ بَعْدَ دُرْبةِ النّحوِ، ومُطالعتِهِ عِلمَ العربيّةِ»(17).
وقال المُظَفَّرُ بنُ الفَضْلِ رحمه الله: «فأمّا النّحوُ فإنّهُ مِن شرائطِ المتكلِّمِ، سواء كان ناظماً أو ناثرًا، أو خطيباً أو شاعرًا ولا يمكنُ أنْ يَستغنيَ عنه إلاّ الأخْرسُ الذي لا يُفصحُ بحرفٍ واحدٍ، وكان بعضُ البُلغاءِ يقولُ: إنّي لأجدُ لِلَّحنِ في فمـي سُهُوكَةً(18) كَسُهُوكَةِ اللَّحمِ...
وهذا حثٌّ على تقويمِ اللِّسانِ وتأدُّبِ الإنسانِ، وقال الأصمعي: «تعلّمُوا النّحوَ فإنّ بني إسرائيلَ كفرُوا بكلمة واحدة كانَت مشدَّدة فخفَّفوها، قال الله: يا عيسى إني ولدَّتُك، فقرؤوا: يا عسيى إنِّي ولدتك، مخفَّف فكفروا(19)، وما قدْ وردَ في الحثِّ على تَعلُّمِ النّحوِ، وفي شرفِ فضيلتِه وجلالةِ صِناعتِه، لو تعاطينا حِكايتَه لاحتجْنا فيه إلى كتابٍ مُفردٍ، إذْ بمعرفتِهِ يُعقَلُ عنِ اللهِ عز وجل كتابُه، وما استوعاهُ مِن حكمتِهِ، واستودعَهُ مِن آياتِه المبِينةِ، وحُجَجِـهِ المنِيرةِ، وقُرآنِهِ الواضِحِ، ومواعظِـهِ الشّافيةِ، وبه يُفهمُ عن النّبيِّ ﷺ آثارُه المؤدّيةُ لأمرِهِ ونهيِهِ وشرائعِهِ وسُننِهِ، وبه يَتّسِعُ المرءُ في مَنطقِهِ، فإذا قالَ أفْصحَ، وإذا احتجَّ أوْضحَ، وإذا كتبَ أبلغَ، وإذا خَطبَ أَعْجبَ»(20).
وقدْ ضُرِبَتْ أمثالٌ بليغةٌ فيمنْ أحسنَ ألواناً منَ العلمِ، ولكنّه لم يُتقنِ العربيّةَ، ولم يُحسنْ ضبطَ ألفاظِها؛ فقالَ شُعبـةُ: «مَن طلبَ الحديثَ ولم يُبصِرِ العربيَّةَ، فمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ عليه بُرْنُسٌ ليسَ له رأسٌ» أو كما قالَ(21).
وقالَ حمّادُ بنُ سَلَمَةَ: «مَثَلُ الذي يَطلبُ الحديثَ ولا يَعرِفُ النّحوَ مَثَلُ الحِمارِ عليه مِخْلاَةٌ(22) لا شَعيرَ فيها»(23).
وتَضيِيعُ اللّسانِ أَشدُّ وأَضرُّ على النّفسِ مِن تضييعِ المالِ والثّروةِ؛ فقدْ قالَ الشّافعيّ رحمه الله: «تعلّمُوا النّحوَ، فإنّه ـ واللهِ ـ يُزْرِي بالرّجُلِ أنْ لا يكونَ فَصيحاً، ولقدْ بَلغَني أنَّ رَجُلاً دخلَ على زيّادِ ابنِ أبيه فقالَ له: أصلحَ اللهُ الأميرَ، إنَّ أَبِينَا هلكَ، وإنَّ أَخِينَا(24) غَصَبَنا على ما خلّفهُ لنا، فقال له زِيَادٌ: ما ضيَّعتَ مِن نفسكَ أكثرُ ممّا ضاعَ مِنْ مالِكَ»(25).
وكثرةُ الاعتناءِ بجمعِ المالِ والحرصُ على ذلك مَشْغلةٌ عن تقويمِ اللّسانِ؛ فقد روى البيهقيّ عن ابنِ السّائبِ قال: «شهدتُ الحسنَ، فأتاهُ رَجُلٌ، فقال: يا أبو سعيدٍ! قال: «كَسْبُ الدّوانيقِ(26) شغلكَ أنْ تقولَ: يا أبا سعيدٍ!»(27).
ومِن الآثارِ السيِّئةِ للّحنِ ما رواه البيهقيّ ـ أيضًا ـ عـن محمّدِ بنِ الفَضْلِ حدّثني الرِّياشِيّ قال: «مرّ الأصْمَعيُّ برَجُلٍ يدعُو ويقولُ ـ في دعائِه ـ: يا ذُو الجلالِ والإكرامِ! فقال له الأصْمعيّ: «يا هذا! ما اسمُكَ؟ فقالَ: لَيْثٌ، فقال الأصْمَعيّ:
يُنـــاجِي ربَّـهُ باللَّحنِ لَـيْـثٌ
لِذاك إذا دعاهُ لا يُجِيبُ»(28)
بعدَ أن عرفنا هذا كلََّه، كيفَ نرضى إذا تكلَّمنا أنْ تكونَ ألسنتُنا مُعوجّةً، وأحدُنا لا يرضى أنْ يكونَ الحذاءُ الذي في رجلِه إلاّ في نهاية الحُسنِ والبهاءِ والجمالِ؟! وأيُّ عُضوٍ أَولى بأنْ يُحفظَ من الزّلل مِن اللّسان الذي كرّمهُ الله تعالى، إذْ أنطقَهُ بتوحيدِه؟!(29).
وَالعَجبُ ـ الذي لا يكادُ ينقضِي ـ مِنْ أُناسٍ لا يَعلمُ أحدُهم مِن عِلمِ العربيّةِ إلاّ اسمَه، ولا مِن النّحوِ إلا رسمَه، بل إنّه قد لا يَستطيعُ أنْ يُركِّبَ جملةً تركيباً صحيحاً، ولا يقدرُ على ضبطِ الكلماتِ بالشّكلِ على الصّـوابِ، ثمّ يتسوّرُ المراقـي، فيدّعي العلمَ، ثمّ تراهُ يُمطِرُ على كلِّ مَن خالفَهُ بوابلٍ من السِّبابِ والشّتائمِ، وهـو يحسبُ أنّه يُحسنُ صُنعاً؛ وتأمّلْ معي ـ رعاكَ اللهُ ـ في هذه الواقعةِ واعتبرْ؛ فعنِ العبّاسِ بنِ المغيرةَ بنِ عبدِ الرّحمنِ عن أبيهِ قـالَ: «جاءَ عبدُ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِي ُّ في جماعةٍ إلى أَبي لِيعرضُوا عليه كتاباً، فقرأهُ لهم الدَّرَاوَرْدِي ُّ، وكانَ رَديءَ اللّسانِ، يَلْحَنُ لحناً قبيحاً، فقالَ أبي: ويحكَ يا دَرَاوَرْدِيُّ! أنتَ كنتَ إلى إصلاحِ لسانِكَ قبلَ النّظرِ في هذا الشّأنِ أحوجَ منكَ إلى غيرِ ذلك»(30).
وأُنبِّهُ ـ في الخِتامِ ـ على أمـرٍ مُهمٍّ، وهو أنَّ دراسةَ النّحوِ ومَعرفةَ قواعدِه ليس مَطلوباً لذاتِه، بل هو وَسيلةٌ لغايةِ كُبرى وهي تقويمُ اللِّسانِ، وضبط التّعبيرِ.
ومِن الخطإِ البيِّنِ أنْ نقصرَ الاهتمامَ على دراسةِ النّحوِ دونَ تطبيقٍ لقواعدِه، وضبطٍ للكلماتِ ضبطاً صحيحاً.
ولمّا قلَّ أنْ يجتمِعَ في طالبِ العلمِ ـ اليومَ ـ تمكُّنٌ في النّحوِ وفي العلومِ الشّرعيةِ، فيَكفِيه أنْ يأخذَ مِن اللّغةِ العربيّةِ ما يُقوِّمُ به لسانَه، ويَصونُه عن الخطإِ، وإنْ لم يَغُصْ في دقائقِها، ويتعمّقْ في مسائلِها.
(1) انظر: «بهجة المجالس وأُنس المجالس» لابن عبد البرّ (ص8).
(2) هَجُنَ الكلامُ وغيرُه: صار مَعيبًا مَرذولاً، وهَجُنَ الأمرُ: قبُح.
(3) الصَّميم: المحض الخالص في الخير والشَّرِّ .
(4) مُقتبس مِن مقدِّمة ابن مَكي الصِّقلِّي لكتابه: «تثقيف اللّسان وتنقيح الجَنان».
(5) اللَّحْن: هو الخطأ، كنصب المرفوع، ورفع المجرور، ونحو ذلك.
(6) التَّصحيف: هو التَّشابُهُ في الخطِّ بين كلمتينِ فأكثر، بحيثُ لو غُيِّرتْ نُقَطُ كلمةٍ لكانت عينَ الثَّانية، نحو: التَّحلِّي، والتَّجلِّي، والتَّخَلِّي.
(7) انظر: «بهجة المجالس وأُنس المجالس» لابن عبد البرّ (ص9).
(8) المصدر السَّابق (ص7).
(9) «روضةِ العقلاءِ ونزهة الفضلاء» (ص223).
(10) انظر: «الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع» للخطيب البغدادي [التَّرغيب في تعلُّم النَّحو والعربيَّة لأداء الحديث بالعبارة السَّويَّة] (2/ 25).
(11) انظر: مقدِّمة كتاب «المؤمَّل في الرَّدِّ إلى الأمر الأوَّل» لأبي شامة المقدسي، و«عناية المسلمين باللُّغة العربيَّة خدمة للقرآن الكريم» لسليمان بن إبراهيم العايد (ص25).
(12) «الاعتصام» (1/ 237).
(13) «المصنَّف» (25651، 29914).
(14) «اقتضاء الصِّراط المستقيم» (ص207).
(15) انظر: «تدريب الرَّاوي» للسُّيوطي (2/ 106).
(16) «مقدِّمة ابن الصَّلاح» (1/ 47).
(17) «فتح المغيث شرح ألفيَّة الحديث» (2/ 258 ـ 259).
(18) وهي رائحة اللَّحم الخنز، وريح السَّمك، أو ريح العرق والصَّدأ.
(19) «روضة العقلاء» (ص221 ـ 222).
(20) «نضرة الأغريض في نصرة القريض» (ص3).
(21) انظر «الجامع لأخلاق الرَّاوي» (1073).
(22) وهي الَّتي تُعلَّق على رأسه.
(23) انظر «الجامع لأخلاق الرَّاوي» (1074).
(24) وهذا مِن اللَّحن الشَّائع عندنا، فيُنادِي بعضُ النَّاس المستقيمَ من المسلمين به، فيقول: «أَخِينا!» والصَّواب: «أَخَانا!» بحذف حرف النِّداء، والتّقدير: «يَا أَخَانا!».
(25) انظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (19/ 195).
(26) جمع دَانَِق ـ بفتح النُّون وكسرها ـ مِن الأوزان: وهو سُدُس الدِّرهم والدِّينار.
(27) «شُعَب الإيمانِ» (1563).
(28) «شُعَب الإيمانِ» (1565).
(29) انظر: «اتِّفاق المباني وافتراق المعاني» لتقيِّ الدِّين المصريّ (ص138).
(30) انظر «سير أعلام النّبلاء» للذَّهبي (8/ 368).