الحث على فضائل الحضور إلى الصلاة مع الجماعة
عبد العزيز بن محمد العقيل
الخطبة الأولى
الحمدُ لله نحْمَده، ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فيا عباد الله: اتَّقوا الله -تعالى- واحذروا من الزُّهد والتفريط في صلاة الجماعة، فكم فات المتخلِّفَ عنها بغير عذر مِن خيرات كثيرة، مع ما يَناله مِن عقوبات على تخلُّفه عنها! قال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نُزلًا كلَّما غدا أو راح))[1].
وعن أُبيِّ بن كعْبٍ - رضي الله عنه - قال: كان رجلٌ مِن الأنصار لا أعلم أحدًا أبعدَ من المسجد منه، وكانت لا تُخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريتَ حمارًا لتركبَه في الظَّلماء وفي الرَّمضاء، قال: ما يسرُّني أنَّ منزلي إلى جنبِ المسجد، إني أريد أن يُكتَب لي ممشاي المسجد ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي، فقالَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: ((قدْ جمَع اللهُ لك ذلك كلَّه))[2].
فيا عباد الله: يا مَن زهد في الخيرات وأشغلتْه دنياه عن أخراه، وأطاع شيطانه وهواه، اتَّقِ الله في نفسك، فلسوف يأتي عليك يومٌ تتحسَّر فيه على ما فرَّطتَ فيه مِن خيرات، إنَّ مَن اعتاد الحِرْص على الدنيا ومكاسبها، ولو كانتْ خبيثةً لو ذُكِر له أنَّ في المكان الفلاني سِلعًا تُباع برُخْص، وذهب غيرُه واشترى منها وتأخَّر هو عن الذَّهاب إليها، وأحضر من ذهب واشترى سلعةً أو سلعًا وباعها بأرباح، إنَّ مَن تأخَّر يتحسَّر على تأخيره عن الذَّهاب للشراء، ويلوم نفسه على التفريط والتكاسل عن الذَّهابِ إلى ذلك المكان، مع أنه لا يدري ماذا يُصيبه لو ذهَب، ولا يَدري هل يكسب في تلك السلعة لو ذَهب وأحضرَها أم لا!.
فكيف تزهد أيُّها المفرِّط في خيراتِ أخبرك بها الصادقُ المصدوق، الذي لا يَنطِق عن الهوى، إنْ هو إلاَّ وحي يُوحَى؟! كيف تَزهَد في عملٍ أُخبرتَ عن تحقُّقه، وعلمتَ حاجتك إليه وعقوبة تخلفك عنه، وتنافس وتتحسَّر على عملٍ قد لا تُدركه، وقد يكون سببًا في هلاكك في دُنياك وأخراك؟!
لقدْ أصيبتِ العقول وعميتِ النفوس وأصبحتْ لا تفرِّق بيْن الصالح والطالح، والنافع والضار، وإلا فما الذي زهَّدها في خيراتٍ هي أحوج ما تكون إليها في يومٍ مِن الأيام، مع أنَّ عمَلَ هذه الخيرات لا يُلهي عن أعمالِ الدنيا، بل يُعين عليها؟! فلا تجد صاحبَ طاعة محافظًا عليها إلَّا وأعماله ميسَّرة وأوقاته محفوظة، ونفسه مطمئنَّة، قد جمَع بيْن الدين والدنيا، وأتتْه الدنيا وهي راغمة، بخلافِ مَن جعلها أكبرَ همِّه، فتجد أعماله معقَّدة ومتعبة، وأوقاته ضائِعة، ونفْسه متعبة، ولن يأتيَه مِن الدنيا إلَّا ما كُتِب له، ثم المصيبة العُظمى والطامَّة الكبرى أنَّ النفوسَ لا تتعظ ولا تتراجع، وإنْ كانتْ غيرَ راضية بوضعها، ولا مطمئنَّة لتصرُّفها، ولا شكَّ أنَّ هذه عقوبة أخرى.
فيا عباد الله: حاسبوا أنفسكم قبلَ أن تُحاسبوا، وارجِعوا إلى الخيرات والفضائل لا تَتكاسلوا عن الحضور إلى الصلاة في الجماعة في المساجد، ولا تَزْهدوا في الخيرات المترتِّبة على ذلك، فالخُطَى تُكتب حسنات، وانتظارُ الصلاة صلاةٌ.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَزال أحدُكم في صلاةٍ ما دامتِ الصلاة تحبسه، لا يَمْنعه أن ينقلِبَ إلى أهله إلا الصلاةُ))[3].
وعن عثمان بن عفَّانَ - رضي الله عنه - قال: قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن صلَّى العِشاء في جماعة فكأنَّما قام نصف الليل، ومَن صلَّى الصبح في جماعة فكأنَّما صلَّى الليلَ كلَّه))[4].
فكيف يَزهَد مَن له عقل ولديه بصيرة في هذا الخير الجزيل، والفضل العظيم؟!
خلَتِ المساجد مِن أكثر المصلين، وأصبح التنافس في عمارتها الحِسيَّة، وهي لم تُعمرْ بالبناء إلا لتُعمر بالصلاة والذِّكْر والقراءة وسائرِ الأعمال الفاضلة.
إنَّ ظاهرة التخلُّف عن الحضور إلى الصلاة مع الجماعة في المساجدِ قد عمَّتْ، وآذنت بنزول عقوباتٍ قد تعمُّ الجميع.
فاحذروا - يا عباد الله - عقوبةَ الله، فإنَّكم على خطرٍ عظيم، قد انعقد غمامُه، فتداركوا أمرَكم، وارجِعوا إلى ربكم، وتَناصحوا فيما بينكم، وخذوا على أيدي سفهائكم، قبلَ أن يَحُلَّ بكم ما لا تَحْمدون عُقباه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله العظيم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78-79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإيَّاكم بما فيه مِن الآيات والذِّكْر الحكيم، وتاب عليَّ وعليكم، إنَّه هو التوَّاب الرَّحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كل ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
واعلموا - رحِمكم الله - أنَّ الكثيرَ مِن الناس قد أُصيب بمصيبةٍ عُظْمى، وهي التخلُّف عن الصلاةِ مع الجماعة.
وأصبَح البعضُ يتسلَّى بأعذار واهية: إمَّا ببُعد المسجد عن داره، وإمَّا بانشغاله بأعمال دُنيوية، وإما بنوم قد يكون هو السببَ في استغراقه فيه، وكلُّها أعذارٌ واهية، لا تُجدي مع العقوبة شيئًا، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَعذرِ الأعمى الذي أتى إليه وذَكَر أنَّه شاسعُ الدار، وأنَّ المدينة كثيرةُ السِّباع والهوام، وليس له قائدٌ يلائمه، فلم يَأذنْ له بالصلاة في بيته مع ما ذَكَر مِن أعذار!.
ومِن المأسوف له أنَّنا نجد الكثيرَ من الأحياء قد عُمرت بالمباني المتطاول فيها والمتفاخَر في تشييدها، على مساحاتٍ واسعة من الأرْض، ومع هذا لا نجِد بيْنها مسجدًا، حتى ولو ببنيان بسيط، كالبُلك والأخشاب، وحتى ولو بالصفائحِ التي تَقِي من الحرِّ والبرْد والمطر، فما المانعُ مِن إقامة مِثل ذلك إذا لم يحصلْ بناء مسلَّح.
فقد كان مسجدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن جريد النَّخْل، وهو سيِّد البشَر، وقرْنُه خير القرون، فما الذي جعَل الهمَّة عالية في بناء هذه القصور، وسهَّل النفقةَ فيها، وأضعَف النفوس وجعلها تشحُّ بالقليل في بناء مسجدٍ ولو بالبساطة؟ إنَّه ضعف الإِيمان، وقلَّة الرغبة في الخير، وتثبيط النفْس الأمَّارة بالسُّوء.
فاتَّقوا الله - يا عباد الله - في صلاتِكم، حافظوا عليها مع الجماعة.
________________
[1] سبق تخريجه (ص: 40).
[2] أخرجه مسلم (663).
[3] أخرجه مسلم (649).
[4] أخرجه مسلم (656)