عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-04-2019, 01:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,731
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تنوع الإعراب النحوي وأثره في فهم النص النبوي

تنوع الإعراب النحوي


وأثره في فهم النص النبوي


د. سعد فجحان الدوسري (*)


د-تعدد الأوجه الإعرابية في إعراب الجمل والنصوص الشرعية

إن علماء العربية عندما يعربون في بعض الأحيان كلمات أو جملا قد تختلف أراؤهم، وتتعدد أقوالهم في الإعراب، وذلك يعود إلى اختلاف اجتهادهم في تطبيق وتنزيل قواعد العربية على الأمثلة، فتجد قولين أو ثلاثة أو أكثر في إعراب كلمة واحدة.
وقد التمس العلماء أسباب تعدد الأوجه الإعرابية، فلخصها الدكتور محمد حسنين صبرة ([17]) وقسمها إلى قسمين:
أسباب تتصل بتراكيب اللغة وهي:
طبيعة التراكيب بأن تكون تراكيب مشكلة أو أن يكون ترتيب الكلمات فيه تقديم وتأخير.
الاتباع أو الاستئناف، بأن تكون الكلمة تابعة لما قبلها أو أن تكون منقطعة عما قبلها ومستأنفة.
تعدد المتبوع، فقد يكون هناك تراكيب تشتمل على كلمتين تصلح كل منهما لان تكون متبوعة، ولكل منهما إعراب، فيؤدي إلى اختلاف إعراب التابع.
تعدد وظائف بعض الكلمات، ككان مثلا، فقد تأتي ناقصة، وقد تأتي تامة، أو زائدة، فتختلف الكلمات المعمول فيها من بعدها باختلاف وظيفة العامل.
غياب الإعراب، ففي العربية كلمات لا تظهر عليها علامات الإعراب، إما بسبب البناء أو التعذر، كالاعتلال والثقل مثلا.
أسباب تتصل بمنهج النحاة، كاختلافهم في مسائل نحوية كثيرة كما بين البصريين والكوفيين "كالخلاف القائم في جواز تقديم الفاعل على الفعل وغيرها.
ولشهرة هذه الخلافات ألفت فيها كتب ككتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" لابن الأنباري ([18]).
المبحث الأول: إعراب الحديث النبوي

المطلب الأول: تاريخ إعراب الحديث النبوي
من الأوصاف التي تحلى بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: وصف البلاغة وجوامع الكلام، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون"([19]).
ثم تتابعت جهود علماء العربية في بيان المعاني والمفردات ككتاب "الغريبين" لأحمد بن محمد الهروي، و"الفائق" للزمخشري، والنهاية لابن الأثير، والتي كانت في أكثرها منصبة على تفسير الغريب من المفردات، وشرح العبارات، مع شذرات من التحليل الصرفي، ومعاني الأدوات، ونادر من الإعراب.
إلا أن الخطوة الأولى في التحليل النحوي للأقوال النبوية المباركة كانت على يد الفقيه النحوي الإمام أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616 ه ([20])، فقد ألف كتابه: "إتحاف الحثيث بإعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث" المعروف ب "إعراب الحديث النبوي"، حين رغب إليه جماعة من طلبة الحديث أن يملي مختصرا في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث الشريفة، فكان اعتماده على "جامع المسانيد" لابن الجوزي، إذ تناول من ذلك مادة وافرة للمسائل النحوية جعلها تحت عنوان "إعراب الحديث النبوي". وقد عرض فيه كثيرا من الإعراب بما تحتمله بعض المفردات من الوجوه والروايات، وقليلا من الصرف ومعاني الأدوات.
ثم جاء بعد ذلك: إمام النحو والحديث الإمام ابن مالك الأندلسي، في كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح"، حيث جمع من صحيح البخاري ما يستشكل من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في قواعد العربية، فأزال مشكلاتها، ووجه إعرابها مؤيدا ذلك من أقوال العرب في الشعر والنثر. ثم تتابع العلماء بعد ذلك في مؤلفات مستقلة وشروح مضمنة نأتي عليها في المطلب الثاني أن شاء الله.
المطلب الثاني: المصنفات في إعراب الحديث النبوي

لم يكن الاهتمام منصبا كثيرا على إعراب النص النبوي وبيان نحوه، إلا أن يكون ذلك في أثناء شرح حديث ما في كتب شروح الحديث أو في كتب غريب الحديث، لكن هذا النوع من العلم لم يخل من التأليف كما سبق بيانه، بل ألف فيه مصنفات وان كانت في بدايتها متأخرة نوعا، وهي على الترتيب الزمني كما يأتي ([21]):
"إتحاف الحثيث بإعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث "المعروف ب "إعراب الحديث النبوي " للإمام أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616ه، فقد أملاه إملاء على طلابه، أورد فيه أحاديث كثيرة معربا لها، ومبينا الأوجه النحوية في بعض نصوصها.
"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" للعلامة جمال الدين، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك، أبي عبد الله الطائي الجياني الإمام النحوي الشهير، صاحب "الألفية" في النحو والصرف، المتوفى سنة 672 ه.
وهذا الكتاب مطبوع بتحقيق الدكتور طه محسن، وهو عبارة عن جزء لطيف يحوي تعليقات ونكتا نحوية ولغوية على بعض المواضع في "صحيح البخاري".
"عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد" للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، السيوطي، المتوفى سنة: 911 هـ، حققه وقدم له: د. سلمان القضاة.
قال السيوطي في مقدمة كتابه: "وقد استخرت الله تعالى في تأليف كتاب في إعراب الحديث، مستوعب جامع، وغيث على رياض كتب المسانيد والجوامع هامع، شامل للفوائد البدائع شاف. كافل بالنقول والنصوص كاف، أنظم فيه كل فريدة، وأسفر فيه النقاب عن وجه الخريدة، وأجعله على مسند أحمد، مع ما أضمه إليه من الأحاديث المزيدة، وأرتبه على حروف المعجم في مسانيد الصحابة، وأنشئ له من بحار كتب العربية كل سحابة"([22]).
أمالي السهيلي أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي المتوفى سنة 581 ه. صاحب كتاب الروض الأنف في السيرة النبوية. وقد حقق الكتاب الأستاذ محمد إبراهيم البنا، وتناول أربعا وسبعين مسألة في النحو واللغة؛ هي أجوبة للسهيلي، تناولت مشكلات وقعت في بعض الأحاديث. والكتاب يقع في 158 صفحة.
"التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح" لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المصري المتوفى سنة 794 ه، وهو كتاب تناول فيه مؤلفه ما وقع في صحيح البخاري من لفظ غريب أو إعراب غامض، أو ما يتعلق بنسب وتسمية الرواة، وغير ذلك. والكتاب طبع بتحقيق يحي بن محمد علي الحكمي في ثلاثة مجلدات، وأيضا بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية ببيروت.
"مصابيح الجامع" للقاضي بدر الدين محمد بن أبي بكر بن عمر الدماميني القرشي الإسكندراني المتوفى سنة 827 ه، والكتاب عبارة عن شرح للجامع الصحيح للإمام البخاري، تناول فيه مؤلفه في الغالب المباحث اللغوية والنحوية، مع ما تضمنه من ضبط للرواة وتسمية للمبهمين وغير ذلك. وقد طبع الكتاب في عشرة مجلدات، من قبل وزارة الأوقاف القطرية بتحقيق نور الدين طالب.
أما بالنسبة للبحوث والدراسات التي تناولت هذا الجانب، فقد تقدمت في مقدمة هذا البحث.

المبحث الثاني: أمثلة علي تنوع الاعراب النحوي واثره في فهم النص النبوي

المثال الأول: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) ([23]).



اختلف العلماء ([24]) في ضبط كلمة "ذكاة" الثانية، فأجاز بعضهم الإعراب بالرفع، وأجاز بعضهم الإعراب بالنصب، فالرفع باعتباره خبرا للمبتدأ ذكاة الأول، والنصب بنزع الخافض ([25])، والتقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه، أي: يذكي مثل ذكاة أمه، فحذف الجار وانتصب الاسم بعده، أو على تقدير يذكي تذكية مثل ذكاة أمه، فحذف المصدر وصفته، وأقام المضاف إليه مقامه، فلا بد عنده من ذبح الجنين إذا خرج حيا ([26]).
وبناء على هذين الأعرابيين انقسم الفقهاء تجاه هذه المسألة إلى فريقين:
1-الجمهور، وهم: المالكية والشافعية والحنابلة، وأخذ به أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية ([27]) ذهبوا إلى الاكتفاء بذكاة الأم عن ذكاة جنينها الذي في بطنها، استدلالا بالحديث برفع ذكاة الثانية، وأن المعنى: أن ذكاة الجنين الذي في بطن أمه تغني عنه ذكاة أمه، ولأنه جزء من أجزائها، وذكاتها ذكاة لجميع أجزائها، ولان هذا إجماع من الصحابة ومن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولان الجنين متصل بها اتصال خلقة، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها ([28]).
قال الطيبي رحمه الله: (لعل أصل الكلام ذكاة الأم بمنزلة ذكاة الجنين في الحل، أي مغنية عن ذكاة الجنين، فقدم وأخر كقوله: "لعاب الأفاعي القاتلات لعابه". ونحوه قول العرب في الحلف: "سلمى سلمك، وحربي حربك، وهدامى هدمك") ([29]).
2-وذهب الإمام أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد إلى أن الجنين الميت لا يحل إلا أن يخرج حيا؛ فيذكى كذكاة أمه.
واستدلوا في ذلك بنصب (ذكاة) بنزع الخافض، وأصل الكلام: "ذكاة الجنين كذكاة أمه"، أي: يذكي مثل ذكاة أمه، بمعنى أنه لا تغني ذكاتها عن ذكاته.
واستدل أيضا بالأصل، وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة: 3)، والجنين الذي لم يدرك حيا بعد تذكية أمه ميتة، ومما يؤكد ذلك أن حياة الجنين مستقلة، إذ يتصور بقاؤها بعد موت أمه، فتكون تذكيته مستقلة ([30]).
وقد ألف ابن جني في إعراب هذا الحديث رسالة نقل السيوطي عنه قوله فيها: "قد تنوع القول في هذا الحديث، وأولاها بالصواب وأجراها على مقاييس العربية وصناعة الإعراب: ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن تقديره: ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب حينئذ إعرابه، ومثل ذلك في حذف المضاف كثير، وذلك أن قوله (ذكاة الجنين) مبتدأ محتاج إلى خبر، وخبره إذا كان مفردا – أعني غير الجملة - فلا بد أن يكون هو المبتدأ في المعنى بما ذكرنا، وذلك قولك للنائب عنك: قبضك قبضي، وعقدك عقدي، أي قبضي قبضك، وعقدي عقدك، أي قبضك يقوم مقام قبضي، وعقدك يقوم مقام عقدي لو عقدت، فثبت قبض مخاطبك وعقده حقيقة، وقبضك وعقدك أي مجازا لا حقيقة، بل تكون منفية عنك"([31]).
اختيار الباحث


لكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم -أن القول الأول هو الراجح، وأن قوله: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" جملة خبرية، جعل الخبر فيها مثل المبتدأ في الحكم والمعنى، فهي كقولك: "غذاء الجنين غذاء أمه".
كما أن للحديث سبب ورود أيد رواية الرفع "وأن ذكاة الأم تغني عن ذكاة جنينها، وهي من ضمن روايات الحديث، والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ([32]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين؟ فقال: كلوه إن شئتم". وفى لفظ: "يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه أن شئتم. فإن ذكاته ذكاة أمه".
والشاهد في هذا المثال: أن تنوع الإعراب النحوي لكلمة في الحديث كان له تأثير واضح على تنوع الفهم بين العلماء لمعنى الحديث؛ بحيث تعددت الأقوال في مسألة ذكاة الجنين بتعدد الإعراب النحوي للحديث.

المثال الثاني: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: " كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، قال: فلما وقعت الشمس دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع حطمة الناس خلفه قال: " رويدا أيها الناس، عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع ..."([33]).

الشاهد هو قوله "عليكم السكينة"([34])، ف"السكينة" يكون الأعراب فيها: إما بالنصب على الأغراء، بمعنى: "الزموا السكينة"، واما أن يكون بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر؛ وخبره ما قبله ([35]).
قال السيوطي رحمه الله: "الوجه: أن تنصب السكينة على الإغراء " الزموا السكينة، كقوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (المائدة: 105)، ولا يجوز الرفع" لأنه يصير خبرا، وعند ذلك لا يحسن أن يقول: رويدا أيها الناس؛ لأنه لا فائدة فيه"([36]).
اختيار الباحث


الأعراب بالنصب، لأنه الأقرب للمعنى، والمقصود من الحال، ويؤيد ذلك رواية البخاري "عليكم بالسكينة"([37]) فالباء للاستعانة، وهي تؤدي معنى الجملة الإنشائية من الأمر بالسكينة والحث عليها.
المثال الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزا يوما للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، وبلقائه، ورسله وتؤمن بالبعث". قال: ما الإسلام؟ قال: "الإسلام: أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال: ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، قال: متى الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، واذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان..."([38]).
الشاهد في هذا المثال هو قوله: البهم، فيجوز في إعرابه الرفع والجر ([39])، فالرفع نعت للرعاة، والجر نعت للإبل.
على الإعراب الأول وهو الرفع بحيث يكون نعتا للرعاة يكون وصفهم بالبهم إما:
لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه: أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته.
أو لأنهم سود الألوان، لان الأدمة غالب ألوانهم.
وقيل: معناه: لا شيء لهم، كقوله عليه الصلاة والسلام: "يحشر الناس حفاة عراة بهما"([40])، ولا يرد على هذا إضافة الإبل لهم؛ لأنها إضافة اختصاص لا ملك على هذا، والغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقل أن يباشر الرعي بنفسه. وعلى الإعراب الثاني وهو الجر بحيث يكون نعتا للإبل فوصف الإبل بالبهم، أي: السود، قيل: "لأنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: خير من حمر النعم"([41]).
فتأمل كيف تنوع الإعراب في كلمة واحدة فتغير المعنى تماما، لا سيما أنه يتعلق بعلامة من علامات الساعة.
والمقصود من التأويل: انقلاب الأوضاع وصيرورة رعاة الإبل الفقراء أغنى الناس؛ حتى إنهم يتكبرون على الخلق فيتعالون عليهم في البنيان.
اختيار الباحث


يختار الباحث الرفع في البهم، أنها صفة للرعاة، والسبب في وصف الرعاة بالبهم هو قلة مالهم، وأنهم لا يملكون شيئا.
ويؤيد ذلك رواية النسائي ([42]) بلفظ: "إذا رأيت الرعاء البهم يتطاولون في البنيان" المثال الرابع: عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه -أو قال لجاره -ما يحب لنفسه"([43]).
وجه الشاهد قوله: "حتى يحب"، هل (يحب) بالنصب أو بالرفع، فالنصب على أنها منصوبة بأن المضمرة وجوبا بعد حتى ([44])، والجملة الفعلية كلها في محل جر بحتى، أو أنها مرفوعة على اعتبار حتى عاطفة، ويكون المعطوف عليه (يؤمن) وهو مرفوع، والعطف على المرفوع مرفوع مثله.
وقد رجح الحافظ ابن حجر والعيني أن الفعل يحب منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى، لان المعنى المراد يقتضي ذلك، وهو أن ما بعد حتى يقتضي خلاف ما قبلها، فالمؤمن ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وعدم المحبة يقتضي عدم الإيمان.
قال الحافظ ابن حجر: "(يحب) بالنصب، لان (حتى) جارة، "وأن بعدها مضمرة"، و "ولا يجوز الرفع على أن (حتى) عاطفة، فلا يصح المعنى" إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة"([45]).
وقال العيني: "قوله (حتى) ههنا جارة لا عاطفة، ولا ابتدائية، وما بعدها خلاف ما قبلها، وأن بعدها مضمرة" ولهذا نصب يحب، ولا يجوز رفعه ههنا "لان عدم الإيمان ليس سببا للمحبة"([46]).
اختيار الباحث


الإعراب يقتضي أن تعرب يحب بالنصب لا بالرفع، لان المعنى والسياق يدل على ذلك.
والشاهد فيه: أن اختلاف الإعراب قد يغير المعنى المراد في النص النبوي، كما أن المعنى المراد قد ينبني عليه تحدد الإعراب.
المثال الخامس: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"([47]).
الشاهد في هذا المثال هو قوله: "أهلكهم"، فقد روي هذا الحديث على وجهين ([48])، بفتح الكاف في "أهلكهم"، وضمها.
قال أبو إسحاق -راوي صحيح مسلم -: "لا أدرى أهلكهم بالنصب، أو أهلكهم بالرفع"([49]).
على كلا الضبطين بفتح الكاف في "أهلكهم" أو وضمها يختلف الإعراب والمعنى، وذلك كالاتي:
فعلى ضبط الفتح يكون "أهلكهم" فعلا ماضيا، ومعناه: الغالين الذين يؤيسون الناس من رحمة الله، يقولون: "هلك الناس"، أي: استوجبوا النار بسوء أعمالهم، فإذا قال الرجل ذلك فقد أيسهم، وحملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصي، فهو الذي أوقعهم في الهلاك ([50])، وقيل: معناها: هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة ([51]).
وعلى ضبط الضم يكون "أهلكهم" خبر على صيغة أفعل التفضيل، مرفوع وعلامة رفعه: الضمة الظاهرة على الكاف في أهلكهم.
ومعناه: أكثرهم هلاكا " لأنه يولع بعيوب الناس، ويذهب بنفسه عجبا، ويرى أن له عليهم فضلا ([52])، فيستحق الهلاك بسبب ذلك، والعياذ بالله.


اختيار الباحث


يختار الباحث رواية الرفع، وقد رجحها الحميدي والنووي ([53]) لأنها أشهر، ويؤيدها رواية الإمام أحمد في المسند ([54]) ولفظها: "إذا سمعتم رجلا يقول: قد هلك الناس فهو أهلكهم، يقول الله: إنه هو هالك".
ورواه أبو نعيم في الحلية ([55]) بلفظ: "فهو من أهلكهم" أي: من أشدهم هلاكا.
ووجه الاستدلال بهذه الرواية:

أن المقصود بوصف الهلاك في الرواية الأولى هو القائل نفسه وذلك بتصريح تعيينه في الرواية الثانية والثالثة.
فمن خلال هذا المثال يتبين أهمية الإعراب في تحديد المعنى المناسب للحديث، والذي قد يتبين بالقرائن الأخرى، كالروايات الأخرى، أو الأشهر في الرواية أو المعنى.
المثال السادس: حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست إليه، فقال لي: يا أبا ذر، هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصل... إلى أن قال: قلت: يا رسول الله، فما الصلاة؟ قال: خير موضوع، فمن شاء أكثر ومن شاء أقل ..."([56]).
الشاهد هو قوله: "خير موضوع"، فيمكن أن يروى بضبطين:
(خير موضوع) بالضم دون صرف لـــ"خير" على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف، وهو مضاف؛ و"موضوع" مضاف إليه.
(خير موضوع) بصرف خير بالضم، واعتباره منعوتا، ونعته ما جاء بعده "موضوع".
قال الخطابي: "يروى على وجهين: أحدهما أن يكون "موضوع" نعتا لما قبله، يريد أنها خير حاضر، فاستكثر منه. والوجه الأخر: أن يكون الخير مضافا إلى الموضوع، يريد أنها أفضل ما وضع من الطاعات، وشرع من العبادات"([57]).
كلا هذين الإعرابين محتمل، فالنعت وارد، وفيه ترغيب أكيد في الاستكثار من الخير الحاضر على حد قوله سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة: 48).
كما أن الإعراب الثاني وهو الإضافة وارد، لا سيما أن من أغراض الإضافة التعبير عن التفضيل المطلق كقولهم: "زيد أحسن العمال".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.45 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.82 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]