رد: مرحــبا بـالحبيب الـــوافد (احكام خاصة بالصيام)
فوائد الجوع وأثرها في تحقيق التّقوى
اللجنة العمية
في الجوع عشر فوائد هي:
الفائدة الأولى: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنقاذ البصيرة, فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معان الفكر فيثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك, بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك.
ويقال: مثل الجوع مثل الرعد, ومثل القناعة مثل السحاب, والحكمة كالمطر.
الفائدة الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر, فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يتلذذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب.
قال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إليَّ العبادة إذا التصق ظهري ببطني.
الفائدة الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى, فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع, فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها, وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها. وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا يرى عزة مولاه ولا قهره, وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر.
الفائدة الرابعة: أن لا تنسى بلاء الله وعذابه, ولا ينسى أهل البلاء, فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع, والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا يتذكر بلاء الآخرة, فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة, ومن جوعه جوع أهل النار, حتى أنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل, فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها, فإنه هو الذي يهيج الخوف, فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء نسي عذاب الآخرة ولم يتمثَّل في نفسه ولم يغلب على قلبه, فينبغي أن يكون العبد في مقاساة بلاء أو مشاهدة بلاء, وأولى ما يقاسيه من الجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة.
الفائدة الخامسة: وهى من أكبر الفوائد: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء, فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى, ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة, فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة, وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه, والشقاوة في أن تملكه نفسه, وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت, فكذلك النفس. إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا.
وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد.
ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى, وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام, فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها, فيمنعه الجوع من كل ذلك, وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس, ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها, والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه, وإن منعته التقوى فلا يملك عينه, فالعين تزني, فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره, فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته, وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.
الفائدة السادسة: دفع النوم ودوام السهر, فإن من شبع شرب كثيراً ومن كثر شربه كثر نومه, وفي كثرة النوع ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب, والعمر أنفس الجواهر, وهو رأس مال العبد فيه يتجر, والنوم موت فتكثيره ينقص العمر, ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها. ومهما غلب النوم فإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة. فالنوم منبع الآفات, والشبع مجلبة له, والجوع مقطعة له.
الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل, وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه, ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال, ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه.
قال السري: رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة.
فانظر كيف أشفق على وقته ولم يضيعه في المضغ.
وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها, فينبغي أن يستوفي منه خزانة باقية في الآخرة لا أخر لها بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.
ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد, فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع, فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة, وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها: } يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ{([1]).
وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة, وتعذر حفظ الحكمة, وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظنّ أن الخلق كلهم شباع, وثقل العبادة, وزيادة الشهوات, وأن أول سائر المؤمنين يدورون حول المساجد, والشباع يدورون حول المزابل.
الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض, فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضله الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر, وينغص العيش, ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب, وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات, وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.
حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي, ورومي, وعراقي, وسوادي, وقال: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه, فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود, وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض, وقال الرومي: هو عندي الماء الحار, وقال السوادي وكان أعلمهم: الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء, وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء, والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء, قالوا: فما عندك؟ فقال: الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه, وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه, فقالوا: صدقت.
الفائدة التاسعة: خفة المؤنة, فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير, والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له أخذ بمخنقه في كل يوم, فيقول ماذا تأكل اليوم؟ فيحتاج إلى أن يدخل المداخل, فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل, وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل والقماءة, والمؤمن خفيف المؤنة.
وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي.
وقال آخر: إذا أردت أن استقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي.
وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقولون إنها غالية, فيقول: أرخصوها بالترك.
وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال: إن كان من أهل العبادة فيكسل وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات, وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.
الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين, فيكون يوم القيامة في ظل صدقته.
فما يأكله كان خزانته الكنيف, وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى, فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع!
وكلُّ هذه الفوائد ممّا يؤثر على التّقوى ويُنمّيها!
مراتب التّقوى ذكر بعض أهل العلم أن للتقوى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى:
التوقي عن كل ما يخلد صاحبه في النار وعليه قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ} [(26) سورة الفتح] بمعنى أن الإنسان يقي نفسه من العذاب المخلد في النار وذلك بالتبرؤ من الكفر بجميع أنواعه، وأن يتبرأ من الشرك بكل أشكاله الظاهر منه والباطن، فـ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء].
المرتبة الثانية:
تجنب كل ما يؤدي إلى الإثم من فعل أو ترك، وهي مرتبة المجاهدة وحمل النفس على فعل المأمورات وترك المنهيات، وهي أيضاً مرتبة النفس اللوامة التي تلوم نفسها لِمَ لا تستزيد من الخير، وتلوم نفسها لِمَ فعلت الذنب.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: النفس اللوامة: هي والله نفس المؤمن، ما يُرى إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ وما أردت بأكلي؟ وما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
هذه المرتبة هي مرتبة النفس المتيقِّظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها وتجاهدها، وتتلفت حولها، وتتبين هداها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله التي أقسم الله بها في كتابه، وقرنها بيوم القيامة في قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [(1،2) سورة القيامة]. هذه المرتبة يراقب التقي فيها طاعته لربه أن يكون مخلصاً فيها، ويراقب فيها معصيته وذلك بالتوبة والندم والإقلاع قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [(201) سورة الأعراف].
وهكذا تستقيم أحوال العبد وتشرق الهداية في قلبه باستمرار مجاهدته لنفسه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا} [(69) سورة العنكبوت] فيبتعد شيئاً فشيئاً عن المعصية ويقترب رويداً رويداً من طاعة ربه ورضوانه حتى يتمكن من نفسه ويسلس قيادها لله، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [(16) سورة التغابن] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [(17) سورة محمد].
المرتبة الثالثة:
أن يتنزه المرء عن كل ما يشغل سره عن الحق -تبارك وتعالى- ويتبتل إليه بكليته. وهذه مرتبة التقي الذي تجرد بكليته إلى الله، وامتلأ قلبه بحب الله، واطمأنت نفسه بالأنس به، فلم تعد تحدثه بمعصية، ثم يرتقي بعد ذلك في منازل الطاعات والمجاهدات، فهو حيث أمر الله موجود، وحيث نهى الله مفقود، وضع قدمه في طريق التقوى الفسيح، وتقدم فيه ما وسعه التقدم تحقيقاً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [(102) سورة آل عمران]، فهو يجاهد في الله حق جهاده، ويخشى الله حق خشيته، ويطيع الله حق طاعته، ويتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق اتباعه، ويدعو إلى سبيله حق دعوته، ولا يزال يرتقي في هذا السبيل القويم حتى يصل إلى مرتبة الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، فيلاحظ أمر الله ورقابته في كل قول وعمل وتصرف، وابتعد عنه الشيطان وتخلص من وساوسه؛ لأنه دائم الذكر لله، دائم التفكير بعظمته وجلاله وقدرته، فإنك لا ترى العبد في هذه المرتبة إلا ذاكراً قانتاً متفكراً مجاهداً عاملاً، همّه رضا الله، وهمّه الآخرة، فهو من الذين عقلوا عن الله، وعلموا عن الله جلاله وعظمته ورحمته وإنعامه، فاستغرقوا في الحمد والشكر والثناء على هذه الآلاء قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [(9) سورة الزمر] وهذه هي النفس المطمئنة، المطمئنة إلى ربها المطمئنة إلى طريقها، المطمئنة إلى قدر الله فيها، المطمئنة في السراء والضراء وحين البأس، وفي البسط والقبض، وفي المنع والعطاء، المطمئنة فلا ترتاب، والمطمئنة فلا تنحرف، والمطمئنة فلا تغفل، والمطمئنة فلا تضعف ولا تخضع، والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق، والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول والرعب، يغمرها جو الأمن والرضا والطمأنينة في مشهد من الود والقربى والسكينة، وتهب عليها ريح الجنة الرضية الندية، وتتجلى عليها طلعة الرحمن -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [(27 - 30) سورة الفجر]. قال الله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [(63) سورة مريم].
ثمرات التقوى للشيخ ناصر بن محمد الأحمد:
قال الله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [(132) سورة طه] فما هي عواقب التقوى وما هي ثمراتها؟
إن عواقب التقوى وثمراتها كثيرة وكثيرة جداً فمن ذلك:
الانتفاع بالقرآن الكريم والهداية به:
قال الله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [(1 - 2) سورة البقرة] هل تريد أن تنتفع بالقرآن؟، هل تريد أن تهتدي بهدي القرآن؟، لا سبيل لك إلى ذلك إلا بالتقوى، فالتقوى في القلب هي التي تؤهل المرء للانتفاع بكتاب الله، التقوى هي التي تفتح مغاليق القلب لهذا القرآن فيدخل ليؤدي دوره هناك.
المكانة العالية عند الله والارتفاع فوق الكفرة والساخرين:
قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [(212) سورة البقرة].
ومنها: تعليم الله -تبارك وتعالى- للمتقين: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [(282) سورة البقرة].
الجنات والأنهار والخلود والأزواج المطهرة ورضوان الله:
وهل تتمنى يا عبد الله شيئاً أكثر من هذا، الجنات والأنهار والخلود والأزواج المطهرة ورضوان الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [(15) سورة آل عمران].
محبة الله -عز وجل-:
قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [(76) سورة آل عمران] وقال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [(7) سورة التوبة].
وهل هناك شيء يتمناه العبد بعد محبة الله تعالى له؟.
معيَّة الله لعبده:
{وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [(194) سورة البقرة] قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [(128) سورة النحل]. أية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان والله مع عبده، معية نصر وتأييد وحماية ورعاية، فلستم وحدكم أيها المتقون، ولستم وحدكم أيها المؤمنون، إنكم في معية العلي الجبار القادر القاهر فنعم المولى ونعم النصير.
انتفاء الخوف والحزن وحصول الفوز والبشارة:
قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [(62 - 64) سورة يونس].
فتح البركات من السماء والأرض:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [(96) سورة الأعراف].
الحفظ من وساوس الشيطان:
كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [(201) سورة الأعراف].
النجاة من النار:
قال الله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [(71 - 72) سورة مريم]. ولو لم يأتك يا عبد الله إلا هذا لكفاك!
الانضمام لوفد الرحمن:
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [(85) سورة مريم] في مشهد من مشاهد القيامة، يَقدُم المتقون على الرحمن وفداً في كرامة وحسن استقبال تتلقاهم الملائكة، بعكس المجرمين الذين يساقون إلى جهنم كما تساق القطعان، ولا شفاعة يومئذٍ إلا لمن اتقى وعمل صالحاً.
إصلاح العمل وغفران الذنوب:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [(70 - 71) سورة الأحزاب].
قال الله تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [(49) سورة ص].
الغرف التي فوقها غرف:
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [(20) سورة الزمر].
أنك تؤتى يا عبد الله كفلان من الرحمة والنور والمغفرة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [(28) سورة الحديد].
النَّجاة من كيد الأعداء:
كما قال سبحانه: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [(120) سورة آل عمران] وكم الأمة محتاجة إلى هذا، في وقت تكالب عليها أعدائها من كل جانب.
قبول العمل:
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [(27) سورة المائدة].
تأثير المعاصي والآثام على الصيام
كان الصحابة وسلف الأمة يحرصون على أن يكون صيامهم طُهرة للأنفس والجوارح، وتَنزُّهًا عن المعاصي والآثام..
قال عمر بن الخطاب: ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء..
وروى طليق بن قيس عن أبي ذر قال: إذا صمت فتحفظ ما استطعت. وكان طليق إذا كان يوم صيامه، دخل فلم يخرج إلا إلى صلاة..
وكان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا: نُطهر صيامنا.
وعن حفصة بنت سيرين من التابعين قالت: الصيام جنة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة!.
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: الكذب يفطِّر الصائم!.
وعن ميمون بن مهران: إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب (ذُكر هذه الآثار كلها ابن حزم في المُحلى -6 / 475، 476).
ومن أجل ذلك ذهب بعض السلف إلى أن المعاصي تفطِّر الصائم فمن ارتكب بلسانه حرامًا كالغيبة والنميمة والكذب، أو استمع بأذنه إلى حرام كالفحش والزور، أو نظر بعينه إلى حرام كالعورات ومحاسن المرأة الأجنبية بشهوة، أو ارتكب بيده حرامًا كإيذاء إنسان أو حيوان بغير حق، أو أخذ شيئًا لا يحل له، أو ارتكب برجله حرامًا، بأن مشى إلى معصية، أو غير ذلك من أنواع المحرمات، كان مفطرًا.
فاللسان يُفطِّر، والأذن تُفطِّر، والعين تُفطِّر، واليد تُفطِّر، والرجل تُفطِّر، كما أن البطن تُفطِّر، والفرج يُفطِّر.
وإلى هذا ذهب بعض السلف: أن المعاصي كلها تُفطِّر، ومن ارتكب معصية في صومه فعليه القضاء، وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة والتابعين.
وهو مذهب الإمام الأوزاعي.
وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية.
وأما جمهور العلماء: فرأوا أن المعاصي لا تُبطل الصوم، وإن كانت تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها.
وذلك أن المعاصي لا يسلم منها أحد، إلا من عصم ربك، وخصوصًا معاصي اللسان ؛ ولهذا قال الإمام أحمد: لو كانت الغيبة تفطّر ما كان لنا صوم!.
هذا والإمام أحمد من هو وهو في ورعه وزهده وتقواه، فماذا يقول غيره؟!.
ويؤكد هؤلاء العلماء: أن المعاصي لا تبطل الصوم، كالأكل والشرب، ولكنها قد تذهب بأجره، وتضيع ثوابه.
والحق أن هذه خسارة ليست هينة لمن يعقلون، ولا يستهين بها إلا أحمق. فإنه يجوع ويعطش ويحرم نفسه من شهواتها، ثم يخرج في النهاية ورصيده (صفر) من الحسنات!.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شرح حديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
(مقتضى هذا الحديث: أن من فعل ما ذُكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه).
وقال العلامة البيضاوي:.
(ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع، والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر اللّه إليه، نظر القبول، فيقول: " ليس للّه حاجة " مجاز عن عدم قبوله فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم).
يقول السائل:
هل للمعاصي والآثام التي يرتكبها الإنسان في نهار رمضان تأثير على الصيام كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها؟
الجواب:
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَن ُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى.
وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله.
إن الصائم مأمور بتقوى الله عز وجل وهي امتثال ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه وهذه طائفة عطرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى هذه المعاني:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه العلامة الألباني.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له بصيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه العلامة الألباني.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة.
فالأصل في المسلم الالتزام بشرع الله كاملاً وأن يأتي بالعبادات كما أرادها الله سبحانه وتعالى، بأن تكون هذه العبادات محققة لثمارها الإيجابية في سلوك المسلم وحياته، وأما إن كانت الصلاة مجرد حركات خالية من روحها والصوم مجرد جوع وعطش، والزكاة للرياء والسمعة والحج للشهرة واللقب فقد خاب المسلم وخسر وحبط عمله وكان من المفلسين يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم وابن حبان والترمذي والبيهقي وأحمد. وبناء على كل ما تقدم نرى أن المعاصي والآثام لها تأثير واضح في الصيام فهي تفسد المعنى الحقيقي للصيام ولكنها لا تعد من المفطرات.
علامات التقوى قد رأينا في المحور السابق ثمرات التقوى، والآن ننظر في علاماتها، وقد يكون تحقق الثمرات أو عدم تحققها علامةً على وجود التقوى أو عدم وجودها، ومن ثمّ فهناك علاقة بين المحورين!
لكن هذا المحور يتميّز بأنّه يستهدف قياس مدى تحقّق التقوى وثمراتها في نفوسنا، فنقول:
الله سبحانه وتعالى يجعل حكمة الصيام التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهل للتقوى علامات نستطيع من خلالها أن نراجع أنفسنا: هل ظهرت فينا ثمرةُ الصيام أم لا؟ أم أنَّنا نصوم ونقوم ولا تظهر نتائجُ صيامنا وقيامنا؟
هناك معيار في القرآن، يتكون من ستّ علاماتٍ، يستطيع الإنسان من خلالها أن يعرفَ ما إذا كانت التقوى قد حلَّت في كينونته، وعندئذٍ يلزمها ويستمسك بها، أو أنّها لم تحلّ، فهو مدعوٌّ عندئذٍ إلى مراجعة نفسه ومحاسبتها بناءً على هذه العلامات القرآنية الستة:
يذكر الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني هذه العلامات على النحو التالي:
1 - أن يشعر يتغير في باطنه مختصرُه ومضمونُه زيادةُ تعظيم لدين الله:
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وجمهور المفسرين على أن المقصود من شعائر الله في هذه الآية دينه.
فقد كنت تعظم القانون الذي وضعه الإنسان، وتعظم دين الله، فرأيت بعد الصيام أن تعظيم دين الله أصبح تعظيمًا يفوق كل تعظيم ..
وكنت تعظم دين الله وتعظم الدنيا، فرأيت بعد الصيام أنك تعظم دين الله تعظيمًا يفوق تعظيمك للدنيا ..
وكنت تعظم الأولاد، وتعظم الأسرة، وتعظم الصديق ... فلما دخلت في مدرسة الصيام نظرت إلى قلبك فوجدت أنه يعظم دين الله تبارك وتعالى تعظيمًا يفوق كل تعظيم ..
وماذا يعني هذا؟ أهي شعارات أم أنها قضية عملية؟
فعلى مستوى المعاملة، وعلى مستوى العبادة، وعلى مستوى كل سلوك ... نجد توجيهًا في دين الله تبارك وتعالى يخص تلك العبادة أو المعاملة، ولا يوجد في حياتنا سلوكية إلاَّ ونجد في كتاب الله تبارك وتعالى توجيهًا يخصها، فإذا أردت أن تعامل الزوجة رأيت في القرآن توجيهًا، وإذا أردت أن تعامل الولد رأيت في القرآن توجيهًا، وإذا أردت أن تتعامل مع الناس بالمال وجدت في القرآن توجيهًا، وإذا أردت أن تتعامل مع الحاكم وجدت في القرآن توجيهًا، وإذا أردت أن تتعامل مع المحكوم وجدت في القرآن توجيهًا، وإذا أردت أن تتعامل على مستوى الاجتماع والاقتصاد، أو على مستوى السياسة، أو على مستوى الأحوال الشخصية، أو على المستوى الشخصي ... ستجد في دين الله تبارك وتعالى توجيهًا ...
فإذا كان انفعال قلبك لهذا التوجيه على جهة التعظيم، فقد ظهرت العلامة الأولى، وإذا كنت تنظر إلى هذا التوجيه الذي يوجهك فيه ربّنا تبارك وتعالى فتراه أمرًا يتساوى مع ما تسمعه من كلام الناس، فالعلامة الأولى من علامات التقوى لم تظهر فيك.
2 - أن يظهر فيك شعور تقديم خيرية الآخرة على خيرية الدنيا:
قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] فدلَّت هذه الآية على أن المتّقي يكون في حالةٍ يشعر فيها بخيرية الآخرة على الدنيا، فيشعر في باطنه أن الذي ينتظره في الآخرة لا يمكن في حالٍ من الأحوال أن يُقارَن بالعاجل الذي تمتد يده إليه في الدنيا، فالدنيا دارُ اختبارٍ وامتحان، فقد تنال فيها بعضًا من الحظ والنصيب وقد لا تنال، لكنها ممرٌّ إلى الآخرة، والدين يضبط حالة مرورنا في هذه الدنيا ويوجهها، لكنه لا يجعل الدنيا مقصودًا في رحلة السفر.
وعندما نقرأ في القرآن قصة سحرة فرعون نموذجًا من النماذج التي ينبغي على من يريد اختبار التقوى في قلبه أن يكررها كثيرًا، لأنها قصة عملية واقعية ليست من نسج الخيال، فإننا نقرأ قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه: 70].
فرعون يملك مُتع الدنيا ويعدهم بكل شيء منها، ويعدهم أن تكون متع الدنيا تلك طوع أيديهم، لكنهم يرون الحق ساطعًا يخرجه موسى عليه الصلاة والسلام بإذن الله.
إنه الحق الذي يقول: لا إله إلاّ الله ..
الحق الذي يقول: لا ربّ إلاّ الله ..
الحق الذي يقول: لا عظيم إلاّ الله ..
إن الكون كله أداة بيد الله، وما فرعون وما يملكه إلاّ أداة من أدوات قدرة الله سبحانه وتعالى، وهذه حقيقة يغيب عنها أسرى العادة والمحسوس.
ففي قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} ظهرت حقيقة التقوى، ونحن نسجد في صلاة التراويح فهل سجودنا يماثل سجود السحرة الذين ألقوا سجدًا؟
{قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى، قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ} [طه: 70 - 71] إنه قاطع طريق، فكل شيء بإذن الواحد، وفرعون يريد أن يجعل إذنه قاطعًا بين العبد وربه.
يا فرعون أنت وما تملكه من متاع، وما تزعمه من إذن، إنما هو بيد الله سبحانه وتعالى، ومندرج في منظومة الاختبار الدنيويّ.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه: 71] وهاهنا يجابهُ السحرةَ بأكذوبة توجّه إليهم وتُفترَى عليهم وهي: ما ظهر لكم مندرج في سحركم.
ويأتي الترهيب، فلا يتوقف الأمر عند منع العطاء، إنما يتجاوزه إلى التهديد الذي يصل إلى حد الإيذاء البدنيّ، لا إلى مستوى قطع المنافع، إنما يتجاوزه إلى مستوى قطع الأوصال.
{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه: 71]
وهكذا يفعل الجزارون .. وهكذا يفعل كثير من الحكام، الذين ما هم في حقائقهم إلا صور، لكن حقائقهم جزارون يذبحون شعوبهم، ويكذبون عليهم، والله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان ساوى بين الحاكم والمحكوم، علا أو لم يعلُ، كبيرًا كان أو صغيرًا ... فما هو إلاّ عبد من عباد الله، لكن الإنسان يطغى حين يرى بيده المحسوس.
{وَلأُصَلِّبَنَّ كُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] إنه التعذيب والتنكيل ..
إنه يهدد بإزاحة هذا القفص البدنيّ وتحطيمه وتهشيمه.
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71] فمن الذي سيبقى؟
سوف أزيحكم وأبقى .. هل تقدرون على تعذيبي؟ فأنا أقدر على تعذيبكم.
وهكذا يقف المقطوع عن النظر البعيد، وهكذا يقف الجاهل الذي حُرم أن يرى غير الدنيا.
وسنرى يا فرعون، وما هي إلاّ أيام وتكون غريقًا في البحر.
من أنت؟
أنت الذي تظن - بسبب كونك مخدوعًا بالحس - أنك مهيمن على الأشياء؟
أما نظرت إلى الجبابرة الذين سبقوك؟
من أنت؟
إن كنت أيها الإنسان أعلمَ من غيرك ففي يدك اختبار هو العلم، فتصرَّفْ فيه على أنك عبدٌ لله.
إن كان في يدك الحكم، أو المال، أو العيال ... فتذكر أنها أماناتٌ وضعها الله في يدك، وما أنت إلاّ عبد من عباد الله مختبر فيما آتاك الله، فاتَّقِ الله فيما آتاك.
إذا آتاك عيالاً أو حكمًا أو منصبًا أو جاهًا ... فأنت مختبر، ولا تتوهم إن كنت غنيًّا أنك فوق الفقير، وإن كنت عالمًا أنك فوق الجاهل .. لا، إنما اختبر الله كلاً منكم بشيء، وسوف تكون النتيجة هناك في الآخرة عندما يقف الجميع ويقول الله سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] فهناك لن يكون من فارق بين غنيٍّ أو فقير أو حاكم أو محكوم، بل سيكون الجميع على قدم المساواة.
لكن ما الذي قاله سحرة فرعون بعدما سمعوا ما سمعوه من تهديد ووعيد؟
وها هنا تظهر حقيقة: {وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32].
إنه الاختيار الذي أنت مطالب به في كل لحظة، وينبغي أن تسأل نفسك في الموقف وفي اللحظة: هل هذا الموقف الذي أقفه أنفعُ لي في الآخرة أم أنه أضرُّ لي في الآخرة وأنفع في الدنيا؟
هذا هو السؤال الذي يعطيك العلامة الثانية من علامات التقوى.
وها هنا ينجح السحرة في الامتحان ويقولون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه: 72] فيقسمون بالله أنهم لن يؤثروا فرعون ومُلكَه على ما ظهر لهم من الحقّ، وهاهنا تظهر حقيقة التقوى، وهاهنا يرى هذا المتقي.
ورحم الله أبا العلاء المعرّي الذي كان يقول في شعره:
جَهِلَ الديانةَ مَنْ إذا عَرَضَتْ لهُ أطماعُهُ لم يُلْفَ بالمتمَاسِكِ
فالمطامع تحرفه وتصرفه، ولا يُرى ثابتًا على منهاجه.
ثم قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] هاهنا تظهر حقيقة التقوى.
إذًا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} حقيقة يراها المتقي.
وكذلك: {وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وَ: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}
ولما جرحت أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق صار يكرر أبياتًا لعبد الله بن رواحة الصحابيّ الجليل ويقول فيها:
إنْ أنتِ إلاَّ أصبعٌ دَمِيتِ وفي سبيلِ اللهِ ما لَقيتِ
فينبغي على المؤمن الذي يريد حقيقة التقوى أن يرتقي إلى هذا المستوى فيقول لجسده: ما أنت أيها الجسد إلاّ مطية أرحل من خلالها إلى الآخرة، فالمقصود عندي هو الآخرة، مقصودي هو الله.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
يقول السحرة: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 70 - 73]
3 - أن تشعر بالطمأنينة والأمان: وقد قال أهل المعرفة رحمة الله عليهم: "العارف مطمئن".
أي أن يزول من باطنك الاضطراب، فتكون مستشعرًا حالة السكينة وحال الأمن، حتى وإن تخرب ظاهرك، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] إنهم يعيشون حالة السرور بربهم، ويعيشون في بواطنهم حالة السكينة والطمأنينة.
نعم، لأنهم تولَّوا ربهم وحده، فتولاهم الله، فكانوا أولياءه، ألم تقرؤوا في كتاب الله قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63].
إذًا: هذا الشعور الباطن بالسكينة إنما أنتجته الثقة بالله، وأنتجته الطمأنينة بالله، وأنتجه الاعتماد على الله، وأنتجه التوكل على الله ..
ومما قرأت في سيرة الولي إبراهيم بن الأدهم رحمة الله عليه أنه مرة كان يصلي، وإذا سبع كبير جلس إلى جانبه، فلما انتهى إبراهيم بن أدهم من الصلاة نظر فوجد السبع يمكث إلى جانبه يزمجر، لكن باطن إبراهيم لا يهتز، ويقول إبراهيم بن أدهم لهذا السبع: "إن كنت أُمرت فينا بأمر فامضِ لما أمرت به، وإلاّ فانصرف أيها الخبيث".
- إن كنت أمرت فينا بأمر، أي أرسلك الله سبحانه وتعالى لتنفذ أمرًا من أجل أن نرحل من هذه الدنيا إلى الآخرة، ولتخلصنا من قضية الاختبار هذه التي نحن فيها في حالة من المشقة والمجاهدة.
- فامضِ لما أمرت به، لما تنتظر؟
- وإلاّ فامضِ أيها الخبيث.
فما كان من ذلك السبع إلاّ أن حنى رأسه ثم أدار ظهره وولى.
إنها الطمأنينة بالله ..
إنها حال استقرار الباطن التي لا يعرفها المضطربون بسبب المادة.
نعم، لقد حدث مثل هذا في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى سفينة مولى رسول الله سبعًا في الصحراء، فجاء إليه ثم قال له: دلني على الطريق فإنني ضللت الطريق، فما كان من ذلك السبع إلاّ أن مشى أمامه فدله على الطريق.
وقطع يومًا سبع من السباع الطريق على الناس، فجاء إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فأزاحه بيده عن طريق الناس.
إذًا: العلامة الأولى: تعظيم دين الله.
العلامة الثانية: تقديم الآخرة على الدنيا، فيشعر في باطنه بهذه الخيرية، خيرية الدار الآخرة على الدنيا.
العلامة الثالثة: الطمأنينة والسكون الباطن الذي يشعر به اعتمادًا على الله واستنادًا إلى عظيم قدرته، وجلال مقام ربوبيته.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|