عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-04-2019, 01:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,455
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(2-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس



الفصل الأول

الأحكام وأثرها في صحة الفتوى

تمهيد:

إن الأحكام الشرعية لا تؤخذ إلا عن الله تعالى وإلا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ الحكم لله وحده، فالحلال ما أحلّ، والحرام ما حرّم، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بغير الأدلة الشرعية التي نصبها الله ورسوله لمعرفة الحلال والحرام، والأمر والنهي، والإيجاب والتحريم. وهذا أصل عظيم من أصول هذا الدين القيِّم، قال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [الجاثـية: 18].
يقول الشوكاني رحمه الله:[1] " اعلم أنه لا خلاف في كون الحاكم الشرع بعد البعثة وبعد بلوغ الدعوة" [2].
والأحكام الشرعية لا تكون مخالفة للعقول الصحيحة، والفطر السليمة، وكل خبر يُظَن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أن يكون غير صحيح، أو يكون الاستدلال به غير صحيح، أو يكون هذا العقل فاسدًا ناقصًا. والشرع لا يأتي بمحالات العقول، ولكن يأتي بمحاراتها! [3].
هذا، والأحكام الشرعية إما أحكام تكليفية، وإما أحكام وضعية. ومتى أطلقت الأحكام انصرفت إلى الأحكام التكليفية؛ لأن تسمية الحكم الوضعي خطاب الشارع فيها تجوّز؛ ولأن الحكم الوضعي كون الشيء سببًا وشرطًا ومانعًا ونحو ذلك.
ومن الأصوليين من يرى أنه مندرج تحت الحكم التكليفي، ولا مشاحة في الاصطلاح. . [4].
هذا، وسأجمل هذا الفصل بعد هذا التمهيد في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الأحكام التكليفية.
المبحث الثاني: الأحكام الوضعية.
المبحث الثالث: ما لابد منه لتصور الأحكام التكليف.
المبحث الأول: الأحكام التكليفية

ومفردها: الحكم التكليفي، وهو: "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير". [5] ومتى أطلق الحكم الشرعي انصرف إلى التكليفي، وإن لمعرفة هذه الأحكام أثرًا من الأهمية بمكان في صحة الفتوى، كما أن الجهل بها تترتب عليه آثار سلبية تنعكس على صحة الفتوى.
وللحكم التكليفي خمسة أقسام[6] هي: الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح.
وهذه الأقسام إنما تُحَدُّ وتنضبط بشرع الله، إذ الحكم لله وحده، ولا يجوز إثبات حكم شرعي - تكليفي أو وضعي - بغير الأدلة الشرعية التي جعلها الله طريقًا لمعرفة أحكامه، وهذا أصلٌ عظيم من أصول الدين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ... فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا تؤخذ إلا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرّمه الله ورسوله..." [7].
والقول على الله بغير علم، وبغير سند شرعي محرمٌ، وهو من كبائر الذنوب، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}[النحل: 116].
ومن أجل هذا؛ عُني الأصوليون ببيان هذه الأحكام التكليفية، ومسائلها، والقواعد التي تنتج عنها، كما سألخصه فيما يلي إن شاء الله:
1- الواجب، وتعريفه: ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، ويلحق الذم تاركه، ويرادفه الفرض عند الجمهور خلافًا للحنفية[8].
والذم الذي يلحق تاركه لا يثبت إلا بالشرع خلافا لما قالته المعتزلة [9]، من أن الذم بترك الواجب إنما بحسب العقل [10].
ويستفاد الوجوب بالأمر الذي لا صارف له، وبالتصريح بلفظ الإيجاب، والفرض، والكتْب، والحتْم، واللزوم، وبترتيب العقاب على الترك، وبإحباط العمل على الترك، ونحو ذلك [11].
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والأمر بالشيء أمر بلوازمه، وتحت هاتين القاعدتين مسائل وفروع ليس هذا مجال بسطها [12].
وينقسم الواجب باعتبارات متعددة إلى تقسيمات متنوعة أهمها:
- باعتبار ذاته ينقسم إلى معيَّن لا يقوم غيره مقامه، كالصلاة، وإلى مخير يقوم غيره مقامه، كواحدة في خصال الكفارة.
- وباعتبار وقته إلى مضيق لا يسع وقته أكثر من فعل مثله، كصوم رمضان، وإلى موسَّع يسع وقته لأكثر من فعله، كالصلوات الخمس.
- وباعتبار فاعله إلى عينيّ، وهو ما وجب على كل شخص بعينه لا يقوم غيره فيه مقامه، وإلى كفائيّ، وهو ما إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، كالصلاة على الجنازة؛ وإلا أثم الجميع.
- وباعتبار زمن أدائه إلى مطلق، ومقيد بزمن معين [13].
2- المندوب، وهو: ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم.
وهو تكليف ومأمور به حقيقةً [14]، لدخوله في حدِّ الأمر من حيث الإيجاب والندب؛ ولأنه مستدعى، ومطلوبٌ، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...} [النحل: 90].
ويسمى المندوب سنّةً، ومستحبًّا، وتطوُّعًا، وطاعةً، ونفلاً، وقربةً، ومُرغبا فيه، وإحسانا، وفضيلة. وبعض المندوبات آكد [15].
والمندوب وما في معناه لا يثبت إلا بالأحاديث المقبولة دون المردودة الضعيفة. هذا هو الصحيح الراجح [16].
ولا يلزم المندوب بالشروع فيه إلا فيما استثني ووقع الإجماع في الحج والعمرة [17].
3- الحرام، وهو: ما طلب الشارع الكف عنه على سبيل الجزم بحيث يتعلق بفاعله الذّم.
ويسمى محظورًا، وممنوعًا، ومزجورًا، ومعصية، وذنبًا، وقبيحًا، وسيئة، وفاحشة، وإثمًا، وحرجًا، وتحريجًا، وعقوبة.
ويستفاد التحريم من: النهي الذي لا صارف له، والتصريح بالتحريم، والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، ونحو ذلك [18].
4- المكروه، وهو:ما طلب الشارع الكف عنه طلبًا غير جازم بأن كان منهيا عنه، واقترن النهي بما يدل على عدم قصد التحريم. وقد يطلق خاصة في كلام السلف على المحرم. وقد يطلق على مكروه كراهة تنزيه، وعلى ترك الأولى، وهو ترك ما فعله راجح، أو فعل ما تركه راجح، ويطلق أيضًا على فعل ما فيه شبهة وتردّد.
وهو تكليف ومنهي عنه حقيقة؛ لدخوله في حدِّ النهي من حيث التحريم والكراهية [19].
5- المباح، وهو: فعلٌ مأذون فيه من الشارع خلا من مدح أو ذَمّ [20].
قال الشاطبي [21] في "الموافقات": »المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب. . . « [22].
وعليه؛ فإدخاله في الأحكام التكليفية من باب المسامحة والتغليب. ومذهب الجمهور أن المباح من حيث هو مباح - أي دون انضمام مقاصد أخرى إليه - غير مأمور به، ولا منهي عنه [23].
والمباح إباحته تكون شرعية، وهي المستفادة من خطاب الشرع بنحو لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن، والعفو، والتخيير، ونحو ذلك. وتكون عقلية، وهي المصطلح عليها بالبراءة الأصلية والاستصحاب.
ومن أسماء المباح الذي إباحته شرعية الحلال، والمطلق، والطلق، والجائز. وربما أطلق المباح على غير الحرام، والمكروه، أي في أنه غير مطلوب الترك من حيث هو مباح [24].
هذه شذرة مقتضبة في بيان الأحكام التكليفية:
ولعل مما يؤكد أهمية معرفة الأحكام التكليفية للمفتي، ما يراه المتأمل من خلط بين هذه الأحكام، وتنزيلها على أفعال المكلفين، ففي أحكام الواجب يقع الخلط بين الواجب العيني والواجب الكفائي، ومثله بين الموسّع والمضيّق، والمعيّن والمخير، وأحيانًا بين الواجب والمندوب، فيشدد في المندوب كما لو أنه واجب، ومثله ما نستطيع أن نطلق عليه: شيوع ثقافة التحريم، ويقابلها: الغلو في التسهيل وتتبع الرخص، وكذا الخلط بين الحرام والمكروه، وكذا عدم التفريق بين كراهة التحريم وكراهة التنزيه، والتشديد في بعض المباحات، ومعاملتها معاملة المكروه أو المحرم.
كل ذلك وغيره يدل على أهمية معرفة هذا الباب للمفتي، حتى يصيب مراد الشارع، ولا تلتبس عليه الأحكام بعدم وقوعها الموقع الصحيح على المكلفين، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59].
المبحث الثاني: الأحكام الوضعية

قد عُرّف الحكم الوضعي بتعريفات لعلّ أحسنها وأبعدها عن الإيرادات تعريف ابن النجار الفتوحي[25]، حيث عرفه بقوله: «خبر استفيد من نصب الشارع علَمًا معرِّفا لحكمه«[26].
والمعنى: أن الشرع وضع - أي شرع - أمورًا سميت أسبابًا وشروطًا، وموانع، ونحوها، يعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، فالشرع بوضع هذه الأمور، أخبرنا بوجود أحكامه وانتفائها.
وإنما اختير هذا التعريف؛ لتعذر معرفة خطاب الشارع في كل حال، وفي كل واقعة بعد انقطاع الوحي، وحذرًا من تعطيل أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية اهـ[27].
وهناك فروق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي، أهمها:
- أنه يشترط في الحكم التكليفي علم المكلف وقدرته على الفعل المكلف به وكونه من كسبه. ولا يشترط ذلك ولا شيء من شروط التكليف إلا فيما استثني في الحكم الوضعي. فالصبي وإن لم يكن مكلفًا؛ فإنه يضمن غرم المتلفات؛ لأن الضمان حكم وضع لسبب هو الإتلاف.
- أن الحكم التكليفي أمر وطلب، والحكم الوضعي إخبارٌ [28].
ولمعرفة الأحكام الوضعية أهمية كبرى لدى المفتي، حتى لا يخلط بين السبب والشرط والمانع والصحة والفساد، وحتى لا يجعل الرخصة في محل العزيمة، والعزيمة في محل الرخصة، بل يجعل لكل حكمه وقدره؛ ليصيب مراد الشارع في وضع هذه الأحكام للمكلفين.

وفيما يلي نبذٌ يسيرة عن أهم أقسام الحكم الوضعي، وهي:
السبب، والشرط، والمانع، والصحة والفساد، والعزيمة والرخصة:
فالسبب : ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته.
والشرط : ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
والمانع: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته.
فلابد في وجود الحكم الشرعي من توفر هذه الثلاثة؛ وإلا انتفى الحكم الشرعي بانتفاء أحدها. وذلك كوجوب الزكاة. فسببه ملك النصاب، وشرطه حولان الحول، والمانع منه وجود الدَّين على صاحب المال الذي لا يبلغ المال النصاب لو أُدِّي وسُدِّد.
فإذا وجد النصاب، والحول، وانتفى الدين؛ وجب أداء الزكاة [29].
والصحة في العبادات عند المتكلمين [30] هي: موافقة أمر الشارع، ولو لم تسقط الإعادة. وعند الفقهاء[31] هي: سقوط الإعادة، بحيث لا يحتاج إلى فعلها مرة ثانية. فصلاة من ظن الطهارة صحيحة على قول المتكلمين، فاسدة على قول الفقهاء؛ لأنهم نظروا لما في نفس الأمر، وهذا الخلاف من قبيل الخلاف اللفظي - كما يرى كثير من الأصوليين -؛ لأن القضاء - بمعنى الإعادة - واجبٌ عند الطائفتين [32].
قال القرافي رحمه الله: »اتفقوا على أنه لا يجب القضاء ـ أي الإعادة ـ إذا لم يطلع على الحدث، وأنه يجب عليه إذا اطلع« [33].
والإجزاء في العبادات بمعنى الصحة؛ إلا أن الإجزاء وصف للعبادات فقط، بينما الصحة وصف لها وللمعاملات معًا. فالإجزاء أخص مطلقًا من الصحة [34].
والصحة في المعاملات يراد بها : ترتّب الأثر المطلوب من العقود، وذلك بالتمكن من التصرف فيما هو له، كالبيع إذا صح العقد ترتب أثره من ملك، وجواز التصرف فيه من هبة، ووقف، وأكل، ولبس، وانتفاع وغير ذلك [35].
وأما الفساد - ويراد منه البطلان عند الجمهور - فيقابلان الصحة في العبادات وفي المعاملات [36].
أما العزيمة والرخصة:
فالعزيمة هي:»ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً«[37]. فمعنى كونها "كلية" أنها لا تختص ببعض المكلفين من حيث هم مكلفون، ولا ببعض الأحوال دون بعض. ويدخل تحت هذا ما شرع بسبب مصلحيٍّ في الأصل.
ومعنى "شرعيتها ابتداء" أن يكون قصد الشارع بها إنشاء الأحكام التكليفية على العباد من أوّل الأمر، والناسخ كالحكم الابتدائي.
ولا يخرج عن هذا ما كان من الكليات واردًا على سبب؛ فإن الأسباب قد تكون مفقودة قبل ذلك، فإذا وجدت؛ اقتضت أحكامًا.
قال: »وأما الرخصة؛ فما شرع لعذر شاق، استثناءً من أصل كلي يقتضي المنع، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه« [38].
وفي شرح الكوكب المنير: أن الرخصة ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح[39].
وقد تكون الرخصة واجبةً كأكل الميتة للمضطر، أو مندوبةً كقصر المسافر الصلاة، أو مباحة كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة، خلافًا للحنفية الذين يمنعون الجمع في غير عرفة ومزدلفة. ولا تكون محرمة ولا مكروهة [40].
وبعد هذه المقتطفات في بيان الأحكام الوضعية، أسوق لك - أخي القارئ الكريم - المنهج الصحيح في الفتوى، مع مراعاة هذه الأحكام في أفعال المكلفين:
فالمنهج الصحيح في الفتوى أن يتوسط المفتي فيها دون تشدد أو تساهل.
يقول الشاطبي رحمه الله: «المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو: الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.
وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: «يا معاذ أفتان أنت»[41] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن منكم منفرين»[42] وقال صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا"[43] وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا"[44] وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل"[45] ورد عليهم الوصال وكثير من هذا وأيضا فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا؛ لأن المستفتى إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة.
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه.
ومن معالم المنهج الصحيح في الفتوى في هذا الباب: أخذ المفتي نفسه بالعزيمة:
فيجوز للمفتي أن يأخذ نفسه بالعزائم، يقول الشاطبي:«قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فرق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفى ما لعله يقتدي به فيه، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة، فربما اتبع لظهور عمله، فكان ينهى عنه في مواضع: كنهيه عن الوصال، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم، وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين، وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل، وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ولهذا ـ والله أعلم ـ أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه»[46].
كما ينبغي أن يعلم أن التساهل في طلب الرخص قادح في الفتوى.
فينبغي على المفتي أن لا يتساهل في طلب الرخص، وكان العلماء لا يأخذون الفتوى عن من دأبه التساهل في طلب الرخص.
وقد حدد السمعاني[47] حالتين للتساهل في الرخص، فقال:
«إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر، فهذا مقصر في حق الاجتهاد، فلا يحل له أن يفتي، ولا يجوز أن يُستفتَى، وإن جاز أن يكون ما أجاب به حقا؛ لأنه غير مستوف لشروط الاجتهاد لجواز أن يكون الصواب من استيفاء النظر في غير ما اختلف فيه.
والحالة الثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأويل الشبه ومعنى النظر ليتوصل إليها وتعليق بأضعفها، وهذا متجوز في دينه متعد في حق الله تعالى، أو غار لمستفتيه عادل عما أمر الله سبحانه به في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وهو في هذه الحالة أعظم مأثما منه في الأولى؛ لأنه في الحالة الأولى مقصر وفي الثانية متعد، وإن كان في الحالتين آثمًا متجوزًا لكن الثاني أعظم، وكما لايجوز أن يطلب الرخص والشبه كذلك، لا يجوز أن يطلب التغليظ والتشديد، وليعدل في الجواب إلى ما يوجبه صحة النظر من الحكم الذي تقتضيه الأدلة الصحيحة، فإن دلت على التغليظ أصاب، وإن دلت على الترخيص أصاب، وإن كان للتغليظ وجه في الاجتهاد أمسك عن ذكره»[48].
كما يستحب إعلام المستفتي بمذهب غيره إن كان أهلا للرخصة .
ذكر القاضي أبو الحسين[49] في فروعه في كتاب "الطهارة" عن أحمد : «أنهم جاءوه بفتوى ، فلم تكن على مذهبه. فقال : عليكم بحلقة المدنيين»[50]، ففي هذا دليل على أن المفتي إذا جاءه المستفتي ، ولم يكن عنده رخصة له : أن يدله على مذهب من له فيه رخصة [51].
يقول ابن القيم: «من فقه المفتى ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه اليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه.
فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الاطباء يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم»[52].
وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدس الله روحه يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرا فيها، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دله على الطريق المباح فقال: «لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا»[53] فمنعه من الطريق المحرم وأرشده إلى الطريق المباح»[54].
كانت تلك إضاءات عن الأحكام الوضعية وأثرها في صحة الفتوى، وبها ينتهي المبحث الثاني في هذا الفصل.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]