
12-04-2019, 01:43 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,100
الدولة :
|
|
رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى
علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(5-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
الفصل الرابع
الاجتهاد والتقليد، والتعارض والترجيح وأثرها في صحة الفتوى
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الاجتهاد، وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
المطلب الأول:تعريف الاجتهاد والفرق بين الاجتهاد والفتوى والقضاء.
المطلب الثاني: المجتهد، وشروطه.
المطلب الثالث: مجالات الاجتهاد المجتهَد فيه.
المطلب الرابع: تجزؤ الاجتهاد.
المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي وأثره في صحة الفتوى في هذا العصر.
المبحث الثاني: التقليد، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريفه ومجاله.
المطلب الثاني: مراتب المقلِّدين.
المطلب الثالث: المقلَّد بفتح اللام.
المبحث الثالث: التعارض والترجيح.
المبحث الأول
الاجتهاد
وفيه تمهيد وخمسة مطالب:
تمهيد:
إن الاجتهاد في درك أحكام العمليات الشرعية الظنية مظهرٌ يقتضيه وجوب الاتباع {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا. . . } [الجاثـية: 18]، ويقتضيه عموم الشريعة، وشمولها، وكمالها، ودلالة نصوصها على جمهور الحوادث ومستجداتها. فلا يلزم إذاً؛ أن يكون الحديث عن الاجتهاد مجرد ردة فعل للتقليد... فالصحابة وتابعوهم فيهم مجتهدون. والأئمة الأربعة مجتهدون، وكذلك بعض أصحابهم، وبعض أتباع مذاهبهم.
والقول بسد باب الاجتهاد في القرن الرابع الهجري [1]؛ وإن كان موجعًا، وتكتنفه ظروف وملابسات؛ إلا أن التأريخ قد حفظ - عبر عصوره - أعلاما مجتهدين مجددين تجلَّت فيهم مظاهر الاجتهاد وتمثلت... [2].
ويحسن هنا التأكيد على أن الاجتهاد هو ساحة المفتي وميدانه الفسيح وأرضه الخصبة وحديقته الفيحاء وروضته الغناء، فمنها يصدر، وعليها يرد لدرك الأحكام الشرعية الصحيحة - ولكي يؤدي الاجتهاد أثرًا فعَّالاً يوظف في صحة الفتوى - لابد من ملاحظة عدم الإفراط في بعض المواضيع ذات الصلة بالاجتهاد، مع الاستفادة منها كمواضيع حيّة عصرية مهمة بلا شك. كالإفراط في رفع رايات وألوية "للمصلحة"، دون مراعاة لضوابطها [3].
وكالإسراف في "فقه الواقع" [4]. وقل مثل ذلك في "الاجتهاد المقاصدي"، ونحوها من المصطلحات التي ينادي بها بعض المعاصرين، ويستفاد من بواعثها المحمودة بلا شك، مع الحذر كل الحذر ممّا في طيّاتها من الشطط، والمبالغة، والإسراف إلى حدّ ربما خرج عن أحكام الشريعة ورسومها أحيانًا[5] مما يؤكد أهمية معرفة هذا الباب للمفتي حتى يقع اجتهاده موقعه الصحيح.
ومن المعلوم أن الاجتهاد متى أطلق انصرف إلى "الاجتهاد المطلق" المستقل أو المنتسب؛ لأنه بذلك تتحقق فيه ضوابطه، وشروطه التي اعتبرها الأصوليون[6]، ولأنه بذلك يؤثر في صحة الفتوى... إذ كيف يتأدى هذا ببعض مراتب الاجتهاد المستندة في التأصيل، والتصحيح، والتخريج على نصوص الأئمة، وأقوالهم، وقواعدهم بدلاً من النصوص الشرعية، بل كيف يتأدى هذا ببعض المراتب المنسوبة إلى الاجتهاد، وهي في التحقيق من ضروب التقليد المحض...!!! [7]
المطلب الأول: تعريف الاجتهاد، والفرق بين الاجتهاد والفتوى والقضاء.
جاء في لسان العرب لابن منظور [8]: ـ "الاجتهاد والتجاهد": بذل الوسع والمجهود، وهو افتعال من الجهد، وهو الطاقة. اهـ[9].
وفي الاصطلاح: عرفه علماء الأصول بتعريفات متقاربة [10] ولعل أجمعها هو أن: الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم [11].
والمراد بالاستفراغ: بذل تمام الطاقة بحيث تحس النفس بالعجز عن المزيد، والفقيه المجتهد[12] احتراز عن المقلد، وأفاد قوله: لتحصيل ظن أنه لا اجتهاد في القطعيات، ولم يحتج لتقييد الحكم بالشرعي، كما فعل غيره؛ لأنه قد دلّ عليه الفقيه، وإلا لم يكن لذكر الفقيه في الحدّ معنى[13].
وذهب بعض الأصوليين إلى أن الاجتهاد هو: القياس [14].
وصرح الإمام الشافعي في "الرسالة" بأن القياس والاجتهاد "اسمان لمعنى واحد" [15]. مراده بذلك – والله أعلم –: " أن كلاً منهما يُتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه" [16].
والتحقيق: أن القياس نوع من الاجتهاد[17]، فكل قياس اجتهاد وليس العكس، والله أعلم.
الفرق بين الاجتهاد، والفتوى، والقضاء:
ذهب كثير من الأصوليين إلى الجمع بين حقيقة الفتوى [18]، والاجتهاد، وعدهما من المترادفات لمعنى واحدٍ دون تفريق بينهما [19].
ومن فرّق بينهما؛ اشترط أن تكون الفتوى ثمرة الاجتهاد [20].
وأما القضاء فهو الإفتاء على وجه الإلزام وفصل الخصومات، وبينهما فروق، منها:
- أن القضاء يكون في مصالح الدنيا، كالعقود، والأملاك، والرهون، والإفتاء في مصالح الدنيا والآخرة، كالعقود، والعبادات.
- أن الإفتاء أوسع من القضاء من حيث جواز إفتاء القريب، والمرأة، والحاضر، والغائب، بخلاف القضاء فلا يقضى لمن تربطه به قرابة قوية، ولا على غائب، فالإفتاء أعم موقعا، وأخص لزوما بعكس القضاء.
- أن قضاء القاضي يقضي على الخلاف في المسائل المختلف فيها، ولا ينقض باجتهاد مثله، بخلاف الإفتاء فلا يقضي على الخلاف في مسائل الخلاف، ولمفت آخر أن ينظر فيما أفتاه فيه غيره، ويفتي بخلافه [21].
المطلب الثاني: المجتهد، وشروطه:
وهو في اصطلاح الأصوليين: الفقيه المستفرغ وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي [22]، ويشترط فيه أن يكون ذا ملكة يقتدر بها على استنتاج واستخراج الأحكام من مآخذِها، وذا إشراف على نصوص الكتاب والسنة، ويكفيه معرفة آيات وأحاديث الأحكام، وأن يكون عارفًا بمواقع الإجماع، والاختلاف ومسائلهما، عالمًا بلسان العرب، وبالناسخ والمنسوخ، ذا دراية بعلم الجرح والتعديل، وبأحوال الرواة، عالمًا بعلم أصول الفقه على نحو يؤهله للاجتهاد لا على نحو يعوقه عن ذلك [23]، عالمًا بمقاصد الشريعة، عالمًا بواقعه، ويختلف الواقع باختلاف الأزمنة، والظروف، والأحوال، والمناسبات.
فهذه هي جماع الشروط المعتبرة للمجتهد [24]، وهي راجعة إلى طبيعة الاجتهاد نفسه، وكونه تخصصًا دقيقًا ينطبق على المجتهد.
إذ المجتهد الحق هو من يكتنفه مع هذه الشروط الورعُ، والتقوى، ومراقبةُ الله، وملازمةُ الأولى، ومن لا يخاف في الحق لومة لائم؛ لأنه قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث الوراثة [25]، ومن حيث البلاغ، والتعليم، والإنذار، والإفتاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [26].
أنواع المجتهدين: هناك أنواع من المجتهدين ذكرها الأصوليون، فمنهم: المجتهد المطلق، والمجتهد في المذهب، والمجتهد في باب من الأبواب، والمجتهد في مسألة من المسائل، ونحو ذلك، والمجتهد المطلق، إما مستقل، وإما منتسب [27]، فالمستقل: كالأئمة الأربعة، ونحوهم، كالليث بن سعد [28]، والأوزاعي.
فكل واحدٍ من هؤلاء استقل بنفسه بإدراك وترتيب أصوله، ومناهج استنباطه باجتهاد منه المستقل، دون تقليد، أو انتساب لأحد.
والمجتهد المنتسب: هو الذي وصل إلى ما وصل إليه المجتهد المستقل من غير أن يكون قد أسس لنفسه قواعد ومناهج للاستنباط ورتبها؛ بل سلك في ذلك طريق مجتهد مطلق مستقل، إلا أنه ليس مقلدا لإمامه في الدليل والحكم، غير أنه يستعين بكلامه في تتبع الأدلة، والتنبيه للمآخذ كثيرًا[29].
ومن كان دون المجتهد المنتسب؛ ففي بعضهم نوع اجتهاد، كمجتهدي التخريج، ومثلهم مجتهدو المذهب، وأصحاب الوجوه والطرق، ومن كان دونهم؛ فمعدود من مراتب المقلِّدين [30]. والله أعلم.
المطلب الثالث: مجالات الاجتهاد المجتهَد فيه:
المراد بالمجتهد فيه: كل حكم شرعي عملي أو علميّ يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي[31].
ويخرج بقيد "الشرعي العملي" الأحكام اللغوية، والعقلية، والحسية، وكذلك العلمية الاعتقادية، فإنه - أي الحكم العلمي الاعتقادي - لا يسمى اجتهادًا عند الفقهاء، وإن كان يسمى اجتهادًا عند الأصوليين.
ويخرج بذلك ما لا مجال للاجتهاد فيه: وهو ما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع التي ثبتت بالأدلة القطعية في ثبوتها ودلالتها[32].
وعليه؛ فالأحكام الشرعية العملية بالنسبة للاجتهاد نوعان: نوع يجوز الاجتهاد فيه أي: هو مجال للاجتهاد، ونوع لا يجوز الاجتهاد فيه.
فيجوز الاجتهاد في الظنيات لا في القطعيات [33]، وهذا يشمل:
أولاً: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي من الأدلة الظنية في ثبوتها وفي دلالتها.
فمجال الاجتهاد هنا في البحث في السند، وفي طريق وصوله إلينا، ودرجة رواته من العدالة، والضبط، والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة - كما هو معلوم في علوم الحديث - لمعرفة صحة الحديث سندا ومتنا هذا من حيث ظنية الثبوت، وأما من حيث ظنية الدلالة؛ فمجال الاجتهاد فيه في فهم المعنى المراد من النص، وقوة دلالته على المراد.
والدلالة تكون لفظية، ومعنوية، ويدخل في هذا دلائل النص وأماراته [34].
ثانيًا: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي من دليل قطعي الثبوت لكنه ظني الدلالة.
ثالثا: بذل الوسع فيما هو قطعي الدلالة لكنه ظني الثبوت.
رابعًا: بذل الوسع لتحصيل حكم شرعي عملي فيما لا نص فيه أصلاً [35]، كأحد أنواع "الاستدلال" من قياس، أو مصلحة مرسلة ونحوها [36].
خامسًا: ويدخل في ذلك نظر المجتهد في الأدلة المتعارضة والجمع أو الترجيح بينهما بالمسالك المعروفة لدى الأصوليين [37].
المطلب الرابع: تجزؤ الاجتهاد:
والمراد به: أن يكون العالم قد تحصل له في بعض الأبواب الفقهية، أو في بعض مسائلها ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها [38]، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها؟ على قولين: أصحها: القول بالجواز، وهو مذهب الأكثرين [39].
وقال ابن دقيق العيد: وهو المختار [40].
وبه قال الأكثرون من مذاهب الأئمة الأربعة، وأيد ذلك الغزالي [41]، والآمدي [42]،
وابن الحاجب [43]، وابن السبكي [44]، وابن النجار الفتوحي [45]، وابن الهمام الحنفي [46]، والقرافي[47]، والزركشي في "البحر المحيط" [48]، وآخرون.
ولتجزئة الاجتهاد صورتان:
إحداهما: أن تكون في باب أو أكثر من الأبواب الفقهية.
والأخرى: في مسألة أو مسائل باب أو أكثر من الأبواب الفقهية.
قال الزركشي رحمه الله: "قيل: وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف إذا عرف بابًا دون باب. أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعًا. والظاهر جريان الخلاف في الصورتين"[49].
والقول بالجواز هو الأولى بالاعتبار مطلقا من حيث الجملة [50]، مع ملاحظة قول العلامة ابن القيم رحمه الله: "وكلما كانت الصلة بين بعض أبواب الفقه وبعضها منقطعة كالفرائض، والبيوع، والزكاة كان حصول قدرة الاجتهاد في بعضها دون بعضها الآخر جائزًا... " [51].
ويؤكد القول بالجواز في عصرنا هذا أمورٌ:
الأول: أنه تقتضيه ظروف العصر، وقضاياه، ومستجداته.
الثاني: أن فيه من رفع الحرج والتيسير ما لا يخفى.
الثالث: أنه ضرورة للنهوض "بالاجتهاد الجماعي" وفق ضوابط ومعايير تضعها المجمعات العلمية، أو المؤتمرات الفقهية ونحوها.
الرابع: أنه إذا كانت التخصصات الدقيقة في شتى العلوم الإسلامية والعربية بمثابة تجزئةٍ للاجتهاد بين هؤلاء المتخصصين، فما المانع من القول بالجواز الآن؟!!
المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي وأثره في صحة الفتوى في هذا العصر:
إن تاريخ الاجتهاد الجماعي أو الفتوى الجماعية يرجع إلى عصر الصحابة، فكانوا رضوان الله عليهم يتذاكرون في القضايا المشكلة [52].
جرى هذا في عهد أبي بكر الصديق، ثم في عهد عمر بن الخطاب [53].
ونظرًا لما تقتضيه ظروف هذا العصر الذي تتوالى فيه الوقائع والنوازل المستجدات في كل ماله صلة بحياة الناس، جاءت نداءات كثيرة من العلماء المعاصرين بضرورة الاجتهاد الجماعي في النوازل، وبضرر الاجتهاد الفردي فيها، وإنشاء مجامع فقهية عالمية؛ لتحقيق ذلك [54].
ويرى كثير من العلماء المعاصرين أن الاجتهاد الجماعي هو من قبيل التشاور بين الفقهاء حول حكم مسألة معينة، فيكون اتفاقهم حول نتيجة هذا الحكم اتفاقًا أغلبيًا، وليس هو "الإجماع الأصولي"؛ لما علم من تعذر الإجماع بالمعنى المصطلح عليه لدى الأصوليين؛ ولأن بين الاجتهاد الجماعي، وبين الإجماع فروقًا. بينما يرى قليل منهم أنه من قبيل "الإجماع الأصولي" [55].
ولا يخفاك – أيها القارئ الكريم – أن الرأي الأول هو الصحيح الجدير بالاعتبار، وأن بين الاجتهاد الجماعي، وبين "الإجماع الأصولي" مفاوز تنقطع دونها أعناق المطيّ، فتأمل.
ومن مظاهر أثر صحة الفتوى من خلال تنظيم الاجتهاد الجماعي عبر مجامع فقهية عالمية متحررة، ما يأتي:
الأول: التأكيد على دلالة النصوص على جمهور الحوادث وتفويت الفرصة على الأخذ بالقوانين الوضعية. الأمر الذي يُكمِّمُ أفواه من يتهمون الشريعة بالقصور، والجمود، والعجز عن توصيف الحلول للمشكلات المعاصرة، بدعوى أنها نصوص محدودة ولم تعالج إلا قضايا ظرفية تجاوزها الزمن [56].
الثاني: إعمال أهم القواعد - لمراعاة مصالح العباد - التي يتأسس عليها فقه المقاصد، وهي: اعتبار المآلات [57].
الثالث: أن ذلك يُلجئ إلى التجديد المحمود المشروع للفقه الإسلامي وأصوله، والقول بتأدية هذا التجديد بتقنين الشريعة ـ وإن قال به بعض العلماء المعاصرين ـ لا يتجه، بل في "التقنين" سلبيات، ومفاسد كبيرة [58].
الرابع: ويلجئ أيضًا إلى التناظر بين العلماء من أجل طلب إصابة الحق في المسائل المختلف فيها كما نقل الزركشي عن المزني [59] قوله: إذا اختلف الأئمة وادعت كل فرقة بأن قولها هو الموافق للكتاب والسنة؛ وجب الاقتداء بالصحابة وطلبهم الحق بالشورى الموروثة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحضر الإمام أهل زمانه من العلماء فيناظرهم فيما مضى وحدث من الخلاف، ويسأل كل فرقة عما اختارت، ويمنعهم من الغلبة والمفاخرة، ويأمرهم بالإنصاف والمناصحة، ويحضهم على القصد به إلى الله، فإن الله يقول { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فبذلك يتبين لهم النظر للكتاب والسنة. اهـ. بتصرف [60].
وبعد عرض أهم مسائل الاجتهاد التي يذكرها الأصوليون يحسن أن أبين ضرورة أهلية المفتي للاجتهاد، ومعرفته بقضاياه، وبعض المسائل المتعلقة بذلك، حيث يشترط في المفتي أن يكون مؤهلاً للاجتهاد، يقول الإمام الآمدي: "فلابد وأن يكون المفتي من أهل الاجتهاد، وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفًا بالأدلة العقلية، كأدلة حدوث العالم، وأن له صانعا، وأنه واحد متصف بما يجب له من صفات الكمال والجلال، منزه عن صفات النقص والخلل، وأنه أرسل محمدًا النبي صلى الله عليه وسلم وأيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته، وتبليغه للأحكام الشرعية، وأن يكون مع ذلك عارفا بالأدلة السمعية وأنواعها، واختلاف مراتبها في جهات دلالاتها، والناسخ والمنسوخ منها، والمتعارضات، وجهات الترجيح فيها، وكيفية استثمار الأحكام منها على ما سبق تعريفه، وأن يكون عدلا ثقة، حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية، ويستحب له أن يكون قاصدا للإرشاد وهداية العامة إلى معرفة الأحكام الشرعية، لا بجهة الرياء والسمعة، متصفا بالسكينة والوقار؛ ليرغب المستمع في قبول ما يقول، كافًا نفسه عما في أيدي الناس، حذرًا من التنفير عنه"[61].
وقد فرق الخطيب البغدادي في أهلية المفتي للاجتهاد بين قسمين من المجتهدين: مستقل وغير مستقل، فذكر أن القسم الأول: المفتي المستقل، وشرطه أن يكون قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما التحق بها على التفصيل في الأدلة، ووجوه دلالاتها، ويكفيه اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو واللغة، واختلاف العلماء وإنفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة، والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالمًا بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها، فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، وأن يكون مجتهدًا مستقلاً.
والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد [62].
والقسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل.
فمنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أحوال أربع:
الأولى: أن لا يكون مقلدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله؛ لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنما ينسب إليه؛ لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله.
ففتوى المستفتين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها، ويعتد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون في مذهب إمامه مجتهدا مقيدا، فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ومن شأنه أن يكون عالما بالفقه، خبيرا بأصول الفقه، عارفا بأدلة الأحكام، تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده، ولا يعرى عن شوب من التقليد له لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل، مثل أن يخل بعلم الحديث، أو بعلم اللغة العربية، وكثيرا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيد، ويتخذ أصول نصوص إمامه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع، وربما مريه الحكم، وقد ذكره إمامه بدليله، فيكتفي بذلك، ولا يبحث: هل لذلك الدليل من معارض؟ ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل، وهذه صفة أصحاب الوجوه والطرق في المذهب، وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم ومن كان هذا شأنه، فالعامل بفتياه مقلد لإمامة لاله معوله على صحة إضافة ما يقوله إلى إمامه، لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع. وذكر ~ بقية الحالات [63].
ثم أورد رحمه الله ثلاثة تنبيهات مهمة في هذا الباب فقال:
"الأول: الذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته ففرض الكفاية لا يتأدى به، ووجهه أن ما فيه من التقليد نقص وخلل في المقصود، والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض فيها والتفريع على الصحيح في أن تقليد الميت جائز.
الثاني: قد يؤخذ من المجتهد المقيد الاستقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة، أو في باب خاص، كما تقدم في النوع الذي قبله.
الثالث: يجوز له أن يفتي فيما لا يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليه لإمامه بما يخرجها على مذهبه، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة.
فالمجتهد في مذهب الشافعي مثلا المحيط بقواعد مذهبه، المتدرب في مقاييسه وسبل متفرقاته، وتنزل كما قدمنا ذكره في الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه، منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه، وهذا أقدر على هذا من ذاك على ذاك، فإن هذا يجد في مذهب إمامه من القواعد الممهدة والضوابط المهذبة ما لا يجده المستقل في أصول الشرع ونصوصه، ثم إن المستفتي فيما يفتيه به من تخريجه هذا مقلد لإمامه، لا له"[64].
وقد صنف ابن القيم من تجوز لهم الفتوى إلى أربعة أقسام:
أحدهم: العالم بكتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانًا. فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا هو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام.
النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلدًا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا.
النوع الثالث: من مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها إذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البته.
النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يومًا في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثًا صحيحا مخالفًا لقول من انتسبوا إليه، أخذوا بقوله، وتركوا الحديث وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قد أفتوا بفتيا ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم، وتركوا فتاوى الصحابة، قائلين: "الإمام أعلم بذلك منا ونحن قد قلدناه فلا نتعداه ولا نتخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منا، ومن عدا هؤلاء فمتكلف متخلف قد دنا بنفسه عن رتبة المشتغلين، وقصر عن درجة المحصلين، فهو مكذلك مع المكذلكين"، وإن ساعده القدر واستقل بالجواب، قال: "يجوز بشرطه، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي" ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة التي يستحسنها كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل[65].
وهناك مسائل مهمة في هذا المجال، منها: فتوى المفتي غير المجتهد بمذهب غيره من المجتهدين.
فقد اختلفوا في من ليس بمجتهد، هل تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين؟
فذهب جماعة من الأصوليين إلى المنع من ذلك؛ لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند غيره؛ ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهو محال، مخالف للإجماع.
ومنهم من جوزه إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
والمختار: أنه إذا كان مجتهدًا في المذهب بحيث يكون مطلعًا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده، وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه وأقواله، متمكن من الفرق والجمع، والنظر والمناظرة في ذلك، كان له الفتوى[66].
ومنها مسألة: تعدد المفتين في البلد الواحد.
فإذا حدثت للعامي حادثة، وأراد الاستفتاء عن حكمها، فإما أن يكون في البلد مفت واحد، أو أكثر: فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله، وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون، فمنهم من قال: لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم، وهو مذهب الإمام أحمد وعدد من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين [67]، مصيرا منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين، إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها، فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه، أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع، ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكان المصير إليه أولى.
وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء، وسواء تساووا أو تفاضلوا، وهو المختار [68].
ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه السلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ»[69] وقال عليه السلام: «أقضاهم علي ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد.. »[70] وكان فيهم العوام، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير.
ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه، ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى[71].
ومن المسائل المهمة في هذا الباب: مسألة التمكن من الفتوى.
وقد أوضح الغزالي رحمه الله أن التمكن من الفتوى يتطلب الإلمام بمصادر الأحكام، وكيفية استنباط الأحكام منها، فقال: "إنما يكون متمكنًا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار"[72].
ويرى ابن القيم رحمه الله أنه لا يتمكن المفتي من الفتوى بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله [73].
ومنها: إخبار المفتي مستفتيه بتغير اجتهاده.
فإذا لم يعمل المقلد بفتوى من قلده حتى تغير اجتهاد مفتيه لزم المفتي إعلام المقلد له، ولو مات المفتي قبل إعلام العامي بتغير اجتهاده استمر على ما أفتى به في الأصح[74].
ولكن إذا كان المستفتي قد عمل بما أفتاه المفتي ثم تغير اجتهاده، فإنه لا يلزمه تعريف المستفتي بتغير اجتهاده[75].
وختام مسك هذه المسائل ونهاية عقد نظمها مسألة: تكرار مراجعة المفتي لاحتمال تغير اجتهاده.
وقد اختلف العلماء في وجوب تكرار مراجعة المفتي لاحتمال تغير الاجتهاد، فأوجبه قوم لاحتمال تغير الاجتهاد، ومنعه آخرون؛ لأن احتماله كاحتمال النسخ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يكررون المراجعة.
والذي يظهر – والله أعلم – التفصيل، فإن كانت المسافة بينهما شاسعة، والواقعة تكرر في كل يوم كالصلاة والكفارة فلا يراجع قطعا، لعلمه بأن المقلدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يفعلون ذلك، وإن كانت الواقعة لا يكثر تكررها فالظاهر أيضا أنه لا يراجع، لأنا نستدل بعدم مراجعتهم في تلك الصور مثله في هذه الصورة، ثم يخرج على هذا الاختلاف وجوب الإخبار على المفتي إذا تغير اجتهاده [76].
المبحث الثاني
التقليد
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريفه ومجاله:
أما تعريفه فهو: أخذ قول الغير من غير معرفة دليله [77].
فالرجوع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إلى الإجماع، ورجوع القاضي إلى العدول ليس تقليدًا[78].
واختار تاج الدين ابن السبكي أن رجوع العامي إلى قول المفتي يسمى تقليدًا. قال وعليه جرى المصنف - يعني ابن الحاجب في المختصر - فيما بعد، حيث يقول: "غير المجتهد يلزمه التقليد، وإن كان عالمًا" [79].
ومن قيّد تعريف التقليد بقوله: "بغير حجة" لم يجعل رجوع العامي إلى المجتهد تقليدًا؛ لأن ذلك بحجة، هي اتباع المجتهد المفتي، وقد أمره الله في كتابه باتباعه[80].
وقريب من هذا، قول الإمام الشاطبي رحمه الله:
"فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام، كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين" [81]، ولا يُخرَّجُ كلامه هذا على أن أقوالهم حجة على العوام في ذاتها كأقوال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بل لأنه لابد أن تستند إلى مأخذ شرعي عام، أو خاص وإن لم يذكروه؛ لعدالتهم، وسعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم، وعنايتهم بضبط الشريعة، وحفظ نصوصها [82].
وجمهور الأصوليين على حرمة التقليد في "أصول الدين"، وعلى وجوب النظر، والاستدلال الموجب للعلم والمعرفة أولا، أي في نحو معرفة الله تعالى، وفي التوحيد، والرسالة [83].
قال ابن النجار الفتوحي رحمه الله:" قال ابن مفلح رحمه الله [84]: وأجازه بعض الشافعية؛ لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلهما: هل نظرت؟" [85].
ولعل هذا هو الأظهر، فإيمان المقلِّد صحيح معتبر[86] قال ابن أبي العز الحنفي[87]: "ولهذا كان الصحيح أنَّ أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك... بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان..."[88].
ونوقش قول الجمهور: بأن فيه تكليفًا بما ليس في الوسع، وبغير المستطاع وبأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يكلف الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولا قاربوها بالنظر، والاستدلال، ولا بالحجج العقلية [89].
قال أبو المظفر السمعاني: "وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون فبعيدٌ جدًا عن الصواب ومتى يوجد في العوام من يعرف ذلك.. بل إن أكثر العوام لو عرضت عليهم تلك الدلائل النظرية العقلية الاستدلالية لم يفهموها أصلا، وإنما غايتهم تلقى أمور الإيمان، وأصول الدين من العلماء بالكتاب والسنة،... فهنيئًا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي تورطوا فيها، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة، وصاروا في الآخرة متحيرين عمين... " اهـ. بتصرف [90].
وأما التقليد في الفروع فجائز. قال ابن قدامة رحمه الله: "وأما التقليد في الفروع فهو جائزٌ إجماعًا، فكانت الحجة فيه الإجماع... بل وجب على العامِّي ذلك" [91].
وبذلك يظهر أن دعوى الإمام ابن حزم حكاية الإجماع على عدم جواز التقليد مطلقا، وأنه مذهب جمهور الأصوليين وتبعه الشوكاني في ذلك [92] دعوى غير صحيحة، مُعَارضَة بما في كتب الأصول المعتمدة، والله أعلم.
- يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|