عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 12-04-2019, 12:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,493
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(5-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس


  1. المطلب الثاني: مراتب المقلِّدين.

    ذكر الأصوليون أن للمقلدين خمس مراتب هي:
    1- مرتبة العامي الصرف:
    وفيه يقول الزركشي رحمه الله: "والجمهور على أنه يجوز له - يعني العامي -الاستفتاء، ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها، لا ينفعه ما عنده من العلوم لا تؤدي إلى اجتهاد، وحكى ابن عبد البر فيه الإجماع، ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقوله - سبحانه وتعالى -: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، قال: - أي ابن عبد البر - وأجمعوا على أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق به في القبلة" اهـ [93].
    وممن حكى الإجماع على ذلك الرازي[94]، والموفَّق ابن قدامة – رحمهما الله تعالى [95].
    2- من عنده من العلم ما دون حدّ الاجتهاد كالعالم المتأهل للاجتهاد لا في سائر الأبواب والمسائل، فيقلِّد فيما لم يجتهد فيه، وليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، وهذا مبني على مسألة "تجزئة الاجتهاد" [96].
    3- مجتهد التخريج [97]ومثله مجتهد المذهب، وأصحاب الوجوه والطرق [98]، كما يفهم من إطلاق ابن الصلاح، وابن حمدان[99] ومن سار على منهجهما [100]، فهؤلاء؛ وإن كان فيهم نوع اجتهاد؛ إلا أن تقليدهم من حيث استنادهم إلى نصوص الأئمة وقواعدهم، لا إلى الدليل الشرعي، واتخاذهم تراث الأئمة من قواعد، ونصوص، وأفعال، وتقريرات، مصادر للفقه، ومنبعًا للأحكام، بدلا من نصوص الكتاب والسنة، وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال، أو أفعال، أو تقريرات [101].
    4- مجتهدو الترجيح [102] ومثلهم أو يليهم مجتهدو الفتيا وتقليدهم تقليد محض، وهم:
    المتبحرون في مذاهب أئمتهم، المتمكنون من ترجيح قول على آخر، في داخل المذهب، ولكنهم متسمون بالضعف في تقرير الأدلة وتحرير الأقيسة [103].
    5- طبقة المقلِّدين التقليد الصرف الذي لا يقدرون على شيء، ولا يفرقون بين الغث، والسمين، بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل، فهم جمّاعون وليسوا بفقهاء [104].
    يتبع



  2. إضافة رد رد مع اقتباس
  3. 2019-02-06, 11:46 AM #8
    ابو وليد البحيرى



    تاريخ التسجيلJan 2018المشاركات6,854


    رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى
    علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(5-5)
    د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس





    المطلب الثالث: المقلَّد بفتح اللام.

    والمقلَّد بفتح اللام هو: المجتهد المطلق المفتي الفقيه، العالم بكتاب الله، وبسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم ، الذي اجتمعت فيه شروط التأهل لذلك، ولو في بعض الأبواب، أو في بعض المسائل، كما تقدم في "تجزئة الاجتهاد" [105].
    قال ابن السبكي رحمه الله عن هذا الصنف: "والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء، وأنت ترى علماء المذاهب ممن وصل إلى هذه المرتبة هل منعهم أحدٌ من الفتوى، أو منعوا أنفسهم عنها؟" [106].
    والتحقيق أن هؤلاء وإن كان فيهم نوع اجتهاد؛ إلا أن وجه تقليدهم من حيث استنادهم إلى نصوص الأئمة، وقواعدهم نحو ما يفعله المجتهد المطلق بنصوص الشارع [107].
    وهل يلزم من هو دون حدّ الاجتهاد التزام أحد المذاهب الأربعة المشهورة؟
    قد انتصر لهذه المسألة علماء أجلاء، منهم الحافظ ابن رجب الحنبلي [108].
    ومنهم إمام الحرمين [109]، وابن الصلاح، وابن المنيِّر [110].
    ومنهم من أنكر على من التزم مذهبًا مخالفته بدون مسوّغ، كابن حمدان [111].
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من التزم مذهبًا معينًا ثم خالفه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعلها؛ فإنه يكون متبعًا لهواه، وعاملاً بغير اجتهاد، ولا تقليد، فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر"[112]. فتبين بهذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية ينتصر لهذه المسألة من حيث الجملة، وبالاعتبار الذي ذكره رحمه الله.
    وبعض القائلين بهذه المسألة حكى عليها الإجماع، كإمام الحرمين، وابن الصلاح وآخرين[113].
    والحامل على القول بهذه المسألة: "أن مذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة انتشرت، واشتهرت، وقيد مطلقها، وخصص عامها، وظهرت شروط فروعها، بخلاف غيرها" اهـ. بتصرف [114].
    وسبب آخر -كما يقول الحافظ ابن رجب - وهو: " قلة الدين والورع، وكثرة من ينصب نفسه للكلام في الدين وليس أهلا لذلك... فنصب الله للناس أئمة وقع الإجماع على علمهم، ودرايتهم، وورعهم... وأقام الله من يضبط مذاهبهم، ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله، وقواعده، وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام، ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام... ومذاهب غير هؤلاء الأربعة لم تشتهر ولم تنضبط..." اهـ. باختصار[115].
    ونوقش هذا القول وهو لزوم التزام أحد المذاهب الأربعة: بأن هذا المدوّن المنسوب إلى أئمة المذاهب الأربعة؛ قد اختلطت فيه أقوال الأئمة، وفتاواهم بأقوال المنتسبين إليهم، وكذلك اختياراتهم، وتخريجاتهم.
    وقد يؤصل الأتباع ويفصلون على ما هو عن مذاهب أئمتهم بمعزل [116].
    والذي يتعيَّن قوله هنا وبه تلتئم الأقوال، ويهدي إليه النظر الصحيح إن شاء الله، أن الضرورة تُلجِئ إلى التزام مذهب واحد من المذاهب الأربعة؛ لندرة المجتهدين، أو فقدانهم، وحينئذ فمخالفة هذا الالتزام لا يسوغ؛ لأنه يؤدي إلى اتباع الهوى المحض، وإلى تتبع الرخص، والتقاطها. وقد حكى ابن عبد البر إجماعًا على المنع من ذلك لا يعلم فيه خلافا [117].
    قال ابن النجار الفتوحي: "ويفسق بتتبع الرخص؛ لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحدٌ من علماء المسلمين، فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره" [118].
    وأما إذا تبيّن ما يوجب رجحان قول على قول إمام بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى رجلين أعلم بتلك المسألة، وهو أتقى لله فيما يقوله، فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز، بل يجب، وقد نص الإمام أحمد على ذلك. كذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[119].
    وهذا القول عند التأمل والإنصاف يقتضيه، ويقويه أمران:
    الأول: ما جاء عن الأئمة الأربعة من النهي عن اتباع أقوالهم وآرائهم بلا حجة، وأمرهم بالأخذ من حيث أخذوا، وما ذاك إلا لكون التقليد ليس من لوازم الشرع.
    الثاني: أن عدم التزام العوام ومن في حكمهم - بدون مسوغ راجح - أحد المذاهب الأربعة التي اشتهرت، وضبطت فروعها ومسائلها، وحررت قواعدها، وخُرِّج على أصولها أحكام النوازل والمستجدات؛ يؤدي إلى اتباع الهوى، وتتبع الرخص، سيما مع فساد الزمن، وقلة الورع، وكثرة الأهواء والشبهات.
    تلك أهم المسائل التي يذكرها الأصوليون في هذا الباب.
    وبعد أن عرضتها بإيجاز، يحسن أن أطرز عقدًا منظومًا يتلألأ بذكر بعض المسائل المتعلقة بالتقليد والفتوى، فمنها:
    - أن المقلد لا يستفتي إلا من عرف بعدالته، فلا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقًا، وإن سأل من لا يعرف جهله، فقد قال قوم: يجوز، وليس عليه البحث، وهذا غير صحيح؛ لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله[120].
    وفيما يجب على المقلد أن يرعاه ليستبين، كون المفتي مجتهدًا، والمختار أنه يكفيه أن يتعرف عدالته بقول عدلين، ويسمع عنه قوله: "إني مفتي"؛ لأن اعتبار تلقفه المشكلات من كل فن وامتحانه به تكليف شطط، ويعلم أن أصحاب البوادي من عصر الصحابة كانوا لا يفعلون ذلك، واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا غير سديد؛ لأن التواتر يفيد في المحسوسات، وهذا ليس من فنه، وقال القاضي يكفيه مرة أن يخبره عدلان بأنه مفتي[121].
    - ومنها: استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة:
    وقد اختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة.
    قال الآمدي رحمه الله: "والحق امتناعه على مذهب الجمهور؛ وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسؤول، كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول، ولا يخفى أن احتمال العامية قائم، بل هو أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد، نظرًا إلى أن الأصل عدم ذلك، وإلى أن الغالب إنما هو العوام، وأن اندراج من جهلنا حاله تحت الأغلب أغلب على الظن، ولهذا امتنع قبول قول مدعي الرسالة وقبول قول الراوي والشاهد إذا لم يقم دليل على صدقه"[122].
    - ومنها: أن المقلد يعمل بفتوى المفتي مع احتمال الخطأ:
    فعلى العامي أن يعمل بفتوى المفتي إذا كان المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه وإن كان يجوز أن يكون مخطئًا فيما يفتي؛ لأنه لا دليل للعامي سوى هذا فكان معذورًا فيما صنع[123].
    - ومنها: إفتاء المفتي المقلد مستفتيه بمذهب مجتهد من المجتهدين:
    فللمقلد أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين، بشرط أن يكون ذلك المفتي أهلاً للنظر، مطلعًا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به وإلا فلا يجوز، واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى، نقل الشوكاني عن ابن دقيق العيد قوله: توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم، أو استرسال الخلق في أهويتهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكنًا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله يكتفي به؛ لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده، وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا، هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي، وفي مسألتنا أظهر، فإن مراجعته النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة، ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة، وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم. انتهى[124].
    - ومنها مسألة: المفتي المقلد إذا وجد حديثًا صحيحًا يخالف مذهبه، فكيف يفعل؟
    قال شاه ولي الله الدهلوي: "فإذا وجد المفتي المتبحر في المذهب حديثًا صحيحًا يخالف مذهبه، فهل له أن يأخذ بالحديث ويترك مذهبه؟ فلو كان المقلد غير المجتهد عالمًا مستدلاً يعرف قواعد الأصول ومعاني النصوص والأخبار، هل يجوز أن يعمل عليها؟ وكيف يجوز وقد قيل لا يجوز لغير المجتهد أن يعمل إلا على روايات مذهبه وفتاوى إمامه؟ ولا يشتغل بمعاني النصوص والأخبار ويعمل عليها كالعامي، قيل هذا في العامي الصرف الجاهل، الذي لا يعرف معاني النصوص والأحاديث وتأويلاتها، أما العالم الذي يعرف النصوص والأخبار، وهو من أهل الدراية، وثبت عنده صحتها من المحدثين، أو من كتبهم الموصوفة المشهورة المتداولة، فيجوز له أن يعمل عليها، وإن كان مخالفًا لمذهبهم، يؤيده قول أبي حنيفة ومحمد الشافعي وأصحابه رحمهم الله تعالى، وسئل أبو حنيفة رحمه الله تعالى، إذا قلتَ قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: «اتركوا قولي بكتاب الله» فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، قال: «اتركوا قولي بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم » فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: «اتركوا قولي بقول الصحابة» وقال الشافعي رحمه الله تعالى: «إذا قلت قولا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال خلاف قولي فما يصح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني»[125] وقد صح منصوصا أنه قال: «إذا بلغكم عني مذهب وصح عندكم خبر على مخالفته فاعلموا أن مذهبي موجب الخبر» وروى الخطيب بإسناده أن المفتي من السلف إذا استفتي ربما يفتي بغير مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، فيقال له هذا يخالف قولهما، فيقول: ويلكم حدث فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقولهما إذا خالفاه" [126].
    - ومنها: أن المقلد مأمور باتباع المفتي:
    فقد اتفق العلماء على أنه ينبغي على المستفتي اتباع المفتي، يقول الغزالي رحمه الله: "إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه"[127].
    ويقول عز الدين بن عبد السلام رحمه الله: "المفتي أسير المستفتي، والحاكم أسير الحجج الشرعية والظواهر، وإن لم يحتمله لفظه لم يقبل تأويله في الفتيا إلا أن يقصد وضع اللفظ على المعنى الذي أراده فلا ينفعه على الأصح"[128].
    - ومنها: وجوب إفتاء المستفتي فورًا عند الحاجة:
    فقد ذكر العلماء أنه يتوجب على المفتي أن يجيب المستفتي دون تأخير إذا احتاج الفتوى.
    يقول العز بن عبد السلام: "يجب بيان أحكام الشرع على المفتي على الفور عند تحقق الحاجة إليها"[129].
    ومنها: مطالبة المقلد المفتي بالدليل:
    فقد اختلف العلماء في جواز مطالبة المستفتي المقلد مفتيه بالدليل.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه، ولا يقول له لم ولا كيف؟ فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر، أو فيه بعد قبوله الفتوى مجردة عن الحجة، وذكر السمعاني أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وأنه يلزمه أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به وإلا فلا، لافتقاره حينئذ إلى اجتهاد يقصر العامي عنه"[130].
    ومنها: موقف المستفتي المقلد عند تعارض الفتوى:
    فقد ذكر العلماء أنه إذا تعارضت الفتوى بين تحريم وتحليل، فتقدم أسبقهما إليه، وأما إذا كانتا من مفتيين فإنه مخير بينهما.
    قال الجويني رحمه الله: "فلو تعارض فتوتان في تحريم وتحليل فبم يأخذ المستفتي؟ قلنا يأخذ بأسبقهما إليه، فإن بدرا عن عالمين جميعًا أخذ بأيهما شاء"[131].
    المبحث الثالث

    التعارض والترجيح

    إن معرفة درء تعارض الأدلة الشرعية - كما يبدو للناظر - المتفق عليها والمختلف فيها، والجمع بينهما، أو إظهار وتقوية بعضها بالترجيح موضوعُ نظر المجتهد ومن أهم ضروراته؛ لتوقف الفتوى الصحيحة على معرفة تطبيق تلك الأدلة، وتحقيق مناطها، وكيفية الاستدلال بها عند تعارضها، وتمانعها، ومعرفة كيفية درء هذا التعارض بأحد وجوه الترجيح بين الأدلة المتعارضة، كل ذلك مما يحتاج المفتي لمعرفته ليصدر الحكم الصائب في محله المناسب.
    والمراد بتعارض الأدلة: ما يبدو للناظر المجتهد من تقابل الدليلين على سبيل الممانعة، بحيث يدل أحدهما على خلاف ما يدل عليه الآخر، وأما أصول الشريعة ذاتها فلا تكاد تتعارض في الواقع وفي حقيقة الأمر، وإنما يقع التعارضُ في الظاهر، وفي أنظار المجتهدين، وهو راجع إلى التطبيق وتحقيق المناط.
    والتعارض إما أن يكون كليا، وهو الذي يكون من كل وجه، بحيث لا يمكن الجمع، وهذا هو التناقض، وإما أن يكون جزئيًا وهو الذي يكون من وجه دون وجه، بحيث يمكن الجمع بوجه من الوجوه [132].
    وأهم ما يُراعى ويعتبر للقول بتعارض الدليلين:
    - هو اتفاقهما في الحكم، مع اتحاد الزمان، والمكان، والفعل، وكذا في سائر الوحدات الثمان[133]، وعليه: فلا تعارض بين الناسخ والمنسوخ متى قبل النسخ وعلم المتأخر، ولا بين العام والخاص، ولا بين المطلق والمقيّد، ولا بين المجمل والمبيّن، ونحوها، فالناسخ متى أمكن النسخ وعلم المتأخر هو المعتمد، والخاص يقضي على العام، والمطلق يحمل على المقيّد، وهكذا... [134].
    ومما ينبغي مراعاته عند تعارض الدليلين: التساوي بينهما في إفادة الظن، سواء أكانا نقليين، أم عقليين، أم كان أحدهما نقليًا والآخر عقليًا، أو العكس.
    وإفادة الظنّ يعتبر في الثبوت، أو في الدلالة، أو فيهما معًا، فلا يتعارض قطعيان - إلا في داخل الأذهان - من حيث الثبوت والدلالة؛ لأن هذا يلزم منه اجتماع النقيضين وهو محال.
    ولا تعارض بين قطعي في الثبوت والدلالة، وظني في الثبوت فقط، أو في الدلالة فقط، أوفيهما معًا، إذ الظني حينئذٍ لغو، والعمل إنما يكون بالقطعي [135].
    إذًا فمحل التعارض هو الظنيات:
    فيقع التعارض بين دليلين ظنيين منقولين أو معقولين في الثبوت فقط، أو الدلالة فقط، أوفيهما معًا [136].
    فالمتعيَّن حينئذٍ ما يلي:
    أولاً: محاولة الجمع بينهما ما أمكن بوجه من وجوه الجمع المعتبرة، ومنها:
    - حمل أحد الدليلين على حالة، وحمل الآخر على حالة أخرى.
    فيحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيّد. . .
    - حمل أحد الدليلين على زمن، وحمل الآخر على زمن آخر، بحيث يكون المتأخر ناسخًا للمتقدم إن قبل النسخ، فلا ينسخ إلا الأحكام، أما الأخبار كأخبار ما كان وما يكون، وأخبار الجنة والنار، وما ورد من أسماء الله وصفاته فلا يدخلها النسخ [137].
    وقد نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أبدًا حديثان صحيحان، متضادان، ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، من غير جهة الخصوص والعموم، والإجمال والتفسير، إلا على وجه النسخ، وإن لم يجده. اهـ [138].
    ومثله قول الإمام أبو بكر بن خزيمة [139] رحمه الله: "لا أعرف حديثين صحيحين متضادّين، فمن كان عنده شيء منه، أو شيء من ذلك فليأتني به لأؤلف بينهما" [140].
    فتبين مما سبق أنه من الضروري هنا التثبت في صحة الدليل وثبوته، وتتبع نصوص الكتاب والسنة لدرء التعارض، ولابد من معرفة روايات الحديث وألفاظه، فإن بعضها يفسر بعضها.
    - وبالجملة فالإعمال خير من التعطيل والإهمال، وتحت هذا مسائل كثيرة من الجمع بين الأدلة، كتوزيع متعلَّق الحكم إن أمكن، كما تقسم الدار المدَّعى ملكها عند تعارض البينات، وكتنزيل الأحكام على محامل كل واحد يقتضي حكما. كالنهي عن الشرب والبول قائمًا، ثم فعله صلى الله عليه وسلم[141]. فيحمل النهي على عدم الأولوية، والفعل على رفع الحرج وبيان الجواز. وكالتنزيل على بعض الأحوال عند الإطلاق، كقوله صلى الله عليه وسلم: « أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا«[142] مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر »ثم ينشأ أقوام يشهدون ولا يستشهدون ولا يؤتمنون ويفشوا فيهم السمن[143]«،فيحمل الأول على حق الله تعالى، أو على من شهد على حق يعلمه لولا شهادته لضاع امتثالا لأمر الله في عدم كتمان الشهادة، والثاني على حق الآدميين، كالشهادة بالزور [144].
    فإذا لم يمكن للمفتي الجمع بين الأدلة، فيصير إلى الترجيح، وبه قال الجمهور [145]:
    والمراد بالترجيح عند الأصوليين هو: اقتران الأمارة الظنية بما تقوى به على مُعَارِضها، فيجب تقديمها؛ للقطع عنهم بذلك. هكذا قال ابن الحاجب رحمه الله[146].
    وقال ابن النجار: "والعمل بالراجح فيما له مرجح هو قولُ جماهير العلماء، سواء كان المرجح معلومًا أو مظنونًا، حتى إن المنكرين للقياس عملوا بالترجيح في ظواهر الأخبار.
    وخالف البعض في العمل بالمرجِّح المظنون، واقتصروا الترجيح في المقطوع به. ومنهم من ذهب عند التعارض إلى التخيير أو التوقف.
    وليس هذا بشيء؛ لأن العمل بالأرجح متعيِّن عقلا وشرعًا، وقد عملت الصحابة بالترجيح مجتمعين عليه، والترجيح دأب العقل والشرع، حيث احتاجا إليه" اهـ. [147].
    ومما ينبغي للمفتي معرفته: مسالك الترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض الجزئي، وهي:
    أولا: بين المنقولات - بأحد هذه الاعتبارات:
    1- الترجيح باعتبار الإسناد، فيرجّح بالسند الأكثر رُواةً، كمسألة رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، عند ركوع، ورفع منه، حيث روي هذا زُهاء ثلاثين من الصحابة .
    ويُرَجح السند المسند على المرسل، وكذا كل متفق عليه مع كل مختلف فيه من جنسه.
    2- الترجيح باعتبار المتن، فيرجَّح النهي على الأمر لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم«[148].
    3- الترجيح باعتبار المدلول، فيرجَّح ما مدلوله الحظر على ما مدلوله الإباحة أو الندب أوالكراهة.
    4- الترجيح بأمر خارج، كالترجيح بموافقة دليل آخر، وكالترجيح بعمل الخلفاء الراشدين، وكترجيح ما فسره الراوي بفعل أو قول.
    ثانيًا: بين المعقولات، والمراد: بين الأقيسة، أو بين أنواع الاستدلال.
    ثالثًا: الترجيح بين المنقولات وبين المعقولات، والمراد: حسب ما يقع للناظر المجتهد المستدل.
    هذا، وتفاصيل التراجيح لا تنحصر؛ لأن مثارات الظنون التي يكون بها الرجحان والترجيح كثيرة جدًا، والمرجحات أنفسها يُرجَّح بعضها على بعض، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظّن والرجحان [149]. والله تعالى أعلم.
    ومما يحسن إيراده هنا كيفية العمل عند التعارض في الفتوى، ويكون ذلك في حالتين:
    الحالة الأولى: صدور فتوى متناقضة من مفتيين، وفي هذه الحالة يجب على المستفتي اتباع الأفضل ثم الأفقه؛ لفعل الصحابة رضي الله عنهم، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "إذا ترددت بين مفتيين على التناقض، ولم يمكن الجمع بين قوليهما مثل القصر في حق العاصي بسفره واجب عند أبي حنيفة، والإتمام واجب عن الشافعي، فيجب على المستفتي مراعاة الأفضل واتباعه، وإنما لم نوجب عليه اتباع الأفضل حيث لم يظهر الخلاف لما عهد من الصحابة من مراجعة الكل، ونعلم أنهم كانوا يقدمون قول أبي بكر رضي الله عنه على قول غيره عند التناقض، ثم الأفقه مقدم على الأورع، وإن تساويا من كل وجه قال قائلون: يتخير، وقال آخرون: يأخذ بالأشد، وقال آخرون: يأخذ بالأثقل عليه ويراجع نفسه فيه"[150].
    الحالة الثانية: وجود قولين متعارضين في واقعة لمفت واحد، وفي هذه يكون مخيرًا في الإفتاء بأي منهما، يقول الشيخ أحمد بن حمدان رحمه الله: "إذا اعتدل عند المفتي قولان، وقلنا: يجوز ذلك، فقد قال القاضي أبو يعلى له أن يفتي بأيهما شاء، كما يجوز أن يعمل المفتي بأي القولين شاء، وقيل أنه يخير المستفتي؛ لأنه إنما يفتيه بما يراه، والذي يراه التخيير على قول من قال بالتخيير، وإن قلنا يمتنع تعارض الأمارات وتعادلها تعين الأحوط من القولين، وإن أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه، وإن كان فيه خلاف خيره بين القبول منه أو من غيره قبل العمل"[151].
    أما تعارض الفتوى مع مذهب المستفتي، فصورتها: من عاصر مفتيًا أفتى بشيء، وصادف فتواه مخالفة لمذهب الإمام الذي يقلده، فهل يتبع المفتي، لأنه لا يخالفه إلا بعد اعتقاد تأويله، أو الإمام المتقدم، لظهور كلامه؟ وهذه المسألة ذكرها إمام الحرمين وقال: "فيه تردد"، ثم قال:"والاختيار اتباع مفتي الزمان، من حيث إنه بتأخره سبر مذاهب من كان قبله، ونظره في التفاصيل أشد من نظر المقلد على الجملة"[152].
    وبهذا تنتهي هذه المسألة بحمد الله، وبانتهائها ينتهي ما أردت ذكره من مسائل في هذا الفصل المتعلق بالاجتهاد والتقليد والتعارض والترجيح.
    وبانتهائه ينتهي ما أردت عرضه في هذا البحث عن علاقة أصول الفقه بالفتوى.
    سائلاً الله التوفيق والسداد، والإخلاص والإصابة، إنه جواد كريم، والله تعالى أعلم.
    يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]