بسم الله الرحمن الرحيم
-------------------- المقدّمة --------------------
الحمد و كفى و الصلاة و السلام على عباده الّذين اصطفى أمّا بعد :
قبل البدأ في كتابة قصّتي اُلفت انتباه القارئ الكريم إلى أنّني أعلم أنّ محتواها يمكن أن يشوّه شخصيتي أمام النّاس و يفتح في نفوسهم أبواب الشكّ في سلامة عقلي و نفسي و ديني, و يعلم الله كم أنا خجول من كتابتها فهي ليست منطقيّة و لا عقلانيّة, و أحداثها ظاهرها خيال و أوهام أو كذب و افتراء, أعلم كلّ هذا يا قارئ كلماتي و لست شخص تملكه وساوسه و خيالات نفسه و يؤمن بما يدور في ذهنه من أوهام و يضعها في قلبه موضع اليقين, قبل الإحتكام إلى الدّلائل و البراهين, و أنا مطلع على خباي النّفس و أسرارها, و لا يلبسني جهل بعلم النفس و مكامنه كي ينحرف فهمي نحوى الوهم و الخيال, و ما دفعني إلى كتابة قصّتي سوى شدائد مقزّزة لا تخطر على بال إنسان, سبّبت لي ألم فضيع لا مثيل له في قواميس الألم و الأوجاع كلّها, هذا وصف ظاهره مبالغة و تضخيما, و باطنه يخبّئ من المفاجآت ما يدهش العقول, و يزلزل القلوب, و يعكّر صفو النّفوس.
و هذا الآلم الفضيع المقزّز قد استمرّ معي ما يزيد عن سنتين كاملتين حتّى بلغ مبلغا لا يكون بعده إلاّ الموت أو الّشّفاء, و قد عشت هذا الألم وحيدا منعزلا لا يعلم بما اُعانيه من قسوته و فضاعته إلاّ الله سبحانه, حتى شَعُرَت نفسي بعظيم الخطب و دنوّ الخطر, فقرّرت الخروج من عزلتي و البوح بما اُعاني و لم أجد في من هم حولي و أقربائي من يمكن أن يفهم بلائي, فكلّ من حولي يغلب عليه الجهل و لا يفقه من الدّين شيئأ سوى ما تلقّاه تقليدا لا تعليما و تأصيلا.
إنّ حالة ابتلائي لها علاقة بعوالم غيبيّة غريبة لا يمكن الحكم على حقيقة إنتمائها, إلاّ أنّ تفاصيل محنتي تنفي نفيا قاطعا إنتماء تلك العوالم إلى الجنّ و الشياطين, اُنبّهك يا أيّها القارئ الكريم أنّ هذه الكلمات توحي بالجهل و سوء الفهم و تخبّط في المقاصد و معاني الكلمات, و لكنّني اُدرك فهم كلّ كلمة أكتبها و مطلع على معاني الإصطلاحات الشّرعيّة التّي أختارها في تعبيري و كتاباتي, فلا تستعجل الفهم قبل اكتمال الغيايات و المقاصد, و لا تقدم الحُكم قبل إتمام الشّرح و انتهاء التّفاصيل.
كما اُنبّه أيظا أنّ في قصّتي مصطلحات تصادم العقول المتعلّمة, و لكنّ نهايتها تفسّر كلّ الغموض و تكشف الحُجُبَ عن كلّ الغرائب, و تثبت حقيقة تلك العوالم الغيبيّة المجهولة بشهود في محطّات مختلفة, و أدلّة لا يمكن نفيها إلاّ بتكذيب ما سمعته الأذن و رأته عيون الشّهود, فاحفظ كلاماتي هذه قبل البدأ في قرائة قصّة بلائي كي لا تصادمك غرائبها فتشوّش عليك فهم مقصدي و تحكم على جهلي قبل بلوغ المنتهى و إدراك غايتي منها, و لست أقصد من قصّة ابتلائاتي سوى ما يأتي في أخرها, و لا قيمة عندي لما يأتي قبل ذلك إلاّ أنّي أرى فيه مفاتيح فهم حالة ابتلائاتي المرعبة المقزّزة.
و أوّل خيط يربط بين ابتلائاتي و العوالم الغيبيّة المجهولة هو مستوى اللّغة الّتي أكتب بها, فأنا لم أدرس قط في حياتي في مدرسة عربيّة أو معهد للعلوم الشرعيّة إلاّ المدرسة الإبتدائيّة في بلدي الأصل قبل رحيلي مع أهلي إلى بلد إقامتي, و كانت لي قصّة في تلك المدرسة و هي أنّني اُصبت في أوّل سنة بثقل في لساني صعّب عنّي النطق و الكلام, و اُصبت بخمول في ذهني قطع عنّي الحفظ و أعجزني عن إكمال التّعليم, و ظلّت تحاصرني تلك العوالم الغيبيّة بخمول ذهني حتّى توقفت عن التعليم و أنا مازلت في سنّ الطّفولة, فحوصرت عن التعلّم و التّعليم إلى يومنا هذا إلاّ ممّا يأتيني عن طريق تلك العوالم الغيبيّة المجهولة بالكشف و الإلهام و كأنّني مُحرّم عليّ تلقّي العلوم عن طريق المعلّمين من بني البشر,
هذا أوّل خيط يربط بين ابتلائاتي و علاقتها بالعوالم الغيبيّة, و لم أكن أعلم بحقيقتها و لا اُدرك سرّ فهمي و تعلّمي, و كنت أعتقد أنّ سرّ تفوّقي و علمي يكمن في ذكائي و عبقريّتي رغم فشلي في دراستي منذ طفولتي, حتّى بلغت الأربعين عاما ثمّ انكشف لي هذا العالم الغريب انكشافا لا يمكن أن يستوعبه عقل بشر, فظهرت لي عجائب يستحيل وصفها و لو بحثت في قواميس العربيّة كلّها عن كلمات يمكن أن أصف بها ما تراه عيني و تسمعه اُذني لعجزت تلك القواميس و فشلت, أقول كلّ هذا و أنا أعي ما أقول و مدرك منتهى الإدراك لمعاني كلماتي فلا تصادمك أوّل قصّتي ففي نهايتها براهين تنسف كلّ الشّكوك و تزيل كامل الغموض.
قبل البداية اُأكّد لك أيّها القارئ الكريم أنّك لم تسمع بمثلها, و هي أغرب من الخيال, لا يفهمها و يدرك ما ورائها إلاّ من قرأها بتركيز و انتباه لكلّ أحداثها و مراحلها دون إهمال أيّ جزء منها, قد تبدو لك في أوّلها و وسطها مجرّد قصّة لإنسان غلبت عليه شكوكه و وساوسه, و سبّبت له حالة مرضيّة نفسيّة و تخيّلات و أوهام, و لكن إن صبرت على قرائتها إلى أخر كلمة فيها ستصيبك الدّهشة و ستجدها كلغز يصعب حلّه و فهمه, و ستجد فيها عالم ملائكيّ و تصرّفات شيطانيّة تحت سقف واحد كالنّار و الماء في وعاء واحد ينكرها عقل إنسان و لو شوهدت في أماكن مختلفة حول العالم, و تبدو كغموض لا يمكن فهمه و لا إدراك ما ورائه, و ستنتهي قصّتي بفتنة أعظم من فتنة المسيح الدّجّال حسب ظاهر الأحاديث الّتي جأت فيه.
إنّ الأسباب الّتي دفعتني إلى كتابتها لن تترك في نفسك أيّ شكّ على صدقي, إنّها أسباب مزلزلة تقشعرّ لها جلود و أبدان المؤمنين, لا يبوح بها إلاّ الصادقون.
-------------------- القصّة --------------------
أقول و بالله التّوفيق :
تبدأ قصّتي منذ أن كنت طفلا صغيرا في الخامسة من عمري بمحن و ابتلائات ليست كأيّ محن أو ابتلائات عاديّة يمرّ بها الإنسان في حياته, و لكن كلّ ابتلائاتي ليست إلاّ نقطا متسلسلة ترسم فتنة عظيمة يكتمل رسمها عند بلوغي 40 عاما, ثمّ تولد كولادة طفل و لكن ينمو نموّ الثّلاثين سنة في ثلاث سنين فقط.
في يوم عرس اُختي الكبرى كنت ألعب مع ابن عمّتي و كان أكبر منّي سنّا, ضربني و أنا على غفلة بحبّة بطاطس كبيرة الحجم على عيني اليمنى من مسافة متوسّطة بقوّة شديدة فدخلت عيني إلى مستوًى لم أقدر على فتحها و لو بيدي, صرخت صرخة شديدة و لم ينتبه أحد لصراخي رغم أنّي كنت أصرخ صراخ من تقطع يده بالمنشار, و العجيب أنّني كنت قريبا من كلّ أفراد عائلتي و ضيوف العرس و لم ينتبه لي أحد إلاّ اُختي الوسطى فجأت إليّ مسرعة و صعقت بهول ما رأت في عيني المختفية, أدخلتني إلى غرفة صغيرة و حاولت فتح عيني و لم تستطع, ثم ذهبت مسرعة و أغلقت الباب ورائها و تركتني اُعاني وحيدا حتّى غلبني النّوم من شدّة الإرهاق و الألم, و كان وراء ذهابها ونسيانها لما حدث لي تأثير غيبيّ سيتّضح في نهاية قصّتي, و لم أستيقظ إلاّ في اليوم التّالي بعد انتهاء العرس, حينها فقط علم أهلي بما حدث لي و صعقوا بهول ما شاهدوا, كانت عيني قد طمست و لم أعد أرى منها سوى ضبابا فظنّ الجميع أنّي قد فقدتها و لكن شأت إرادة الله سبحانه أن تتعافى و تعود كما كانت و الحمد لله.
و في نفس السّنة و نفس الفترة حدثت معي حالة غريبة آلمتني كثيرا و هي : فجأة ثقل لساني عن الكلام و كنت أجد صعوبة في نطق معظم الحروف و يتعثّر كلامي بالخروج حتّى خشي عليّ أهلي البكم, و كنت أتألّم كثيرا عندما اُحاول النطق و لا أستطيع فيتملكني الإضطراب و أنهار بالدّموع, و بعد مرور فترة من الزّمن بدأ لساني يخفّ و ينطق و لكن بقي عليه ثقل إلى يومنا هذا, و هذه الحادثتين كانت أوّل رسم لتلك الفتنة العظيمة الّتي بنيت عليها قصّتي كلّها.
قد تتسائل الأن ما المقصود من هذه الحادثتين, و قد تتسائل أيظا بعد قرائتك لباقي أجزاء قصّتي و لن تجد أيّ إشارة فيها إلى عنوان الفتنة العظيمة, و لكن إن صبرت على قرائتها إلى أخرها سيبدأ فهمك و إدراكك لما ورائها, عندئذ ستنشغل بها بكلّ تركيزك, فإن قلت لما لا تلخّص أحداث القصّة و تختصرها أو تختصر في شرحها, أقول : كلّ أحداثها و فصولها محطّات ترسم وجه الفتنة العظيمة الّتي ستأتي في ختام قصّتي و مذكّراتي هذه, و بدون هذه المحطّات و الحوادث يصعب فهمها إن لم يستحيل.
و بعد تلك الحادثتين بدأت الحياة تصعب في نفسي, إبتلاءات متتالية, اُصبت بالخوف فصار رفيقي يهاجمني كثيرا بأسباب مختلفة و أشكال متنوّعة, و بعد مرور فترة من الزّمن و كنت في الثّامنة من عمري حدثت معي صدفة هي لغز قصّتي كلّها و هذه الصّدفة : بعد عودتي من المدرسة ذهبت لألعب مع أصدقائي و أصابني العطش و عدت إلى البيت مسرعا, فذهبت إلى المطبخ و فتحت المبرّد و أخرجت الماء و شربت, و كنت في الطّابق الثّاني من بيتنا و لم يكن هناك في ذلك الوقت أحد غيري, فوالدتي و أخواتي كانوا في الطّابق الأوّل, و عندما أنهيت شربي و هممت بالذّهاب رأيت شيخا غريبا واقفا عند باب الطابق الثّاني بهيئة غريبة و لا يبدو عليه أنّه رجل من عصرنا, بل مظهره كان يوحي إلى أنّه من عصور قديمة, مرتديا قميصا أبيض و عمامة جميلة بيضاء و لحيته طويلة جدا و بيضاء بياضا كاملا لا سواد يختلطه, و كان ذلك الشّيخ طويل و ضخم الهيئة, و كان واقفا عند الباب متعمّدا مصادفتي و رؤيتي له, و الغريب في الأمر هو قبل مروري على ذلك الباب و رؤيتي لذلك الشّيخ انتزع الخوف من قلبي, فرأيته و كأنّي كنت أعرفه و متعوّد على رؤيته و نظرت في وجهه و كانت تبدو عليه الهيبة و الوقار, و مررت بهدوء بجانبه و خرجت من الباب دون أن يصيبني أيّ خوف أو هلع و كانت نفسي هادئة مطمئنّة إلى أن خرجت من البيت, و بعدها أحسست بالخوف بدأ يعود في نفسي و يتحرّك و هممت أن اُخبر والدتي و لكن شعور غريب في قلبي منعني, و كلّما هممت أن اُخبر أحدا بتلك الصّدفة العجيبة يعاودني ذلك الشّعور مرّة اُخرى فأكتم ما رأيت.
و ذات يوم زارنا جدّي والد اُمّي في بيتنا و جلس مع والدتي في غرفة و كنت ثالثهما أسمع ما يدور بينهما, و بعد حديث طويل بدأ يحدّثها عن حوادث الجّن في قريتنا و أخبرها أنّ شخصا صادفه الجّن و ضربه في عينه و اُصيب بعدها بالعمى, فامتلكني خوف شديد من حديثه و ذكّرني بتلك الحادثة الّتي أسلفت ذكرها, و ظلّ هذا الخوف يرافقني طيلة حياتي إلى العام الماضي الّذي توقّف فيه نهائيّا بعد ولادة الفتنة العيظمة, و بعد حديث الجّن و العمى بدأ يحدّث والدتي عن شجرة نسبنا و أجدادنا إلى أن انتهى إلى الحسين رضي الله عنه, لم أكن اُدرك وقتها معنى أن ينتهي نسبنا إلى الحسين رضي الله عنه و أنّنا من ال البيت كي تهمّني هذه المعلومة فأحفظها في قلبي, و لكنّ الحديث عن الجن و العمى أفزعني و أدخل خوفا عظيما في نفسي كان سببا لتذكّر ما بعده من الحديث و كأنّ حديث جدّي عن الجنّ و العمى يريد به أن يلفت انتباهي إلى نسب اُمّي فأحفظه في ذاكرتي و أنا مازلت طفلا صغيرا تحكم عليه طبيعته بالنّسيان, و لكنّ الخوف و الفزع كان سببا لغرس تلك المعلومة في ذاكرتي.
و عند بلوغي سنّ 12 رحلت مع عائلتي إلى بلد أخر قضيت فيه فترة لم أدخل فيها مسجدا إلى أن جاء يوم قرّر والدي أن يصتحبني معه إلى المسجد, و كانت أوّل خطبة أسمعها في مسجد مدينتنا الجديدة بعنوان : أشراط السّاعة و أخر الزّمان؟ و كان عمري وقتها 12 سنة, و كانت تلك المحاضرة محطّة إكمال رسم وجه الفتنة القادمة بعد 28 سنة.
و بعد تلك الخطبة عن أحداث أخر الزّمان, تذكّرت الشّيخ الغريب و بدأ في نفسي فضول يشدّني إلى معرفة من يكون, و لازمني هذا الفضول فترة حتّى استدرجت أخي بحديث و سألته : هل سبق و أن رأيت شيئا غريبا في بيتنا في بلدنا الأصل فأجابني نعم أتذكّر أنّي رأيت شيخا غريبا و وصفه لي و كيف رآه فوجدت أنّه رأى مثل الّذي رأيت تماما, لم أكسر كتماني لأخبر أخي إنمّا استدرجته بغير البوح و ما كان استدراجي له إلاّ بتأثير غيبيّ ليكون محطّة تذكير فتبقى تلك الحادثة محفوظة في ذاكرتي إلى أن يكتمل رسم الفتنة الّتي حُدّد موعدها عند اكتمالي 40 عاما سنة 2017, فيكون قد مرّ على هذه المحطّة التذكيريّة و على انتقالي من بلدي الأصل إلى هذا البلد الّذي اُقيم فيه 28 عاما و هو رقم البيت الّذي أسكن فيه والّذي اكتمل فيه رسم تلك الفتنة العظيمة إنّه رقم 28.
أمضيت فترة من الزّمن في هدوء و استقرار راحة بال إلى أن وقعت حرب الخليج الأولى فبدأت الإبتلائات و المحن تشتدّ و كأنّها تربطها علاقة بما يحدث في بلاد المسلمين من حروبٍ و خرابٍ و سفكٍ لِدماء الأبرياء, و كلّما حدثت حرب جديدة زادت معها ابتلائاتي و محني, و كانت تصيبني أمراض مختلفة غريبة لا يظهر أثرها في الفحوصات الطّبيّة, و كان الخوف الّذي تسبّبه لي أشدّ من ألمها, و كأنّها تأتي فقط لتبقيني في حالة خوف و ترقّب مستمرّ, و بسبب حبّي الشّديد لوالدتي كنت أخشى أن اُخبرها بما اُعاني فتتألّم بسببي, كنت أخشى أن أراها حزينة و متؤلّمة و لذلك أكتم عنها كلّ ما يؤلمني و يعذّبني كي لا تتقاسم ألامه معي, و كتماني لأوجاعي و مصائبي كانت تؤثّر فيه عوالم غيبيّة تمنعني من البوح كما منعتني من بوح رؤيتي لذلك الشّيخ الغريب لأعيش ألامي الفضيعة وأحداث حياتي الرّهيبة وحدي إلى أن يكتمل رسم الفتنة فاُواجهها منفردا بفطرتي وعلمي اليسير المجرّد, لا أستعين بأهل العلم و لا أستشير من هم حولي,
و بعد حرب الخليج و بلوغي سنّ 17 و هو رقم سنة اكتمال رسم الفتنة القادمة, أصابني أوّل بلاء عظيم يعجز لساني عن وصفه بالكلمات, إنّه بلاء و آلام أنستني كلّ ما مرّ عليّ من الألام و المواجع قبله, إنّه بلاء جعلني أشمّ رائحة الموت و لا أراه, حطّم الأمال و لذّة الحياة في نفسي, و تفاصيل هذا البلاء اُفضّل أن أتركها مخبّئة في قلبي و لا أذكر منها سوى عنوانها و هو أنّي شربت سمّا دون قصد مع شخصين فأصابنا بعذابه إلاّ أنّ عذابي أنا كان له لون أخر و طعم مرعب مهما حاولت وصفه ستعجز كلاماتي و تأبى, و استمرّت معي ألام تلك المحنة لعدّة سنوات, و حدث في نفس سنة ذلك البلاء زواج اُختي و كان لهذا الزّواج علامة تتعلق ببلائي و بالفتنة القادمة سيأتي ذكر تلك العلامات في الجزأ الثّاني و الثالث الأخير, و كان ذلك البلاء أوّل ابتلائات عظيمة مزلزلة اُصبت بها في حياتي عندما بلغت 17 عاما, و كانت الأشدّ الحوادث مزلزلة لم اُصب بمثلها إلى أن بلغت 40 سنة في العام الماضي 2017.
و في يوم من الأيّام عدت للبيت متأخّرا و كنت جائعا, أكلت في منتصف اللّيل ثمّ نمت و قبل الفجر صحوت على اختناق و ألم شديد في معدتي و ظلّ يزداد حتّى اضطررت للإستفراغ و عندما حاولت القيء أحسست بإنسداد في أعلى معدتي, و بقيت طوال اليومين اُحاول القيء و لا أستطيع, كانت محنة عظيمة و بعدها بدأ أعلى معدتي ينفتح و بدأت أستفرغ قطعا صغيرة وجدتها كما أكلتها لم تهضمها معدتي, ثمّ بدأت أرتاح قليلا و لكن دون أكل شيء بتاتا إلاّ تناول اللحليب فقط, ذهبت للطّبيب فأخبرني أنّ لي مشكلة في الهضم و أعطاني دواء و لكن دون جدوى, كلّ يوم تزداد حالتي سوءا, كنت لا آكل شيئا سوى شرب الحليب الدافئ و كان يتحوّل بسرعة في معدتي إلى حموضة رهيبة لا توصف, كلّما تقيّأت أسقطت جلد حنجرتي و فمي, كانت تلك الحموضة شديدة عظيمة, و عدت إلى الطّبيب مرارا وأبدلني الدّواء و لكن دون جدوى, و ظلّت حالتي تزداد سوءا إلى أن بدأ عضمي بالظهور من جلدي, و في يوم أحسست بضعف شديد و عرق بارد على جبيني, هرعت للوضوء و ذهبت لصلاة ركعتين علّها تخفّف عنّي ما بي من الألم و الخوف, و في السّجود سمعت صوت في اُذني يقول : تثبّت فإنّك تحتضر فأسرعت نبضات قلبي و أحسست بإحساس لا أستطيع وصفه و تيقّن قلبي أنّني فعلا اُحتضر, و لكن بعد التّسليم بدأت اُحسّ بهدوء تدريجيّا إلاّ أنّني بقيت خائفا طوال اليوم و لم أنم تلك اللّيلة حتّى شروق الشّمس بعد التعب و الارهاق, و في اليوم التّالي بدأت اُحسّ أنّ ما حدث كان مجرّد وهم لا أكثر ثمّ عاودني ذلك الهاتف ليأكّد لي أنّه ليس وهما فقال : إرجع إلى الطّبيب مرّة اُخرى, فرجعت إلى الطّبيب و وصف لي دواء جديد و عدت للبيت و بمجرّد أن أخذت الحبّة الأولى منه أحسست مباشرة بتوقّف الحموضة و ألمها, فتحسّنت حالتي بسرعة إلاّ أنّني لم أعد أستطيع العيش بدون ذلك الدّواء إلى يومنا هذا.
و بسبب ذلك الدّواء عادت الرّاحة مرّة اُخرى لنفسي لفترة من الزّمن ليست بالطّويلة ثمّ بدأ الخوف يلاحقني من جديد عندما لاحظت في يوم أنّ عيني اليمنى الّتي ضُربت فيها بالبطاطس عندما كنت طفلا صغيرا كما أسلفت, بدأت اُلاحظ فيها ظهور خيوط سوداء عند رؤيتي و خصوصا تحت ضوء الشّمس, و بدأت تلك الخيوط تُفزعني و تأرّقني و فقدت الطّمأنينة و الرّاحة من جديد, و كانت تأتيني وساوس لا أستطيع وقفها توحي في نفسي أنّني سأفقد بصري, و ظلّت تعذّبني فترة حتّى اختفت و اختفت معها أيظا تلك الخيوط السّوداء في عيني إلاّ أنّها تركت أثر خفيف أكاد لا اُلاحظه في رؤيتي, و كأنّ تلك الخيوط في عيني جأت لتذكّرني فقط بما حدث لي حينما كنت طفلا صغيرا و بحديث جدّي مع والدتي عن العمى و النّسب بعد أن غفلت عن تلك الحوادث و بدأت أنساها.
و عندما بلغت سنّ 23 بدأت اُفكّر في الزّواج و كلّما حاولت خطبة فتاة ما تهاجمني ظروف و مشاكل و أسباب منطقيّة و غير منطقيّة فأبوء بالفشل, حتّى أجمع كلّ أهلي و من حولي أنّ سحرا ما قد أصابني, و بعد هذا السّن بدأت أميل للإلتزام و مصاحبة الصّالحين دون غيرهم, و أمضيت فترة من الزّمن في وسط من ذكرت, و لم تنتهي تلك الإبتلائات و المخاوف بل ظلّت تلاحقني, كلّما انتهت محنة أصابتني اُخرى بشيء جديد فيعكّر صفو نفسي و راحة بالي, مصائب متتالية و أمراض مختلفة ذقتها و ذقت ألمها كلّما انتهى مرض أو خفّ ظهر أخر و أخذ مكانه في التّخويف و التّأليم, و عشت طيلة حياتي الماضية بين مهموم حزين, و خائف مترقّب لا يأمن ما ينتظره في غده.
و بعد فترة من الزّمن توقّفت معانتي و ألامي قليلا و أمضيت فترة هادئة شيئا ما, و كأنَ القدر كان يهيّئني لمرحلة جديدة و طريق وعر أخر في الإبتلاء ظلّ يلاحقني 14 سنة حتّى ولادة الفتنة, هنا فقط تبدأ قصّتي المثيرة الّتي تحمل كثيرا من الألغاز يصعب حلّها و فهمها, و كلّ هذا الّذي ذكرته و ما يليه في هذا الجزأ من قصّتي له علاقة بالشّيخ الغريب الّذي أكّد لي أنّه لم يكن وهما ولا خيالا بظهوره لغيري من أقربائي.
قد تبدو لك قصّتي حتّى الأن كما أسلفت في مقدّمتها, أو هي كلام لشخص أراد إشهار نفسه أو في نفسه حاجة و أراد تحقيقها بكتابة قصّته أو تأليفها, و لكن إن صبرت و ركّزت في كلّ ما تحتويه و خصوصا الأسباب الّتي دفعتني إلى كتابتها ستدرك يقينا أنّ كاتبها صادق, فالأسباب الّتي دفعتني لكتابة قصّتي ستصدمك و سيقشعرّ لها جلدك و بدنك, فاصبر في قرائتها و افهمها بارك الله فيك و هدانا جميعا إلى الحقّ و الصّواب.
و قبل بلوغي سنّ 25 بيومين حدث ذلك الهجوم على مركزي التّجاريّ العالميّ في نيويورك, فبدأت حياتي تتّخذ مسار أخر في الإبتلائات و المحن, قبل ذلك الحدث أمضيت فترة في هدوء شيئا ما كما أسلفت, و بعد الحدث بدأ ميولي يشتدّ للجهاد, و كان قد بدأ في حرب الشّيشان الثّانية و لكن بعد 11 سبتمبر أحسست بدافع رهيب في نفسي لم أفهم حتّى أسبابه و لم تكن قناعتي بتنظيم القاعدة واضحة, و هل هو تنظيم شرعيّ يوافق نهج الرّسول صلّى الله عليه و أله وسلّم في الجهاد أم لا, كلّ ما في الأمر هو أنّني دُفعت دفعا دون فهم و لا قناعة للتعاطف مع التّنظيم و حبّ الإنضمام إليه و لم يكن هذا إلاّ سببا لإدخالي في مرحلة جديدة من الإبتلائات و المحن كانت تمهيدا للفتنة القادمة, و بدأت أبحث عن أسرار هذا التّنظيم و من يكون و لم أجد سُبل البحث إلاّ في شبكة الإنترنت, و دخلت أتصفّح فيها المواقع الّتي تتحدّث عن التّنظيم حتّى وصلت إلى مواقعه و مواقع تنظيمات اُخرى للجهاد, و وجدت فيها دروسا عسكريّة في الأمن و مكافحة التجسّس, و دروسا في استعمال الأسلحة و التّدرّب عليها و اُخرى في حرب العصابات و الشّوارع, و قمت بإنزالها على جهازي و كذلك حصلت على ملفّات كثيرة تحتوي على كيفيّة صنع المتفجّرات و القنابل و غيرها, و في يوم من الأيّام كنت أتصفّح موقعا إلكترونيّا فصادفني موضوع في غاية الحساسيّة و هو : عالم نوويّ أمريكيّ قام بتحميل ملفّ خطير على شبكة الإنترنت, و هذا الملفّ بعنوان : الخريطة المختصرة لتركيب القنبلة الذّريّة المصغّرة, و أسرعت بتحميله على جهازي و لم تكن مجرّد صدفة إنّما كانت سببا من أسباب جديدة في رسم خريطة مرحلة جديدة من حياتي في الإبتلائات,
و استمرّ بحثي عن تنظيم القاعدة و دروس الجهاد من سنة 2001 إلى سنة 2003, و ذات يوم وصلتني رسالة على بريدي الإلكترونيّ تعرض عليّ عمليّة غسيل أموال بمبلغ قيمته 17 مليون دولار أمريكي, يتمّ تحويلها إلى حساباتي بعد تزوير أوراق تجاريّة تثبت مصدرها الشرعيّ دون أيّ مشاكل مقابل عمولة قدرها 3 مليون دولار أمريكي أخصمها من كامل المبلغ و اُعيد 14 مليون إلى مصدر الأموال, رغم عدم قناعتي و خوفي قبلت العرض دون تفكير, و بدأت في إجراءات التّحويل بالإستعانة ببعض أصدقائي و كنّا نتحدّث كثيرا عن العمليّة على الهاتف, و من سوء حظّي كنت وقتها تحت مراقبة المخابرات بسبب شبهة اُخرى وهي : كان لي صديق تمّ اعتقاله في أوّل حملة اعتقالات للمخابرات في البلد الّذي اُقيم فيه بعد 11 سبتمبر بتهمة جمع الأموال من المساجد و إرسالها إلى منظّمات إرهابيّة, و اتّهم بإرسال شابّين إلى كشمير و قتلا هناك, و أمضى ما يقارب السّنة في السّجن ثمّ تمكّن من الفرار قبل محاكمته, و بسبب فراره من السّجن و ضعوا كلّ الأرقام الّتي وجدت في هاتفه تحت المراقبة و من بينها رقم هاتفي, و ذات يوم فاجأني باتّصاله و أخبرني أنّه انتقل إلى بلد أخر, و بعد يومين من اتّصاله بي فاجأتني صورته على شاشة التّلفاز مع خبرٍ أنّ شخصا مشتبها تمّ اعتقاله مرّة اُخرى بعد فراره من السّجن, و كان سبب انكشاف مكان تواجده للمخابرات هو اتّصاله بي و لكنّي لم أنتبه لهذا وقتها, فإذا نزل القدر عمي البصر, فتمّ تشديد المراقبة على كلّ اتّصالاتي و تحرّكاتي و أنا على غفلة من أمري, و رغم ذلك لم يفهموا حقيقة الموضوع الّذي كنت مشغولا فيه, فقد اعتقدوا أنّني تاجر مخدّرات كبير يقوم بتصنيعها و إعدادها ثمّ تصديرها إلى عدّة دول, إعتقدوا هذا بسبب استعمالنا لألغاز و إشارات على الهاتف, فأصدروا مذكّرة اعتقال بحقّنا و قاموا على الفور بمداهمة منازلنا و اعتقالنا ليلا, و ظلّوا يبحثون طيلة اللّيل في منازلنا عن المخدّرات أو أثارها و الأموال الّتي كنّا نتحدّث عنها و لم يجدوا شيئا, و في الصّباح أخبروني أنّهم لم يجدوا أيّ مخدّرات أو أثارها في منازلنا, و لكن تلك المكالمات المشبوهة تلزمهم تركنا عندهم عدّة أسابيع للتأكد من معانيها.
و ما هذه الأحداث و الوقائع إلاّ تكملة لرسم وجه الفتنة القادمة, و بعد اُسبوع من التّحقيق و البحث تأكّدت الشّرطة أن لا علاقة لي بتجارة المخدّرات و اعترفت لهم أنّني كنت اُنفّذ عمليّة غسيل أموال و لم أكن متورّطا أبدا في المخدّرات, فضحكوا و سخروا منّي و أخبروني أنّ الجهة الّتي كنت أتواصل معها بخصوص موضوع غسيل الأموال لسيت إلاّ شبكة عالميّة للنّصب و الإحتيال, و ما تلك الإجراءات الّتي كنت أتّبعها معهم إلاّ استدراج منهم ليوقعوني في فخّ النّصب و الإحتيال, ففرحت كثيرا بهذا الخبر لأنّه يثبت برائتي من أيّ تهمة تلزم القضاء سجني فترة اُخرى ثمّ أخبروني أنّه لابدّ من فحص كلّ ما اُخذ من بيتي قبل إطلاق سراحي و هذا الفحص يحتاج إلى بعض الوقت, و تمّ ترحيلي من معتقل الشّرطة إلى سجن شديد الحراسة مخصوص لأعتى المجرمين و المهرّبين, و تمّ وضعي في غرفة منفردة منعزلة لا يصل إليها أيّ صوت مسّجون أخر و لا يحقّ لي رؤية و محادثة باقي المساجين و لا الإختلاط معهم, كما مُنعت أيظا من التواصل عبر الهاتف مع أيّ إنسان أخر سوى الطّبيب و المحامي منعا لتسريب أيّ معلومات خارج السّجن قبل إكمال التّحقيق.
و يتكوّن مبنى ذلك السّجن من عدّة طوابق و كان رقم الطابق الّذي كنت فيه 11, و اُريدك أن تنتبه لكلّ الأرقام الّتي و ردت في ما أسفلت في قصّتي هذه و ما سيأتي ِلمَا لها من إشارات و ألغاز محيّرة, و في اللّيلة الأولى الّتي قضيتها في السّجن حدث معي أمر غريب جدا و هو بعد إطفائي للضّوء و وضع رأسي على وسادتي أسمع مباشرة صوت شخير إنسان معي في الغرفة, فإن أشعلت الضّوء ينقطع معه و إن أطفأته يعود من جديد فاُحسّ بخوف خفيف و كأنّ ذلك الخوف ما أراد إلاّ أن أنتبه إلى أنّي لست وحدي, و بعد أن انتبهت و تيقّنت أنّه صوت حقيقيّ معي في الغرفة و ليس وهما نزع الخوف من نفسي كما نزع منّي حينما رأيت ذلك الشّيخ الغريب الّذي أسلفت قصّته, فنمت دون خوف أو اضطراب ممّا أسمعه بجانبي من صوت شخير إنسان ليس موجودا معي, و في الصّباح الباكر أحسست بشخص يهزّني كي أستفيق, و ظلّ هذا يحدث معي طيلة الفترة الّتي قضيتها في السّجن إلاّ أنّ ذلك الصّوت تغيّرت مدّته و صار يسمعني ذلك الشّخير في أوّل لحظة اُطفئ فيها ضّوء الغرفة فاُحسّ أنّه معي ثم ينقطع بسرعة كأنّه لا يريد إزعاجي إنّما غرضه أن أنتبه لوجود شيء غريب معي في الغرفة و اُخبر به غيري كي يعتقد غيري أنّ صدمة السّجن أثّرت في أعصابي فساءت حالتي النفسيّة.
رغم هذه الملاحظة لم أعتقد في نفسي وقتها أنّه فعلا شيئ غريب من عالم أخر يلاحقني بل اعتبرت ملاحظتي مجرّد وهم بسبب صدمة السّجن لا أكثر, و بعد اُسبوع من دخولي ذلك السّجن بدأت تحدث معي أحيانا حالة غريبة و هي أنّني أستيقظ في اللّيل أو في الصّباح الباكر مع إحساس غريب و فضيع في عيناي يصحبه رُهاب شديد يجعلني أقفز واقفا على رجلاي و أهرع إلى الماء كي أغسل وجهي و أكبّ الماء على رأسي, و سبب ذلك الرّهاب هو هاتف أسمعه في اُذني بعد إحساسي بما ذكرت, يقول : إنّك ستفقد بصرك فأقوم فزعا من فراشي كما ذكرت, و عندما أهدء و يذهب عنّي ذلك الإحساس في عيناي و الرّهاب الّذي يصحبه أقول ليس هذا إلاّ اضطراب نفسيّ بسبب صدمتي و لكنّ الرّهاب و الفزع يوقذ في نفسي تلك الحادثة الّتي وقعت لي و أنا طفل صغير فأسترجع ذكراها الأليم, و يذكّرني أيظا بذلك الحديث بين جدّي و اُمّي عن الجنّ و العمى و عن نسب والدتي, فيحدث لي هذا الأمر الغريب في السّجن لأنّي أمرّ بمرحلة جديدة من الإبتلاء طريقها مليئ بالصّعاب و الفزع, و مثل هذه الظّروف تُنسي الإنسان ما مرّ عليه سابقا من المحن و الألام بسبب ما يمرّ فيه من محن و آلام أكثر قسوة ممّا سبقها, و ذات يوم أصابني الإرهاق و التّعب فغلبني النّوم و في الصّباح صحوت من نّومي على صوتٍ مرتفع جدا لذلك الشّخير الّذي كان يأتيني في اللّيل فقمت خائفا و جلست على سريري فإذا بي أسمع هاتفا في اُذني يقول إستعدّ إنّ أحَدهم قادم, فبدأت أرتعد و فقدت السّيطرة على أسناني و صارت تُحدث صوتا لا أستطيع إخفائه, و بعد لحظات قصيرة سمعت باب غرفتي ينفتح و أدخلوا طبيب السّجن إلى غرفتي من دون سابق موعد معه, أخبرني أنّه أراد رؤيتي و التعرّف عليّ, حاولت التّظهار بحالة عاديّة و لكنّه لاحظ أنّني مضطرب و أرتعد فسألني لماذا ترتعد ما الّذي تعاني منه, فأخبرته أنّني أسمع صوت شخير معي في الغرفة و أصوات تكلّمني فقال : أرى ذلك واضحا عليك و ظاهرك يأكّد ما تقول, و قال : سأكتب على الفور تقريرا اُأكّد فيه أنّ حالتك سيّئة و أنّك تحتاج إلى طبيب نفسيّ على وجه السّرعة, ثمّ غادر غرفتي فبدأت حالتي تعود إلى طبيعتها.
و بعد أيّام قليلة زارني المحامي في السّجن و أكّد لي أنّ الإفراج عنّي سيكون بعد جلسة المحكمة القادمة لإنعدام الأدلّة و الحجج الّتي تبرّر تمديد مدّة الحجز, فقد مرّ على اعتقالي عدّة أشهر و لم تثبت أيّ شبهة تُشير إلى أنّني يمكن أن أكون متورّطا في التّهمة الّتي صدرت عنها مذكّرة إيقافٍ بحقّي, و عند حضوري في المحكمة طالب المحامي بالإفراج عنّي فورا لإنعدام الأدلّة المتعلّقة بالتّهمة فقاطعه وكيل النّيابة أنّ التّحقيقات أسفرت عن اكتشاف اُمور أعظم من التّهمة الّتي تمّ إيقافي بسببها, و ذكر وكيل النّيابة للقاضي أنّ التّحقيقات أسفرت عن تورّط المتّهم بالإنتماء لتنظيم القاعدة و أنّ الموادّ الّتي تمّ ضبطها معي مليئة بأسرار إرهابيّة و معلومات عسكريّة و ملفّات تصنيع القنابل الشّديدة الإنفجار, و طالب وكيل النّيابة بتأجيل النّظر في القضيّة الجديدة إلى جلسة مقبلة لإكتمال وصول الموادّ المضبوطة عندي من مركز البحث و الفحص فوافق القاضي على طلب وكيل النّيابة و تمّ تأجيل النّظر في قضيّتي إلى جلسة اُخرى.
و بهذا أصابني الإحباط من جديد و عاد اليأس إلى قلبي أشدّ من سابقه, فبقيت في السّجن اُسبوعا جديدا أكثر قسوة من الأسابيع الأخرى الّتي مرّت حتّى اقترب موعد الجلسة الأكثر توتّرا و خوفا, و زارني المحامي في السّجن قبل موعد الجلسة بيومين و أخبرني أنّ القضيّة أصبحت صعبة و مدّة التّحقيق فيها سيطول إلى أجل بعيد غير معلوم قد يصل إلى سنتين أو ثلاثة لعلاقة القضيّة بالإرهاب, فزادني إحباطا و يأسا و مرّ عليّ اليوم الّذي بقي لموعد الجلسة كسنة و في الصّباح الباكر ليوم الجلسة في المحكمة حدث ما لم يكن في الحسبان و لا حتّى في الأحلام, ناداني مسؤلٌ في السّجن على ميكرفون الغرفة : هل مازلت نائما فصحوت على ندائه و قلت له لقد صحوت للتّو فقال : إجمع أمتعتك و أشيائك من الغرفة و لا تترك فيها أثرا, فقد جاء أمر بالإفراج عنك من وزارة العدل مباشرة, لم اُصدّق ما سمعت و ظننت ذلك مُزحة أو سُخريّة فأنا على موعد للمثول أمام القاضي في المحكمة فكيف يُفرج عنّي هكذا, فقلت في نفسي هذا مستحيل, و إذا بالمنادي يعاودني : هل انتهيت من جمع أشيائك من الغرفة فقلت لم أنتهي بعد, فقال إذن أسرع بجمع أشيائك و أخلي الغرفة بسرعة, هناك مسجون جديد قادم ليحلّ مكانك و أنت ستذهب للبيت حالا, هل نجهّز لك سيّارة اُجرة أم تتّصل بأحد أقربائك كي يحضر لأخذك, فقلت له بل سأتّصل بصديقي و لم اُصدّق ما أسمع و يحدث أمامي حتّى وجدت نفسي وحيدا خارج السّجن أنتظر وصول صديقي ليأخذني.
كان ذلك الشّخير سببا في الإفراج عنّي بسرعة دون انتظار إكمال التّحقيق في قضيّتي, و حدث ذلك الإفراج بطريقة غريبة محيّرة, فقد قام الطّبيب الّذي زارني بإستشارة طبيبٍ نفسيّ في ما لاحظه عنّي, و قاموا بإرسال تقرير يأكّدون فيه سوء حالتي إلى وزارة العدل و لم يكن هذا إلاّ قدر إلاهيّ في وضع سبب الإفراج في أمر بسيط لم يكن ليخطر على بالي و لم يكن في حُسبان خصومي المخابرات و وكيل النّيابة.
و بعد وصولي للبيت تفاجأت والدتي بعودتي و فرحت فرحا شديدا, و بعد لحظات اتّصل المحامي و ردّ عليه أخي و أخبره أنّ أمرا غريبا قد حدث و لم يفهم سببه, أخبره أنّه قد حضر في الموعد المحدّد في المحكمة و أنّه فوجئ بإعلان القاضي أنّ الجلسة تمّ إلغائها دون ذكر أسبابٍ لذلك, فأخبره أخي أنّه قد تمّ الإفراج عنّي فقال المحامي هذا مستحيل, لا يمكن أن اُصدّق هذا فأنا أوّل من سيعلم بخبر الإفراج قبل تنفيذه و أكّد له أخي ذلك.
كانت تلك المحنة و ذلك الإفراج سببا في أعظم و ألذّ و أجمل فرحة مرّت عليّ في حياتي وقتها, و لكن لم أكن أعلم أنّ تلك المحنة و ذلك الإفراج لم يكن سوى سبب لمحن جديدة أعظم من كلّ سابقاتها, و إبتلاء لا يستطيع إنسان أن يصفه بالكلمات ليشاهده فرد أخر كما هو, بل لا يمكن وصفه إلاّ تمثيلا لحدث و ليس التّمثيل كالحقيقة.
و كانت تلك المحنة مقدّمة لما بعدها, فهي محطّة إقناع و تبرير منطق, و هذا من قواعد تلك الفتنة القادمة, فاحفظ هذه القاعدة جيّدا كي تفهم الجزأ الأخير من قصّتي و بها ينكشف ألغازها و ما تخفيه من أسرار و غموض, إنّ هذه القاعدة لا تشرح الأن شيئا ممّا مضى من أحداثٍ و لا ما بقي منها قبل الجزأ الأخير, و لا يمكن شرحها إلاّ مع بداية الفتنة العظيمة, أمّا الأن فسأكمل ما تبقّى من هذا الجزأ و لم أجد له عنوان يناسبه سوى هذا العنوان :
الهروب و التّصدي لمكائد أجهزة الإستخبارات و يتنهي الهروب عند اكتمالي 40 عاما باللّقاء مع الشّيخ الغريب الّذي شاهدته و أنا طفل في سنّ الثّامنة من عمري.
و عند هذا العنوان تبدأ قصّة أشدّ فترة مرّت عليّ في حياتي, إنّها قصّة تبدو و كأنّها عصيّة على أن يقبلها عقل إنسان أو يوافقها منطق و لكنّها مليئة بالشّهود و الأدلّة القاطعة و الحجج الدامغة الّتي تنفي أيّ علاقة بين قصّتي و الإضطرابات النفسيّة و الأوهام الذهنيّة, لقد حاولت مرارا أن أفهم ما يحدث أمامي على أنّه مجرّد أوهام و خيالات نفسيّة لأنّي أجد راحة في الهروب إلى ذلك العالم المرضيّ, و لكنّ الأحداث الرّهيبة و الوقائع المفزعة تثبت أنّي أعيش حالة ابتلاء عظيمة بدأت منذ طفولتي متسلسلة لا تهدأ إلاّ لتشتعل من جديد و بشكل أفضع و أشدّ, كلّ محطّة في قصّتي لها دلالات و إشارات لِمَا سيأتي في أخرها, قد توحي لك حتّى الأن أنّني أستفرغ مواجعي من قلبي و نفسي بكتابتها, و لكن إن صبرت على قرائتها إلى أخرها ستجد العجب العجاب الّذي لا يمكن فهمه و حلّ ألغازه إلاّ بتفاصيل ما مضى من محطّات محن مرّت عليّ في حياتي كلّها, و هي ليست كلّ ما كتبت إنّما أوجزتها بأهمّها و الأكثر علاقة بأخرها الّتي هي بعنوان اللّقاء بالشّيخ الغريب عند إكتمالي 40 عاما, أمّا الأن فسأكمل الجزأ الّذي قبله و هو الهروب من أجهزة الأمن.
بعد خروجي من السّجن باُسبوع واحد بدأت قصّتي الأكثر إثارة و غموض عندما لاحظت اُناس و سيّارات تلاحقني في كلّ مكان, فأدركت أنّني تحت مراقبة أمن الدّولة و أنّ ملفّ قضيّتي لم ينتهي بعد عند جهاز المخابرات و إن انتهى في المحكمة و عند القاضي, فاستيقظت همومي و أحزاني من جديد, و عاد الخوف مرّة اُخرى ليسكن قلبي و يحطّم أحلامي و أمالي, و لكن هذه المرّة عاد ككابوس أسود, فبدأت مرحلة جديدة من قصّتي عندما ذهبت إلى المسجد و فاجأني شخص مجهول كان يحدّق فيّ طوال الوقت, و عند انتهاء صلاة العصر قام واقفا و عرّف عن نفسه و قال : أنّه جاء من بلدٍ عربيّ ليكمل دراسته في هذا البلد, و أنّه يحتاج مساعدة في البحث عن سكن في مدينتنا, فأصابني الشّك فيه و غادرت المسجد و في طريق عودتي للبيت تفاجأت أنّه لحق بي مسرعا و ناداني قبل وصوله إليّ بعدّة أمتار فتوقّفت ثمّ قال : هل يمكنني التّعرّف عليك فقلت له بالتّأكيد, و أخبرني أنّه طالب جاء من بلد عربيّ قاصدا إكمال دراسته في هذا البلد, و طلب منّي أن اُساعده في البحث عن سكن و أن اُعطيه رقم هاتفي ليتواصل معي فأعطيته رقم هاتفٍ ليس لي بعد أن شككت في هويّته فقد نطق بعدّة كلمات من لغة البلد الّذي اُقيم فيه, و هذا يدّل على أنّه مقيم قديم معي في نفس البلد, و لسانه متعوّد على التحدّث بلغة بلد إقامتي, و كان نطقه بتلك الكلمات متقنا و زاد عليها أن أخبرني أن عمره 40 عاما فدّل هذا على كذبه فزاد حذري, كانت هذه البداية لمحنة المخبارات بهذا الرّجل المشبوه, و كأنّ مجيئه إليّ ليس لينذرني ببداية المحنة الجديدة و إنّما ليخبرني بأنّها ستنتهي عند اكتمالي 40 عاما, وتكرّر معي مثل هذا الموقف مرارا بأشكال مختلفة, و كلّها تُنذر بخطر و تحمل إشارات رقميّة محيّرة تقتحم الإنتباه عنوة, وتتكرّر تكرارا ينكر الصّدفة.
سألت نفسي هل هذه الملاحظات دليل على أنّني تحت مراقبة أعين الشّرطة فكان الجواب في نفسي : بالطبع ليست دليلا على أنّني تحت المراقبة, فأنا شخص لا تغلب ظنونه على اعتقاداته و لا يحكم بما تمليه عليه وساوسه, و سألت المنطق في نفسي هل بعد تلك الملاحظات تكون الحيطة و الحذر مجرّد جهد ذهنيّ في اُمور لا تستحقّ فتتحوّل وسواسا في النفس قد يتضاعف حتى يخرج عن السّيطرة, أم أنّ تلك الملاحظات تقتضي الحيطة و الحذر, فأجابني منطق نفسي : أنسيت ما قد ضبط بحوزتك من موادّ خطيرة وملفّات عسكريّة و أمنيّة و غير هذا كثير مع صورة لجواز سفر لصديق تمّ اعتقاله قبلي و تمكّن بالهروب من السّجن و تمّ اعتقاله مرّة اُخرى في بلد أخر, أبعد كلّ هذا يُعقل أن يقتنع رجال الشّرطة بأنّني فعلا شخص مريض نفسيّا يرى أشباحا و يسمع أصواتا تملي عليه أفعاله, فقلت لمنطق نفسي هذا لا يعقل, و قال : إذن خذ حذرك و لا يضرّك إذا من حولك ظنّوا فيك الوسوسة ورأوها فيك عيبا, فأن يروا فيك عيبا و نقصا خير من أن تكون كاملا و مهدّدا, فاتّخذت القرار بأن أكون صارما و حاسما في حذري, و أصّلت القواعد في الحذر و قلت إذا تمّ وضع شخص ما تحت المراقبة فهذا يعني إصدار ترخيص لذلك من القاضي و هذا يكون محدّد الأجل حسب نوع الشّبهة, و لا يمكن أن يُصدر القاضي ترخيصٌ للمتابعه غير محدود الأجل أو طويل الأمد إلاّ في حالات نادرة تستدعي ذلك.
فاتّخذت قرارا بعدم الذّهاب إلى المسجد و عدم اللّقاء و التواصل إلاّ مع من أثق فيهم, و أن لا اُكثر الخروج من البيت فبهاذا مهما طالت مراقبة الشّرطة لي لابدّ من انتهاء صلاحيّة ترخيصها دون تسجيل أيّ حركات أو شبهات يمكن أن تفيدهم في طلب إصدار مذكّرة استدعائي من القاضي لفتح التّحقيق في ما ضبط عندي, فأنا كما اقتنعت وزارة العدل مريض نفسيّ يرى أشباح ويسمع أصوات تملي عليه أفعاله و لكن من النّوع الهادء الّذي لا يشكّل خطرا على المجتمع, و بهذا فشل المراقبون من تسجيل أيّ ثغرة أو شبهة يمكن استغلالها في إصدار مذكّرة إيقافٍ أو استدعاء, و انتهت صلاحيّة ترخيص المتابعة بعد ما يزيد عن عدّة أشهر تقارب السّنة, فاضطرّوا إلى إعلان التّشكيك في نوع حالة المرض الّتي بسببها تمّ الإفراج عنّي, و وافق القاضي و تمّ تعيين طبيب نفسيّ تابع للمحكمة لفحص نوع الحالة المرضيّة النفسيّة و التّحقيق معي في ما ضُبط عندي من موادّ و أسرار جهاديّة ليرى المحقّق النفسيّ إن كنت في كامل المسؤليّة و اُشكّل خطرا ما أم لا, فتمّ استدعائي من طرف المحقّق النفسيّ إلى جلسة خاصّة, إمتلكني الخوف و أحسست في نفسي أنّ المحقّق لابدّ أن يكتشف أنّني مسؤول فيوافق بالسّماح للشّرطة بالتّحقيق معي فيما ضبط بحوزتي عند اعتقالي في منزلي, ففوضت أمري لربّي و توكّلت عليه و ذهبت في الموعد المحدّد إلى المحقّق و هناك عند دخولي عليه أحسست بشيء غريب في جسمي و نفسي يمتلكني, و ثقل لساني وتوقّفت أفكاري و تشتّتَ تركيزي فاُصبت بهلع و كأنّني أحضر امتحانا لم أكن مستعدّا له, و لكن حدث عجب على لساني كلّما سألني المحقّق أجبته بجواب دون سابق تفكير فيه و كأنّي كنت اُخرّف, و بعد فترة من الوقت بدأت اُحسّ بعرق على وجهي حتّى لاحظه المحقّق فسألني لما أرى العرق على وجهك, هل تخيفك أسألتي فأحسست بشعر يديّ و كتفاي قد وقف بسبب سؤاله المحرج, ثمّ قلت له دون تفكير مُسبق في ما سأقوله : إنّني اُحسّ بشبح يقترب منّي فنظر إلى يديّ و كتفاي و رأى شعري واقفا و قال : هدّء من روعك و لا تخف, و سألني : هل تشعر بألم ما, فقلت له لا أشعر بشيئ سوى ريق فمي قد نشف و ثقل عليّ الكلام, ثمّ قال لابأس عليك, و قام و أتى بالماء و ناولني إيّاه فشربت و قال : اُعذرني إن شددت عليك بالسّؤال ثمّ قال يمكنك الأن الذّهاب و سنكمل جلستنا في لقاء أخر, فانصرفت و في الخارج أحسست و كأنّي خرجت من القبر.
و بعد اُسبوع و صلني من المحقّق استدعاء أخر فذهبت متوكّلا على الله, جلست و أخبرني مباشرة بأنّه قام بالإستشارة مع مجلس المحقّقين النّفسيّين حول حالتي و ما استنتجه من أجوبتي و ما لاحظه في شخصيّتي, فأجمعوا أنّه لا حاجة لإكمال التّحقيق معي بعد التّقرير الاوّل, و أنّهم حكموا بنفي المسؤليّة عنّي بخصوص ما ضبط بحوزتي أثناء الإعتقال, و طلب منّي إمضاء التّقرير ثمّ ودّعني و خرجت فرحا أرى الدّنيا كما لم أرها من قبل, و بعد أسابيع وصلني حكم المحكمة بإغلاق القضيّة نهائيّا.
فانتهى هذا الكابوس, و اقتنعت الشّرطة أنّني فعلا غير مسؤول و أغلقوا ملفّ قضيّتي, و هنا تنتهي قصّتي مع المخابرات نهائيّا, و لكن انتهت وبدأت من جديد بعنف و قسوة.
ستقول الأن كيف تقول يا صاحب القصّة انتهت نهائيّا ثمّ تقول أيظا و بدأت من جديدٍ بعنف و قسوة ؟؟
أقول نعم لقد انتهت نهائيّا و لكنّها بدأت من جديد, وبدايتها الجديدة لغز ستكشفه أخر قصّتي حينما ستعلم كيف بدأت و هي قد انتهت, الصبر وحده على القرائة إلى أخرها هو من سيحلّ هذا اللّغز و ستفهم كيف بدأت وهي قد انتهت.
إلى هنا ينتهي الجزأ الأوّل و يليه الجزأ الثّاني.