المكرمون والمهانون يوم الدين (2)
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء، والعظمة والكبرياء، نَحمَده على نِعمه الجِسام، وأعظمها علينا نعمة الإسلام، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك، له ملك فعدل وأحكم، وأرسل الرُّسل وعلَّم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، والنظر إلى أعمالنا، فما كان طيبًا ازددنا منه، وسألنا الله قَبوله، وما كان سيئًا تُبنا منه، وسألنا الله غفرانه، فإني وإياك الآن في دار العمل للآخرة؛ قال الحق جل شأنه: ï´؟ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ï´¾ [الإسراء: 18 - 21].
إخوة الإيمان، حال الناس في الدنيا في استقامتهم على شرع ربهم متفاوتة، وكذلك حالهم في الآخرة متفاوتة أيضًا؛ ï´؟ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار ï´¾ [ص: 28].
معشر الكرام، سنحرِّك قلوبنا بذكر شيء من حال الفريقين في الموقف العظيم:
إن مما ينجي العبد يوم الدين، سعْيَه في حاجات المسلمين، ومساعدة المحتاجين، وتيسيره على المُعسرين؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن نفَّسَ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومن يسَّرَ على معسرٍ، يسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرةِ، ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه))؛ رواه مسلم.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان تاجرٌ يُداينُ الناسَ، فإذا رأى مُعسرًا قال لفتيانِه: تجاوزوا عنه، لعلَّ اللهَ يتجاوزُ عنَّا، فتجاوزَ اللهُ عنه)).
وممن يُكرَم إخوة الإيمان يوم العرض، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا، فهم يوم القيامة في مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابرَ من نورٍ، عن يمينِ الرحمنِ عز وجل، وكلتَا يديهِ يمينٌ، الذين يعدلونَ في حُكمهِم وأهليهِم وما وُلُّوا)).
وممن يُكرَم يوم العرض الشهداء؛ فإن الشهيد لا يَفزَع إذا فزِع الناس؛ ففي سنن الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشَّهيدِ عِندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفَرُ لَه في أوَّلِ دَفعةٍ، ويَرى مقعدَه منَ الجنَّةِ، ويُجارُ مِن عذابِ القبرِ، ويأمَنُ منَ الفَزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ علَى رأسِه تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ مِنها خيرٌ منَ الدُّنيا وما فِيها، ويزوَّجُ اثنتَينِ وسبعينَ زَوجةً منَ الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ مِن أقاربِه))؛ صححه الألباني.
ومن إكرام الله للشهيد يوم القيامة أن الله يُبعثه وجُرحه يتفجَّر دمًا، لونه لون الدم، وأما رائحته فرائحة المِسك.
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيلِ اللهِ - واللهُ أعلمُ بمنْ يُكْلَمُ في سبيلِهِ - إلا جاء يومَ القيامةِ وجُرحُهُ يَثْعَبُ، اللونُ لونُ دمٍ والريحُ ريحُ مسكٍ))؛ قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة في بعْثه كذلك، أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى"؛ ا .هـ.
نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة، وبما فيهما من الآي والحكمة، واستغفروا الله إنه كان غفارًا.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على صاحب الحوض المورود والمقام المحمود، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ:
فأوصي نفسي وإياكم بفعل الطاعات، وترْك المحرَّمات، وتجديد التوبة؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة))؛ رواه مسلم.
إخوة الإيمان، العباد في الدنيا مختلفة أعمالهم ومتفاوتة، وكذلك هم في الآخرة؛ قال الحق سبحانه: ï´؟ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ï´¾ [الجاثية: 21].
سمِعنا في الخطبة الأولى شيئًا من حال المكرمين في الموقف العظيم، والآن ننتقل إلى شيء من حال المهانين يوم الحساب والعرض على رب العالمين.
إن ممن يهان في ذلك اليوم، من جاء فيهم وعيد بألا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فمن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وهم الأحبار والرُّهبان، والعلماء الذين يكتمون ما عندهم من العلم؛ إرضاءً لحاكم، أو طلبًا لعرض دنيوي؛ ككتمان أحبار اليهود، ورُهبان النصارى ما يعرفون من صفات رسولنا عليه والصلاة والسلام، وإنكارهم لنبوَّته، مع أنهم كما أخبر الله عنه ï´؟ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ï´¾ [البقرة: 146]؛ قال الحق سبحانه: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 174].
وهذا الوعيد يشمل أصحاب معاصٍ أخرى، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري: ((ثلاثة لا يُكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلَّف على سلعة، لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)).
معشر الكرام، معصية الله مستقبحة في كل حال، ولكنها تزداد قبحًا إذا فعلت مع ضَعف الدواعي والأسباب؛ ولذا جاء الوعيد زائدًا على الزاني كبير السن، وعلى المتكبر الفقير، والملك الذي يكذب، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم: ((ثلاثة لا يُكلمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم: شيخ زانٍ، وملِك كذَّاب، وعائلٌ مستكبر)).
وجاء الوعيد السابق في أصحاب كبائر أخرى؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يُكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: مَن هم يا رسول الله؟ خابوا وخسِروا، قال: وأعاده رسول الله ثلاث مرات، قال: ((المُسبل، والمنَّان، والمُنفِّق سِلعته بالحَلِف الكاذب))؛ رواه مسلم.
وقيَّد العلماء وعيد المسبل هنا بمن أسبَل لباسه خُيلاءَ؛ كما جاء في حديث آخر: ((ومن جر ثوبه خيلاءَ، لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة))؛ أخرجه الشيخان؛ قال النووي: أي: لا يُكلمهم تكليم أهل الخيرات بإظهار الرضا، بل بكلام أهل السخط والغضب، ولا ينظر إليهم، فيُعرِض عنهم؛ لأن نظره لعباده رحمة ولُطف، ولا يُزكيهم؛ أي: لا يُطهرهم من دنَس ذنوبهم، وقيل: لا يُثني عليهم.
اللهم اجعلنا وأحبابنا يوم العرض عليك من الفائزين المُكرمين!