ونحن أقرب إليه (سلسلة آيات العقيدة المتوهم إشكالها "9")
د. زياد بن حمد العامر
القول الثاني: أن هاتين الآيتين من آيات الصفات، والقُرْب المذكور فيهما هو قُرْب الله عز وجل بعلمه وإحاطته لا بذاته، وممن ذهب إلى هذا القول إسحاق بن راهويه [22]، والإمام أحمد [23]، والدارمي [24]، والطبري في قولٍ له [25]، وابن الماجشون [26]، وابن جزي [27]، وأبو عمر الطلمنكي [28]، والبغوي [29]، وابن تيمية في قولٍ له [30]، وابن القيم في أحد قوليه [31]، والشوكاني [32]، والسعدي في قولٍ له، والشنقيطي [33]، وهو قول طائفة من أهل السنة من السلف، وكثير من الخلف [34]، ويُنسَب إلى ابن عباس [35].
"وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات الباري جل وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت، ولما ظنُّوا أن المراد قُرْبه وحده دون قُرْب الملائكة، فسَّرُوا ذلك بالعلم والقدرة، كما في لفظ المعية" [36]، "وأمَّا مَنْ ظَنَّ أن المراد بذلك قُرْب ذات الربِّ من حبل الوريد، أو أن ذاته أقرب إلى الميت من أهله - فهذا في غاية الضَّعف" [37].
قال السعدي: "اعلم أن قُرْبَه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقُرْب العام: قُرْبه بعلمه من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: ï´؟ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ï´¾، والقُرْب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومُحبِّيه، وهو المذكور في قوله تعالى: ï´؟ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ï´¾ [العلق: 19]" [38].
القول الثالث: أن القُرْب المذكور هنا يشمل الأمرين: قرب علم الله، وقرب ذوات الملائكة، وممن ذهب إلى هذا القول ابن تيمية في قول له، والسعدي في قول له [39]، وبه قالت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية [40].
قال ابن تيمية: "قوله: ï´؟ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ï´¾ هو قُرْب ذوات الملائكة وقُرْب علم الله، فذاتُهم أقربُ إلى قلب العبد من حبل الوريد" [41].
المطلب الثالث: الترجيح:
بعد التأمُّل في الأقوال السابقة لأهل العلم يترجَّح القول بأن قُرْب الله في هاتين الآيتين هو قُرْبه بعلمه وإحاطته لا بذاته، ولا يمنع ذلك من أن يشمل أيضًا قُرْب ملائكته، "وقوله: ï´؟ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ï´¾ لا يجوز أن يُرادَ به مجرد العلم"[42].
وممَّا يُؤيِّد هذا ما يلي:
1- أن آيات القرآن الواردة في القُرْب تشمل القُرْبَ الخاصَّ، وتشمل كذلك القُرْبَ العامَّ، ولا يُسلَّم عدمُ ورودها بمعنى القُرْب العامِّ.
2- أن صيغة "نحن" ليست لازمة بأن يقولها المتبوع المطاع العظيم الذي له جنود يتَّبِعون أمره؛ بل قد يقولها المتبوع المطاع الذي يفعل أمره بنفسه؛ كما قال تعالى في سورة الأنعام: ï´؟ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ï´¾ [الأنعام: 151]، والرازق هو الله وحده، وكما قال في سورة الحجر: ï´؟ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ï´¾ [الحجر: 23]، والله هو المحيي المميت الوارث، أما القول بأن قوله تعالى: ï´؟ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ ï´¾ هو مثل قوله: ï´؟ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ï´¾ [يوسف: 3]، وقوله: ï´؟ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ï´¾ [القيامة: 18]؛ حيث إن الذي قصَّ وقرأ هو الملَك، فإن هذا ليس صحيحًا؛ لأن "أول الآية يأبى ذلك فإنه قال: ï´؟ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ï´¾ [ق: 16]" [43]، وقد تعلم الملائكة ما يَهمُّ به العبد بإعلام الله لها، ولكنها لا تعلم ما تُوسوس به نفسُه، وفرق بين الأمرين.
3- أن سياق الآية دلَّ على أن القُرْب هنا هو قرب العلم، وذلك أن الله ذكر علمه في أول آية سورة ق، وقرن قُرْبَه بعلمه ما تُوسوس به نفسُ الإنسان؛ ممَّا يدُلُّ على أن القُرْب المذكور في الآية قُرْبُ العلم [44].
ولا يُعَدُّ هذا تأويلًا مذمومًا؛ لأن "السياق دَلَّ عليه، وما دَلَّ عليه السياقُ هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع" [45]، وذلك أن الله ذكر "في كتابه في غير موضع أنه فوق العرش، مع ما قرَنه بهذه الآية من العلم دليلًا على أنه أراد قرب العلم؛ إذ مقتضى تلك الآيات يُنافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير والصريح يقضي على الظاهر ويُبيِّن معناه.
ويجوز باتفاق المسلمين أن تُفسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى، ويُصرَف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذورَ في ذلك عند أحد من أهل السنة.
وإن سُمِّي تأويلًا وصرفًا عن الظاهر، فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرًا له بالرأي، والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين" [46].
[1] مع الإشارة إلى أن كثيرًا من أهل العلم يذكرون في تفسير آية الواقعة أنها تحتمل المعنيين: قرب علم الله، أو قرب الملائكة.
[2] يُنظَر: مختصر الصواعق المرسلة للموصلي 3/ 1249.
[3] يُنظَر: تفسير الطبري 22/ 373 في كلامه على آية الواقعة.
[4] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 494، 502، بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 30، الفوائد؛ لابن القيم ص 12، مدارج السالكين؛ لابن القيم 2/ 220.
[5] يُنظَر: الروح ص 314، مختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1250.
[6] يُنظَر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 211.
[7] يُنظَر: شرح القواعد المثلى، ص 296.
[8] تفسير ابن كثير 7/ 398، 7/ 548.
[9] مجموع الفتاوى 5/ 493.
[10] يُنظر: مختصر الصواعق المرسلة؛ للموصلي 3/ 1251.
[11] مجموع الفتاوى 5/ 507، ويُنظَر: 5/ 512، بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 36.
[12] مدارج السالكين 2/ 220.
[13] أخرجه البخاري، كتاب: الرقاق، باب: مَنْ هَمَّ بحسنة أو بسيئة، رقم (6491) 8/ 103، وأخرجه مسلم، كتاب: الإيمان رقم (203)، ص70، ولفظ الحديث المذكور أقرب إلى لفظ مسلم.
[14] مجموع الفتاوى 5/ 507-508.
ويُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 37-39.
[15] مجموع الفتاوى 5/ 505-506، وبيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 33-35.
[16] الفوائد؛ لابن القيم، ص 12.
[17] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 504، 6/ 19، ومختصر الصواعق؛ للموصلي 3/ 1250.
[18] يُنظَر: المحرر الوجيز؛ لابن عطية 6/ 182، وفتح القدير؛ للشوكاني 7/ 29.
[19] مجموع الفتاوى 5/ 503.
[20] مجموع الفتاوى 5/ 504.
[21] مجموع الفتاوى 5/ 504.
[22] يُنظَر: الإبانة؛ لابن بطة، تتمة الرد على الجهمية رقم (118)، 1/ 161، سير أعلام النبلاء؛ للذهبي 11/ 370.
[23] يُنظَر: الإبانة؛ لابن بطة، تتمة الرد على الجهمية رقم (116)، 1/ 160، إبطال التأويلات؛ للفراء رقم (286)، 2/ 289، طبقات الحنابلة؛ لأبي يعلى 1/ 61، حادي الأرواح؛ لابن القيم 1/ 99.
[24] يُنظَر: نقض الدارمي على المريسي 1/ 448.
[25] يُنظَر: تفسير الطبري 21/ 422, 22/ 385.
[26] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 500.
[27] يُنظَر: التسهيل؛ لابن جزي 2/ 364.
[28] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 501، وبيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 27.
[29] يُنظَر: تفسير البغوي 1/ 204، 7/ 358، 8/ 25.
[30] يُنظَر: مجموع الفتاوى 4/ 253، 5/ 122، 5/ 227.
[31] يُنظَر: الفوائد، ص 12، ومدارج السالكين 2/ 220.
[32] يُنظَر: فتح القدير؛ للشوكاني 5/ 92، 199.
[33] يُنظَر: تفسير أضواء البيان؛ للشنقيطي 7/ 687.
[34] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 500.
[35] يُنظَر: بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 30.
[36] مجموع الفتاوى 5/ 502، بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 30.
[37] مجموع الفتاوى 5/ 505.
[38] تفسير السعدي، ص 384-385، 805.
[39] يُنظَر: تفسير السعدي، ص 836.
[40] يُنظَر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء 3/ 148، ومجلة البحوث الإسلامية 39/ 103، ووقَّع على هذه الفتوى المشايخ: ابن باز، وعبدالرزاق عفيفي، وابن قعود، وابن غديان.
[41] مجموع الفتاوى 5/ 129، 236.
[42] بيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 31.
[43] مدارج السالكين 2/ 221.
[44] يُنظَر: مجموع الفتاوى 5/ 501، 6/ 20، وبيان تلبيس الجهمية؛ لابن تيمية 6/ 27، ومدارج السالكين 2/ 220.
[45] مجموع الفتاوى 6/ 20.
[46] مجموع الفتاوى 6/ 21.