مقاصد النهي في البيوع المحرمة
د. جميل يوسف زريوا[*]
المطلب الخامس عشر
مقاصد النهي عن البيع وقت نداء الجمعة
قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[86].
لقد أفادت الآية السابقة النهي عن البيع وقت نداء الجمعة الذي يصعد بعده الإمام على المنبر, ويظهر من كلام العلماء أن المقصد من النهي هو دفع التشاغل عن حضور صلاة الجمعة.
قال الزمخشري: "أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، وإنما خص البيع من بينها, لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم, وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة, واتركوا تجارة الدنيا"[87].
ويقول ابن تيمية: "الأموال يكتسب بها المال لا ينهى عنها مطلقا؛ لكونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ بل ينهى منها عما يصد عن الواجب كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ )[88], وقال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)[89], وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[90], وقال تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ)[91], فما كان ملهيا وشاغلا عما أمر الله تعالى به من ذكره والصلاة له فهو منهي عنه؛ وإن لم يكن جنسه محرما: كالبيع؛ والعمل في التجارة وغير ذلك"[92], يقول ابن القيم: "الوجه السابع أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة الى التشاغل بالتجارة عن حضورها"[93].
المطلب السادس عشر
مقاصد النهي عن بيع السلاح وقت الفتنة
روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع السلاح في الفتنة"[94].
والمقصود من النهي عن بيع السلاح في وقت الفتنة, هو منع الإعانة على المعصية, يقول ابن القيم: "ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية, ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به, ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان, وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله, كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق وبيع الرقيق لمن يفسق به, أو يؤاجره لذلك أو إجارة داره لمن يقيم فيها سوق المعصية وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه"[95].
المطلب السابع عشر
مقاصد النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها
اتفق البخاري ومسلم على رواية أحاديث تدل على نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمار قبل بد صلاحها, ومن ذلك:
حديث ابن عمر م: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة, قال: يبدو صلاحه حمرته وصفرته"[96].
حديث جابر بن عبد الله م قال: "نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن تباع الثمرة حتى تشقح, فقيل ما تشقح ؟. قال تحمار وتصفار ويؤكل منها"[97].
حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع ثمر التمر حتى يزهو, فقلنا لأنس ما زهوها ؟. قال تحمر وتصفر أرأيت إن منع الله الثمرة, بم تستحل مال أخيك"[98].
لقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لمقاصد عدة, يمكن إجمالها فيما يأتي:
منع الظلم وأكل مال المشتري بغير حق.
دفع التشاحن والتشاجر بين الناس.
تعليم الناس الاحتياط في الأمور.
نفع البائع, فإذا تحمارّت وتصفارّت زادت قيمتها.
فالشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حرم بيع الثمار قبل بدو صلاحها, لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر ولما يؤدي إليه إن منع الله الثمرة من أكل مال أخيه بغير حق ظلما وعدوانا, ومعلوم قطعا أن هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدو الصلاح, فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة ولا في تخفيفها, ولا في زوال ذرة منها, فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه, فالحيلة إن لم تزده فسادا لم تزل فسادا" [99].
يقول ابن تيمية: وفي مسلم عن أنس رضي الله عنه : "أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس: ما زهوها ؟. قال: تحمر أو تصفر, أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك"[100], فهذا التعليل -سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه و سلم أو من كلام أنس- فيه بيان أن في ذلك أكلا للمال بالباطل, حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون[101].
قال الخطابي: "وكان نهيه البائع عن ذلك لأحد الوجهين:
أحدهما: احتياطا له بأن يدعها حتى يتبين صلاحها, فيزداد قيمتها ويكثر نفعه منها, وهو إذا يعجل ثمنها, لم يكن فيها طائل لقلته, فكان ذلك نوعا من إضاعة المال, والوجه الآخر: أن يكون ذلك مناصحة لأخيه المسلم, واحتياطا لمال المشتري, لئلا ينالها الآفة فيبور ماله, أو يطالبه برد الثمن من أجل الجائحة, فيكون بينهما في ذلك الشر والخلاف, وقد لا يطيب للبائع مال أخيه في الورع, إن كان لا قيمة له في الحال, إذ لا يقع له قيمة, فيصير كأنه نوع من أكل المال بالباطل, وأما نهيه للمشتري فمن أجل المخاطرة والتغرير بماله, لأنها ربما تلفت بأن تنالها العاهة فيذهب ماله, فنهى عن هذا البيع تحصينا للأموال ومنعا للتغرير"[102].
المطلب الثامن عشر
مقاصد النهي من تحريم النرد
ورد عند أبي داود من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله"[103].
والنرد فارسي معرب وهو عبارة عن لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين تعتمد على الخط, وتنقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفص, وتعرف عند العامة بلعبة الطاولة[104].
يقول ابن القيم: "ما فيه مفسدة راجحة على منفعته كالنرد والشطرنج فهذا يحرمه الشارع لا يبيحه, إذ مفسدته راجحة على مصلحته وهي من جنس مفسدة السكر, ولهذا قرن الله سبحانه وتعالى بين الخمر والقمار في الحكم وجعلهما فريني الأنصاب والأزلام, وأخبر أنها كلها رجس, وأنها من عمل الشيطان وأمر باجتنابها, وعلق الفلاح باجتنابها وأخبر أنها تصد عن ذكره وعن الصلاة وتهدد من لم ينته عنها, ومعلوم أن شارب الخمر إذا سكر كان ذلك مما يصده عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء بسببه, وكذلك المغالبات التي تلهي بلا منفعة كالنرد والشطرنج وأمثالهما مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة لشدة التهاء النفس بها, واشتغال القلب فيها أبدا بالفكر"[105].
المطلب التاسع عشر
مقاصد النهي عن بيع السلعة قبل أن تنقل من مكانها
وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم تمنع من بيع السلعة قبل نقلها من مكانها, ومنها:
حديث ابن عباس م: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"[106].
حديث أبى هريرة أنه قال لمروان أحللت بيع الربا, فقال مروان ما فعلت, فقال أبو هريرة أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام حتى يستوفى, قال فخطب مروان الناس فنهى عن بيعها, قال سليمان فنظرت إلى حرس يأخذونها من أيدي الناس[107].
حديث جابر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه"[108].
حديث ابن عمر م قال: "ابتعت زيتا في السوق, فلما استوجبته لنفسي لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا, فأردت أن أضرب على يده فأخذ رجل من خلفي بذراعي, فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك, فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم"[109].
لقد نهى الشارع عن بيع السلع قبل أن تنقل من مكانها, لمقاصد يمكن إجمالها فيما يأتي:
منع إحداث البغضاء والعداوة بين الناس.
دفع حصول الشقاق بينهم.
دفع المخاطرة والغرر.
قال ابن القيم: "فالمأخذ الصحيح في المسألة: أن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء, وعدم انقطاع علاقة البائع عنه, فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه, ويغره الربح وتضيق عينه منه, وربما أفضى إلى التحيل على الفسخ ولو ظلما, وإلى الخصام والمعاداة, والواقع شاهد بهذا, فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة: منع المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه, وينقطع عن البائع, وينفطم عنه فلا يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض وهذا من المصالح التي لا يهملها الشارع, حتى إن من لا خبرة له من التجار بالشرع يتحرى ذلك ويقصده, لما في ظنه من المصلحة, وسد باب المفسدة"[110].
المطلب العشرون
مقاصد النهي عن الاحتكار
ورد عند مسلم كان سعيد بن المسيب يحدث أن معمرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من احتكر فهو خاطئ"[111].
يقول الجويني: "المحتكر هو الذي يحبس للناس الطعام حتى تزداد الأسعار غلاة وارتفاعا"[112], ويظهر من كلام الأئمة أن الشارع منع الاحتكار, لمقاصد يمكن إجمالها فيما يأتي:
دفع التضييق عن الناس.
منع إضرار المحتاجين.
يقول إمام الحرمين: "قال الأصحاب: المحتكر الذي يلحقه اللعن والوعيد صاحب مال, المشتري الطعام, ويحبسه ولا يتركه حتى يشتريه المساكن والضعفاء, فأما من يشتري الطعام في وقت الرخص وكساد الأسواق, ويحبسه ليبعه إذا غلا فلا بأس, فإن أصل احتكاره وتربصه كان في رخاء الأسعار حيث لا ضرر, وربما يكون ما ادخره قائما مقام الدخر للناس, ولولا ادخاره لكان يضيع ويتفرق"[113].
قال ابن القيم: "فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام, فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم هو ظالم لعموم النهي, ولهذا كان لولي الأمر أن يكره ذريعة المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه"[114], فالاحتكار ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم, ولهذا لا يمنع من احتكار مالا يضر الناس"[115].
المطلب الحادي والعشرون
مقاصد النهي عن بيع العينة
المقصود بالعينة: "أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه معجلا بأقل من ذلك[116].
ورد عند أبي داود من حديث ابن عمر م, أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا, لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"[117].
وروى عبد الرزاق عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة, فسألتها امرأة فقالت يا أم المؤمنين: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل ثم اشتريتها منه بست مئة فنقدته الست مئة, وكتبت عليه ثمان مئة فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت, وبئس والله ما اشترى, أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب, فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل, قالت: (فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ)[118] الآية, أو قالت (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)[119] الآية[120].
لقد حرم الشارع هذا النوع من البيع, لأنه ذريعة إلى الربا, وفيما يلي من كلام الأئمة ما يثبت ذلك:
يقول ابن تيمية: "والغرض هنا أن الذرائع حرمها الشارع وإن لم يقصد بها المحرم خشية إفضائها إلى المحرم, فإذا قصد بالشيء نفس المحرم كان أولى بالتحريم من الذرائع, وبهذا التحرير يظهر علة التحريم في مسائل العينة وأمثالها وإن لم يقصد البائع الربا; لأن هذه المعاملة يغلب فيها قصد الربا, فيصير ذريعة فيسد هذا الباب لئلا يتخذه الناس ذريعة إلى الربا ويقول القائل لم أقصد به ذلك, ولئلا يدعو الإنسان فعله مرة إلى أن يقصد مرة أخرى, ولئلا يعتقد أن جنس هذه المعاملة حلال ولا يميز بين القصد وعدمه, ولئلا يفعلها الإنسان مع قصد خفي يخفى من نفسه على نفسه, وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر, لعلم الشارع ما جلبت عليه النفوس, وبما يخفى على الناس من خفي هداها, الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة, فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات, أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه, فاستباحه بهذا التأويل فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه, وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة[121].
وقال ابن القيم: "فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا, فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل, فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة"[122].
المطلب الثاني والعشرون
مقاصد النهي عن سلف وبيع
قال الخطابي: "والمقصود به: أن يقول له أبيعك هذا العبد بخمسين دينارا, على أن تسلفني ألف درهم في متاع أبيعه منك إلى أجل, أو يقول أبيعك بكذا على أن تقرضني ألف درهم"[123].
لقد منع الشارع البيع مع السلف في صفقة واحدة, لمقاصد نجملها فيما يأتي:
وجود الجهالة في الثمن.
كون ذلك ذريعة إلى الربا.
قال الشافعي :: "نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع وسلف, وذلك أن من سنته صلى الله عليه و سلم أن تكون الأثمان معلومة, والبيع معلوما, فلما كنت إذا اشتريت منك دارا بمائة على أن أسلفك مائة كنت لم أشترها بمائة مفردة, ولا بمائتين, والمائة السلف عارية له، بها منفعة مجهولة, وصار الثمن غير معلوم"[124].
وقال ابن القيم: "النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع, ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح, وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة, ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق"[125].
المطلب الثالث والعشرون
مقاصد النهي عن المزابنة
عن ابن عمر م قال: نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا, وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا, أو كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام ونهى عن ذلك كله"[126].
لقد نهى الشارع عن بيع المزابنة لمصالح عدة, يمكن إجمالها فيما يأتي:
دفع الغرر والمخاطرة عن الناس.
منع وسائل الربا, فالجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
قال ابن عبد البر: "أما مالك : فمذهبه في المزابنة أنها بيع كل مجهول بمعلوم من صنف ذلك كائنا ما كان, سواء كان مما يجوز فيه التفاضل أم لا, لأن ذلك يصير إلى باب المخاطرة والقمار, وذلك داخل عنده في معنى المزابنة"[127].
وقال ابن تيمية: "فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة وهي بيع الرطب بالتمر؛ لما في ذلك من بيع الربوي بجنسه مجازفة -وباب الربا أشد من باب الميسر"[128].
المطلب الرابع والعشرون
مقاصد النهي عن النجش
المقصود بالنجش هو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها[129], وقد جاء النهي عنه في الصحيحين من حديث نافع عن ابن عمر م أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن النجش"[130].
يقول ابن تيمية: وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النجش, وذلك لما فيه من الغرر للمشتري وخديعته[131], فالنجش منهي عنه لكونه يتضمن تغرير المشتري بسعر لا يوافق سعر السوق, فيتضرر لذلك.
الخاتمة:
يتلخص مما سبق أن البيوع المحرمة يرجع مقاصد النهي عنها إلى أربعة أمور:
ما نهي عنه لكونه من وسائل الشرك, فقد نهي عن بيع الأصنام حفظا لجناب التوحيد.
ما نهي عنه لكونه يتضمن ضررا للبائع أو المشتري كما في بيع الثمار قبل بدو صلاحها, وتلقي الركبان.
ما نهي عنه لما تضمنه من غرر ومخاطرة, كما في بيع الملامسة والمنابذة, وبيع حبل الحبلة.
ما نهي عنه لكونه من وسائل الربا وأكل أموال الناس بالباطل, فقد نهي عن بيع العينة والمزابنة, لما يؤديان إليه من الربا.
وهذا كله يدل على حسن الشريعة ومراعاتها لمصالح للعباد, ودرءها لما يضرهم, والشريعة كلها محاسن، وجلب للمصالح ودرء للمفاسد، فقد أمر الله بالصلاح والإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يُصلح عمل المفسدين، فيُسْتدل بذلك على أن كل أمر فيه صلاح للعباد في أمر دينهم ودنياهم، وكل أمر يعين على ذلك فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فساد وضرر وشر، فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه، وأنه يجب تحصيل كل ما يعود إلى الصلاح والإصلاح، بحسب استطاعة العبد.
فكل ساعٍ في مصلحةٍ دينيةٍ أو دنيويةٍ فإنه مصلحٌ، والله يهديه ويرشده ويسدده، وكل ساعٍ بضدِّ ذلك فهو مفسدٌ، والله لا يصلح عمل المفسدين[132].
هوامش البحث:
[*] قسم أصول الفقه, بكلية الشريعة, الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, المملكة العربية السعودية.
[1] انظر: البيع أركانه وشروطه لمحمد خيري الحلواني ص: 2.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية ص: 251.
[3] مقاصد الشريعة ومكارمها (ص/7).
[4] مقاصد الشريعة الإسلامية لليوبي ص:38.
[5] استنتج هذا التعريف وجمعه من كلام ابن تيمية. انظر: مقاصد الشريعة عند ابن تيمية ص: 54.
[6] انظر: مقاصد الشريعة عند ابن تيمية ص: 48 وما بعدها.
[7] انظر: علم المقاصد الشرعية للخادمي ص:51.
[8] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص: 183.
[9] انظر: علم مقاصد الشارع للربيعة ص:37.
[10] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص: 183.
[11] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص: 183, نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية, أم نائل بركاني, ص: 176.
[12] انظر: علم المقاصد الشرعية للخادمي ص:51.
[13] انظر: نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية, أم نائل بركاني, ص: 175.
[14] انظر: علم مقاصد الشارع للربيعة ص:38.
[15] انظر: نظرية الوسائل في الشريعة الإسلامية, أم نائل بركاني, ص: 176, علم المقاصد الشرعية للخادمي ص:51.
[16] انظر: علم مقاصد الشارع للربيعة ص:37.
[17] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص: 183.
[18] انظر: الموافقات 2/570.
[19] انظر: علم مقاصد الشارع للربيعة ص:38.
[20] انظر: علم مقاصد الشارع للربيعة ص:38.
[21] انظر شرح فتح القدير 6/489 والسراج الوهاج 1/172, والفقه الإسلامي وأدلته 4/652.
[22] انظر: تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ص: 31.
[23] أخرجه أبو داود في سننه, حديث رقم: 3503, وقال الألباني صحيح.
[24] أخرجه الترمذي في سننه, حديث رقم: 1234, وقال: قال أبو عيسى وهذا حديث حسن صحيح.
[25] انظر زاد المعاد ص: 5/718 والقبس شرح الموطأ 2/792.