من آثار الإيمان باسم الله تعالى: الغفور (2)
ناصر عبدالغفور
7- مداومة الاستغفار:
لا يسلم العبد من الذنوب، والمعصوم مَنْ عصمَه الله تعالى؛ لذا فعليه ملازمة الاستغفار؛ فهو الإكسير للذنوب، والممحاة للخطايا؛ يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110] [1]، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا بن آدم، لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض كلامه عن مزيلات آثار المنهيات، وما يكرهه الله سبحانه من السيئات: "وقد يزيلها سبحانه بالعفو والتجاوز، وتزول بالتوبة والاستغفار والأعمال الصالحة والمصائب المكفِّرة والشفاعة، والحسنات يذهبن السيئات، ولو بلغت ذنوب العبد عنان السماء، ثم استغفره غفر له، ولو لقيه بقراب الأرض خطايا، ثم لقيه لا يشرك به شيئًا، لأتاه بقرابها مغفرة، وهو سبحانه يغفر الذنوب وإن تعاظمت، ولا يبالي فيبطلها ويبطل آثارها بأدنى سعي من العبد، وتوبة نصوح، وندم على ما فعل، وما ذاك إلا لوجود ما يحبُّه من توبة العبد وطاعته وتوحيده، فدلَّ على أن وجود ذلك أحبُّ إليه وأرضى له"[2].
فالعبد خُلِق ضعيفًا [3] مخطئًا مذنبًا، وذلك من حكمة الله جل جلاله؛ ليظل هذا العبد مفتقرًا مطروحًا بين يدي مولاه، سائلًا إيَّاه العفوَ والصفحَ والمغفرةَ، ولو خُلِق معصومًا، لتعطَّلت كثيرٌ من صفات البارئ سبحانه؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم))؛ رواه مسلم.
فالله تعالى ذكره "إذا كان يحب أمورًا وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها، كان وجود تلك الأمور مستلزمًا للوازمها التي لا توجد بدونها؛ مثاله: محبَّته للعفو والمغفرة والتوبة، وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه، ويغفره، ويتوب إليه العبد منه، ووجود الملزوم بدون لازمه محال، فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يتاب منه، ويغفره ويعفو عن صاحبه؛ ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم)) [4]، "ويذكر عن بعض العباد: أنه كان يسأل ربَّه في طوافه بالبيت أن يعصمه، ثم غلبته عيناه، فنام فسمع قائلًا يقول: أنت تسألني العصمة وكل عبادي يسألونني العصمة، فإذا عصمتهم فعلى مَنْ أتفضَّل وأجود بمغفرتي وعفوي، وعلى من أتوب؟! وأين كرمي؟! وعفوي ومغفرتي وفضلي...)) [5].
ومن الأحاديث الواردة في فضل الاستغفار: حديث أبي سعيد رضي الله عنه يرفعه: ((إن الشيطان قال: وعزَّتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني" [6].
ولا ننسى سيد الاستغفار كما سمَّاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربِّي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومَنْ قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة))؛ رواه البخاري.
8- وقفة مع حديث في فضل الاستغفار:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: رب، أذنبت فاغفره، فقال ربه: أعَلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، فقال: رب، أذنبتُ ذنبًا، فاغفره، فقال ربُّه: أعَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، قال: رب، أذنبتُ ذنبًا آخر، فاغفر لي، فقال: أعلِمَ عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء))؛ متفق عليه.
"قال ابن بطال في هذا الحديث: إن المصِرَّ على المعصية في مشيئة الله تعالى، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، مغلبًا الحسنة التي جاء بها؛ وهي اعتقاده: أن له ربًّا خالقًا يُعذِّبه ويغفر له، واستغفاره إيَّاه على ذلك يدل عليه قوله: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"، ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل: إن استغفاره ربَّه توبة منه، قلنا: ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصِرُّ والتائب، ولا دليل في الحديث على أنه تائب ممَّا سأل الغفران عنه؛ لأن حدَّ التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم ألَّا يعود إليه، والإقلاع عنه، والاستغفار بمجرده لا يفهم منه ذلك؛ انتهى.
وقال القرطبي في المفهم: يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه؛ لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنًا للِّسان لينحل به عقد الإصرار، ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث ((خياركم كل مُفتَّن توَّاب)) [7]، ومعناه الذي يتكرَّر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة؛ لا من قال: استغفر الله بلسانه، وقلبُه مُصِرٌّ على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى الاستغفار.
قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة؛ لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه.
وقال النووي: في الحديث أن الذنوب ولو تكرَّرت مائة مرة؛ بل ألفًا وأكثر، وتاب في كل مرة قُبِلَتْ توبتُه، أو تاب عن الجميع توبةً واحدةً صحَّتْ توبتُه.
وقوله: ((اعمل ما شئت))؛ معناه: ما دمت تُذنِب، فتتوب غفرت لك" [8].
9- تنوُّع أسباب المغفرة وكثرتها:
من رحمة الله تعالى أنه لم يُعلِّق مغفرته لذنوب عباده ونجاتهم من عذابه بتوبتهم واستغفارهم فقط؛ بل جعل لذلك أسبابًا عدة، دلَّت عليها نصوص القرآن والسنة بالاستقراء، وقد ذكر الإمام ابن أبو العز الحنفي رحمه الله تعالى في شرحه للطحاوية أحد عشر سببًا لمغفرة الذنوب، رأيت أن أنقلها [9] لمسيس الحاجة إلى معرفتها والعلم بها:
"السبب الأول: التوبة؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ ﴾ [الفرقان: 70] ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ [النساء: 146]، وكون التوبة سببًا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأُمَّة، وليس شيء يكون سببًا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وهذا لمن تاب؛ ولهذا قال: ﴿ لَا تَقْنَطُوا ﴾، وقال بعدها: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ [الزمر: 54].
السبب الثاني: الاستغفار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]؛ لكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمَّن الاستغفار، والاستغفار يتضمَّن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مُسمَّى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شرِّ ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
السبب الثالث: الحسنات [10]: فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) [11].
السبب الرابع: المصائب الدنيوية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلَّا كفَّر بها من خطاياه))؛ متفق عليه، وفي المسند: "أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123]، قال أبو بكر: يا رسول الله، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا؟! فقال: ((يا أبا بكر، ألست تنصَب؟ ألست تحزَن؟ ألست يصيبك اللَّأواءُ؟ فذلك ما تُجزون به)) [12]، فالمصائب نفسها مُكفِّرة، وبالصبر عليها يُثاب العبد، وبالتسخُّط يأثم، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة مَنْ فعل الله لا مَنْ فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويُكفَّر ذنبه بها؛ وإنما يُثاب المرء، ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد؛ بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب؛ قال تعالى: ﴿ وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40].
يتبع