رد: سبعة فروق جوهرية بين النصرانية والإسلام
سبعة فروق جوهرية بين النصرانية والإسلام
د. أحمد إبراهيم خضر
يقول محمد قطب في كتابه "العلمانيون والإسلام": "إنَّ فكرة الإله الواحد الذي أصبَح ثلاثة، والثلاثة الذين هم في ذات الوقت واحد، والعَشاء الربَّاني الذي تتحوَّل فيه كِسْرة الخبز إلى جَسَد المسيح، وجُرْعة الخمر التي تُغمس فيها كِسرةُ الخبز إلى دم المسيح، وتتجدَّد الصلة بيْن العبد والربِّ حين يأكُلُ الإنسان جسدَ المسيح ويشرب دمَه، وكرسي الاعتراف الذي يَصعَد منه غفرانُ الكاهن للذنوب إلى الربِّ فيعتمده في عليائه، وصك الغُفران الذي يكتُبه الكاهن في الأرْضِ فيدخل به الإنسان الجَنَّةَ في الآخرة بغير حساب، إلى عشراتٍ مِن أمثال تلك الأسرار هي في حقيقتها أساطيرُ، كلها أمور لا يستطيع العقلُ أن يدركها".
ورغم ذلك يُوضَع سِرُّها في عقل كاهن لا يُشترط إيمانُه أو صلاحه، وكيف يُعتبر هذا الكاهن وكيلاً عن الله وأمينًا على سرِّه، ولا يُشترط إيمانُه وصلاحُه؟!
والإسلام على عكس ذلك، ليس فيه أسْرارٌ مُقدَّسة يحتفظ بها فريقٌ من الناس دون غيرهم، إنَّه دينٌ تأتلف عقائدُه بالعقل، وتستند إلى المعقولات، والمستحيل عندَ العقل مستحيلٌ في الإسلام؛ ولهذا يمكن القول: إنَّ كون استناد النصرانية إلى العاطفة، وكون أنَّه ليس لها مستندٌ من العقل ولا تأتلف معه، لا يلزم مِن عدم معقوليتها أن يكونَ كلُّ دِين كذلك؛ (تابع مصطفى صبري، (2/38 - 39).
بل يلزم مِن عدم توافقِ النصرانية مع العقل بطلانُها من الأصل، وأنَّ كل مَن تدين بها فهو مخدوعٌ أو مخادع؛ لأنَّ كلَّ مَن سلك طريقًا مناقضًا للعقل فهو مخدوعٌ أو مخادع، بلا خلاف بيْن أهل الأرض.
رابعًا: فارق ارتباط العقيدة بالشريعة:
مِن المعروف أنَّ العقيدة في النصرانية منفصِلة عنِ الشريعة، وذلك على عكسِ الإسلام الذي ترتبط فيه العقيدةُ بالشريعة ارتباطًا لا يَنفصِم، ولم يحدُثْ أن حكَمت الشريعة شيئًا من حياة النصارى إلا في الأحوالِ الشخصية، بمعنى أنَّها لم تُحَكَّم لا في الأحوال السياسيَّة، ولا في الأحوال الاقتصاديَّة، ولا في الأحوال الاجتماعيَّة في جملتها، والشريعة عند النصارى هي مجرَّد مواعظَ خُلُقية ورُوحيَّة، مَن شاء أن يتقيَّد بها تقيَّد، ومَن شاء أن يتفلَّتَ منها فلا سلطانَ لأحد عليه في الأرْض.
والدليل على ذلك: أنَّك لو سألتَ أولئك الخارجين من سماع الموعظة يومَ الأحد عن رأيهم الدِّيني في التعاملات الاقتصاديَّة الرِّبويَّة التي تقوم عليها حياتُهم، فلن تجدَ عندهم من يُحَرِّمها أو يستنكرها، بل يقولون: إنَّها مسألة اقتصادية، ولا علاقةَ للدِّين بالاقتصاد، ولو سألتَ أحدًا منهم: ما رأيك في كذِب الساسة بعضهم على بعض في السياسة الدوليَّة، وعلى شعوبهم في السياسة الداخلية؟ وما رأيك في الالتزام الحِزبي الذي يُلزِم صاحبَه بالمعارضة أو التأييد حسبَ وضْع حزبه من السُّلطة؟ وما رأيك فيما تَكتُبه الصحافةُ السياسيةُ بقصد التشويش على الحقائق، لا بقصد إظهار الحق؟ سيقول على الفور: هذه مسائلُ سياسية، ولا دخل للدِّين بالسياسة.
ولو سألتَ الفتاةَ وصديقَها الخارجَيْن من الصلاة: ما قولكما في العلاقة القائمة بينكما؟ أليس الدِّين يُحَرِّمها؟ سيقولان: إنَّ الدين مسألةٌ اعتقادية، ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعيَّة، هذا إن لم يقولا - كما يقول الكثيرون والكثيرات -: إنَّ الجِنس مسألةٌ بيولوجية بحْتة، لا علاقة لها بالدِّين، ولا علاقة لها بالأخلاق.
ويختلف الأمرُ في الإسلام اختلافًا بَيِّنًا، فالعقيدة فيه غيرُ منفصلة عن الشريعة، ويرى المسلمون أنَّ الالتزام بالشريعة - في دين الله الحق - هو مقتضَى العقيدة ذاتها، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، بحيث لا تكون الشهادةُ صحيحةً وقائمة إن لم تُؤدِّ عند صاحبها هذا المعنى، وهو الالتزام بما جاءَ مِن عند الله، والتحاكُم إلى شريعة الله، ورفْض التحاكُمِ إلى أيِّ شريعة سوى شريعة الله؛ يقول تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
يقول المفكِّرون الإسلاميُّون: "يُلزِم الإسلام المسلمَ بأن يتحرَّى حُكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة مِن شؤون حياته، ولا يُقدِم على عمل حتى يستيقنَ مِن حُكم الإسلام فيه، فما أقرَّه الإسلام كان هو دستورَه وقانونه، وما لم يُقرَّه كان ممنوعًا وحرامًا عليه... ولا يجتمع في قلْب مسلمٍ الخوفُ من الآخرة والحياء مِن الله مع الاعتراض على تحكيمِ كتاب الله في كلِّ شيء مِن شؤون الحياة، أو القول بأنَّ حياة الناس دُنيا لا دِين، وأنَّه لا ضرورةَ لإقحام الدِّين في حياة الناس العَملية، وارتباطاتهم الاقتصادية، والاجتماعية، والعائلية أيضًا... ومِن طبيعة الإسلام ألاَّ تنفصلَ فيه الشعائرُ التعبُّديَّة عنِ المشاعر القوميَّة عن التشريعات التنظيميَّة، ولا يستقيم إلاَّ بأن يشملَ أمورَ الدِّين وأمور الدنيا، وشؤون القلْب وشؤون العلاقات الاجتماعية الدولية، وإلاَّ أنْ يُشرِف على الحياة كلها، فيصرفها وَفقَ تصوُّر واحد متكامِل، ومنهج واحد متناسِق، ونِظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظامُ الخاص الذي يقوم على شريعةِ الله في كافَّة الشؤون".
لم يَفهمْ "القس مايكل" مِن ارتباط عقيدةِ الإسلام بشريعته إلا الارتباط بيْن الإسلام والسياسة فقط، متأثِّرًا بما يُعرف اليوم بـ"الإسلام السياسي"، وصاغ ذلك بقوله: "يجب ألاَّ ينخدعَ الناس في القوْل بأنَّ الإسلام هو دِينُ السلام، فنحْن نُحذِّر، إنَّ الإسلام عملةٌ ذات وجهين: دِين في وجْه، ونِظام سياسي في الوجهِ الآخَر، وجهان لا ينفصلان".
خامسًا: فارق موقِف النصرانية والإسلام من الحياة الدنيا وإعمار الأرْض:
الدِّين الذي قدَّمتْه الكنيسة للنصارى على أنَّه الدِّين الإلهي دِينٌ لا يقيم وزنًا للحياة الدُّنيا، بل يحتقرها ويَزدريها، ويدعو إلى إهمالها وعدمِ الالتفات إليها في سبيلِ الحصول على (الخلاص).
وخلاص الرُّوح هذا لا يمكن الوصولُ إليه إلا بالتجرُّدِ مِن متاع الأرض، والاستعلاء على مطالبِ الجسد، والتطلُّع إلى ملكوت الربِّ الذي يتحقَّق في الآخرة، ولا سبيلَ إلى تحقيقه في الحياة الدنيا، ومِن هنا فإنَّ هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعَى إلى تحسينِ أحوال البشَر على الأرض، أو إزالة المظالِم السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تقع عليهم، وإنَّما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برُمَّتها، وترك كلِّ شيء على ما هو عليه؛ لأنَّ فترة الحياة الدُّنيا أقصرُ وأضأل وزنًا مِن أن يحاول الإنسانُ تعديلَ أوضاعه فيها، إنما يسعى جاهدًا إلى الخلاص منها دون أن يَعْلَق برُوحه شيءٌ من الآثام، والمتاع ذاته هو مِن الآثام التي يحاول المتطهِّرون النجاةَ منها بالرهبنة، واعتزال الحياة، بل أكثر مِن ذلك: إنَّ احتمال المشقَّة في الحياة الدنيا، واحتمال ما يقع فيها مِن المظالِم هو لونٌ مِن ألوان التقرُّبِ إلى الله الذي يُساعِد على الخلاص.
تحصُر النصرانية كيانَ الإنسان إذًا في نِطاق محدود محصور أشد الحصْر؛ ليبرزَ جانب الأُلوهية في أكملِ صورة، وألوهية الله في ذلك الدِّين معناها السلبية الكامِلة للإنسان، وحصْر دوره لا في العبادة بمعناها الواسع؛ أي: على النحو الذي قرَّره الإسلام، والذي يشمل عمارة الأرْض بمقتضى المنهج الإلهي، إنَّما في الخضوع لقدَرِ الله القائم، وعدم العملِ على تغيير شيءٍ مِن الواقع المحيط بالإنسان؛ لأنَّ محاولة التغيير في النصرانية - ولو إلى الأحسن - تحمل في طيَّاتها (عدمَ الرِّضا) بالأمر الواقع، وهو نوعٌ من التمرُّد على إرادةِ الله، الذي لا يُقرُّه ذلك الدِّين.
والإسلام على العكس مِن ذلك، دِينٌ يُقدِّم المنهجَ الصحيح للحياة، فلا هو دينٌ أُخروي بحْت؛ بمعنى: إهمال الحياة الدنيا، ولا هو الدِّينُ الذي يفرِض السلبيةَ الكاملة على الإنسان، ويَفرض عليه الخضوعَ للأمر الواقع، وعدم التفكير في تغييره، إنَّه دينٌ يعمل للآخرة مِن خلال العمل في الدنيا، ويُبيِّن أنَّ العمل للآخرة لا يَعني إهمالَ الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32].
وهو دينٌ يعمل لإصلاحِ الحياة الدنيا بإقامةِ المنهج الإلهي الذي يأمرُ بالعدل والقِسط، كما يدعو إلى الجهادِ لإقامة هذا المنهجِ ومنْع الانحراف عنه، ذلك الانحراف الذي يُؤدِّي إلى فسادِ الحياة وإلى وقوعِ الظُّلم على الناس؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
سادسًا: فارق موقف النصرانية والإسلام من العلم:
يقول الكاتب النصراني (فرح أنطون): "إنَّ الإيمان على الأكثر يكون أقوى مِنَ العلم"، أما علماء الإسلام فيقولون: "إنَّ الإيمان غير المستند إلى العِلم؛ أي: الدليل، عرضةٌ للتزلزُل بتشكيك مشكِّك"؛ (تابع مصطفى صبري، 2/24).
ومِن المعروف في تاريخ النصرانية، أنَّ هناك صراعًا بين الدِّين والعلم، وأنَّ هذا الصِّراع قد بدأ حين هاجمتِ الكنيسةُ العلماءَ الذين قالوا بكروية الأرض، وهدَّدتْهم بالحرْق أحياءً في الأفران، وما كان على الكنيسة أن تَقِف هذا الموقفَ مِن أمور عِلمية بحتة، يُخطئ العلماء فيها أو يُصيبون، ولكنَّها تظلُّ في دائرة العِلم لا يتدخَّل فيها رجالُ الدين.
أمَّا العلاقة بين الدِّين والعلم في الإسلام، فقدْ حدَّدها "محمد قطب" على النحو التالي:
1- أنَّ الدِّين الصحيح لم يُحرِّم البحثَ العلمي، وإنما لفَتَ النظر إلى آياتِ الله في الكون، وقال لهم: تَفكَّروا فيها وتدبَّروا؛ لتعرِفوا قدرةَ الخالق العظيم، دون أن يُقيِّدهم بنظرية معينة في تفسيرِ ظواهر الكون، بل ترَك ذلك للعقل البشري يحاول فيه بقدْرِ ما يُطيق.
2- أنَّ الفِطرة السوية لا تفصِل بيْن الدين والعِلم؛ لأنَّ كلاًّ منهما نزعةٌ فِطرية سويَّة لازمة للكيان البشري، ولازمة لمهمَّة الخِلافة التي وُجِد الإنسان من أجلها في الأرض، فالإنسان عابدٌ بطبعه، راغبٌ في المعرفة بطبعه، ولا تَعارُضَ في الفطرة السوية بيْن نزعة العبادة ونزعة المعرفة، ولا بيْن الإيمان بالغيب والإيمان بما تُدرِكه الحواس.
3- أنَّ العلم ذاته جزءٌ مِن العبادة المطلوبة من الإنسان، يستوي في ذلك العِلم بأمور الدنيا، والعِلم بأمور الدِّين، فإنَّ عمارةَ الأرض بالمنهج الإلهي تحتاج إلى ذلك العِلم، وذاك: العلم الدُّنيوي مِن أجل عمارة الأرْض، والعلم الدِّيني لجعْل هذه العمارة مستقيمةً على المنهج الإلهي؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
الخلاصة هنا هي: "أنَّ الإيمان في النصرانية يفترِق عن العقل وعن العلم المبني على العقلِ المحض، وعن العِلم المبني على العقلِ مع المشاهدة، أمَّا في الإسلام فالإيمانُ يجامع كلَّ ذلك، حتى العلم المبني على المشاهدة، ولا يُخالِف العلم بجميعِ أنواعه، ولا يحتاج إلى هدْم العلم، وإنكار المحسوساتِ لتثبيت نفسِه"؛ (تابع، مصطفى صبري، 2/23).
سابعًا: فارق الواقع التاريخي بين النصرانية والإسلام:
مِن المعروف أنَّ لدَى المسلمين واقعًا تاريخيًّا طُبِّق فيه الدِّين بتمامه، فكان أفضلَ ما عرفتْه البشرية في تاريخها كلِّه، ذلك عصر النبوَّة والخِلافة الراشدة، ثم جاء واقع تاريخي امتدَّ بعدَه عِدَّة قرون، وقعَت فيه انحرافاتٌ وتجاوزات، ولكن بقِيَ فيه من حقيقة الدِّين ما أنشأ حضارةً مميَّزة، وحركةً عِلمية فائقة، وتمكنَّا في الأرض في جميعِ المجالات: السياسيَّة والحربيَّة، والعلمية والفكرية، والخُلقيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ملأ سمعَ الدنيا وبصرَها، ووعاه التاريخ، وعند أوربا في مقابلِ ذلك - باعترافهم - ظُلماتُ القرون الوُسطَى المظلِمة، المرتبطة في حسِّهم بسيطرة رجال الدِّين النصارى، وطغيانهم الرُّوحي والمالي والسياسي، والفكري والعلمي، وفي جميعِ الميادين؛ (تابع محمد قطب، هلم نخرج من ظلمات التيه).
هذه سبعةٌ فقط مِن الفروق التي تجاهلها القس "مايكل يوسف" عندَ مقارنته النصرانيةَ بالإسلام، والتي مِن شأنها أن تُعطي تصوُّرًا أكثرَ وضوحًا، وأكثر عمقًا للفروق بيْن الديانتَيْن.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 07-01-2025 الساعة 10:15 AM.
|