حكم شهادة القاذف (2-2)
فضل ربي ممتاز زادة
المسألة الرابعة: حكم شهادة القاذف قبل حده :
للقاذف قبل أن يحد بسبب قذفه من حيث قبول شهادته وعدمه حالتان:
الأولى: أن يتوب قبل إقامة الحد عليه . الثانية: أن لا يتوب ولم يكن الحد قد أقيم عليه .
أما الحالة الأولى، فلا خلاف بين العلماء في قبول شهادته .
لأن المالكية والشافعية والحنابلة قد صرحوا بقبول شهادته في هذه الحالة[1].
وهو مذهب الحنفية كذلك، لأنهم يرون قبول شهادته في هذه الحالة ولو لم يتب، كما سيأتي بيان ذلك، فلأن يقبلوا شهادته بعد توبته من باب أولى[2].
وأما الحالة الثانية: فقد اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: لا تقبل شهادته، وإلى هذا ذهب بعض المالكية، والشافعية والحنابلة والليث بن سعد[3].
القول الثاني: تقبل شهادته ، وإلى هذا ذهبت الحنفية والمالكية[4].
الأدلة:
استدل القائلون بعدم قبول شهادته بما يلي:
1/ قول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون}[5].
وجه الاستدلال: أن الآية الكريمة قد علقت على القذف ثلاثة أحكام: الجلد، والفسق، ورد الشهادة، فلما تعلق الجلد بالقذف وجب أن يكون ما ضم إليه وقرن به متعلقاً بالقذف[6].
2/ أن إقامة الحد تطهير وتكفير لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحدود كفارات لأهلها"، فلم يجز أن يكون تكفير ذنبه موجباً لتغليظ حكمه[7].
3/ ولأن القذف هو المعصية، والذنب الذي يستحق به العقوبة، وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهادة، والحد كفارة وتطهير، فلا يجوز رد الشهادة به، وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف، فيثبتان جميعاً به، فتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر[8].
4/ ولأنه لما فسق بالسرقة دون القطع، وبالزنا دون الحد، وجب أن يكون القذف بمثابتهما، لأن الحدود موضوعة لاستيفاء الحقوق[9].
5/ ولأن فسقه ورد شهادته إنما يتعلق بفعله لا بفعل غيره، والقذف من فعله، والجلد من فعل غيره ، فيجب أن يتعلق بالقذف دون الجلد[10].
واستدل القائلون بقبول شهادة القاذف بما يلي:
1/ قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا}[11].
وجه الاستدلال من وجهين :
الأول: أن (ثم) تأتي للتراخي، فمعنى قوله تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} أن القاذف يلحقه الأحكام المرتبة على ذلك إذا عجز عن الإتيان بأربعة شهداء على قذفه ، إذ أن تقدير الآية هو: "ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون" وإنما حكم بفسقه متراخياً عن حال القذف، في حال العجز عن إقامة الشهود، ومن حكم بفسقه بنفس القذف فقد خالف حكم الآية[12].
الثاني: أن الآية قد علقت رد شهادة القاذف وسائر الأحكام المتضمنة لها على شرطين: القذف، وعدم إتيان أربعة شهداء، فلا تبطل شهادة القاذف إلا بتحققهما معاً، فما دامت إقامة الشهادة على صحة القذف ممكنة، لا يمكن الحكم ببطلان شهادة القاذف، وتبقى شهادته على ما كان عليها غير محكوم ببطلانها، ومن قال ببطلانها بالقذف فقط فقد علق بطلانها على شرط واحد وهذا مخالف لمدلول الآية[13].
وبالتأمل في هذين الوجهين من الاستدلال يظهر أن نتيجتهما هي: تعليق رد شهادة القاذف على عدم تمكنه من إقامة البينة على صحة قذفه، لأن الشرط الأول قد تحقق فعلاً بالقذف ، وهذا يناقش من وجهين:
الأول: أنه يجعل من رد شهادة القاذف، وسائر الأحكام التي تضمنتها الآية أمراً مستحيلاً ، إذ أن إمكان إقامة البينة يبقى أمراً قائماً باستمرار، وبإمكان القاذف أن يدعي ذلك على الدوام .
الثاني: أنه يقتضي توقف رد شهادة القاذف على عدم تمكنه من إقامة البينة، لا على إقامة الحد عليه، وهذا رجوع عن توقف رد شهادته على إقامة الحد.
2/ قوله تعالى: {لولا جاء عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}[14].
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في وجه الاستدلال من الآية: "فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط، بل إذا لم يأتوا بالشهداء ، ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف، فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة، وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام، إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية" [15].
والحقيقة أن هذا الاستدلال يجر الحنفية إلى الموافقة على القول المخالف، وذلك لأنه إذا عجز عن إقامة البينة في مجلس الخصومة، ولم يمكن إقامة الحد بسبب آخر غير متعلق بالعجز عن إقامة البينة، ثم ماذا ؟ هل يحكم برد شهادته بمجرد عجزه عن إقامة البينة، ولكن الحنفية يقولون بتوقف رد شهادته على إقامة الحد.
فيقال في مناقشة استدلال العلامة أبي بكر الجصاص: أن من حكم بقبول شهادته بعد عجزه عن إقامة الشهادة، فقد علق رد شهادته على ثلاثة شروط فخالف الآية كذلك، لأنه أتى بشرط ثالث وهو إقامة الحد ولم تتضمنه الآية.
3/ ما روى الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف"[16] .
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببقاء عدالة القاذف مالم يحد[17].
ويناقش بأن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة[18].
4/ أن حال القاذف لا يخلو من أن يكون محكوماً بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو يكون محكوماً بكذبه بإقامة الحد عليه، لو كان محكوماً بكذبه بنفس القذف، فبذلك تبطل شهادته ، ويجب أن لا تقبل بينته على الزنا بعد ذلك، إذ قد وقع الحكم بكذبه، والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانياً[19].
ويناقش بأن هناك أمراً ثالثاً، وهو التوقف حتى يتبين حاله .
الموازنة والترجيح :
ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو أن يقال بالتفصيل الآتي:
1/ إذا كان قد عجز القاذف عن إقامة البينة على صحة ما اتهم به المقذوف، ولم يحد القاذف لسبب غير متعلق بثبوت القذف، كعفو المقذوف مثلاً، فلا تقبل شهادته في هذه الحالة .
وذلك لأنه قد تبين كذبه وفسقه فلا تقبل شهادته، ولما ذكر الشافعية والحنابلة من الأدلة على قولهم، فأدلتهم يحمل على هذه الحالة، ولورود المناقشة على أدلة قول الحنفية ومن معهم .
2/ أما إذا لم يحكم بكذب القاذف، ولا بعجزه عن إقامة البينة المعتبرة على صحة قذفه، فيقال بالتوقف حتى يتبين حاله، وذلك لاحتمال أن يتمكن من تحقيق قذفه، لدلالة الآية الواضحة على قبول شهادته فيما لو استطاع تحقيق قذفه، ولإجماع العلماء على ذلك ، والله تعالى أعلم .
ثمرة الخلاف :
ومما يمكن أن يمثل به ثمرة الخلاف هنا، أنه لو فرض أن شخصاً سرق مالاً من محل تجاري مثلاً ، ولم يشاهده إلا رجلين أحدهما عليه قضية في المحكمة بتهمة القذف ولم يبت في قضيته، ولم يرجع هو عن قوله ولم يتب، فهل تقبل شهادته ؟
فعلى قول الشافعية والحنابلة وبعض المالكية لا تقبل شهادته، وعلى قول الحنفية والمالكية تقبل شهادته، وعلى القول الراجح يتوقف في ذلك حتى يتبين حاله ويبت في قضيته، ثم تقبل أو ترفض شهادته بناء على ذلك .
المسألة الخامسة : ما تتحقق به توبة القاذف :
لقد عرفنا أن جمهور العلماء ذهبوا إلى قبول شهادة القاذف بعد توبته، فبماذا تتحقق هذه التوبة ، هل تختلف عن التوبة من غيره من الذنوب والمعاصي ؟
للإجابة على هذا السؤال اختلف أهل العلم على أربعة أقوال :
القول الأول: أن توبة القاذف تتحقق بإصلاح حاله وإكذاب نفسه فيما رمى به المقذوف والندم على فعله، وبهذا قال الإمام الشافعي، وهو مذهب الشافعية، وظاهر كلام الإمام أحمد والخرقي، كما قال ابن قدامة، وقول سعيد ابن المسيب وعطاء وطاوس والشعبي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور[20].
القول الثاني: أن توبة القاذف تتحقق بإصلاح نفسه وإحسان حاله، ويكفيه الندم على ما فعله والاستغفار، ولا يلزم إكذاب نفسه، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم ومنهم الإمام مالك ، وهو قول بعض الشافعية[21].
القول الثالث: إذا كان القذف سباً فالتوبة منه إكذاب نفسه، وإذا كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام وباطل ولن أعود إلى ما قلت، وهذا هو مذهب الحنابلة ، وبه قال بعض الشافعية [22].
القول الرابع: أن القاذف إذا علم من نفسه الصدق فيما قذف به، فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه، وأنه لا يعود إلى مثله، وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه، سواء كان القذف بشهادة أو سب، واختار هذا القول ابن قدامة[23].
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي :
1/ قول الله تعالى: {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [24].
وجه الاستدلال: أن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أن القاذف كاذب في حكم الله تعالى إذا لم يأت بأربعة شهداء على صحة ما نسبه لغيره حتى لو كان صادقاً في حقيقة الأمر[25].
2/ ما رواه سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} "توبته إكذاب نفسه"[26] .
وهذا الحديث إن صح فهو نص صريح في اشتراط إكذاب القاذف نفسه لصحة توبته[27].
3/ ولأن عرض المقذوف تلوث بقذفه، فإكذابه نفسه يزيل ذلك التلويث فتكون التوبة به[28].
واستدل أصحاب القول الثاني بأنه يحتمل أن يكون القاذف صادقاً في اتهامه للمقذوف، إلا أنه لم يتمكن من إقامة البينة المعتبرة على صحة قوله، فلو قلنا باشتراط تكذيب نفسه، يكون عاصياً بتكذيب نفسه وهو صادق[29].
ونوقش بأن احتمال كونه صادقاً في مقالته لا اعتبار له، لأنه كاذب في حكم الله وإن كان صادقاً في نفس الأمر[30]، بدليل قوله تعالى: {فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} .
واستدل أصحاب القول الثالث للشق الثاني من قولهم بأن القاذف قد يكون صادقاً في مقالته فلا يؤمر بالكذب، والخبر الذي استدل به أصحاب القول الأول حملوه على الإقرار بالبطلان، لأنه نوع من الإكذاب[31]. واستدلوا للشق الأول من قولهم بأن القاذف إذا لم يستطع إثبات قذفه فهو كاذب في حكم الله تعالى وإن كان صادقاً في نفس الأمر.
ويناقش بأنه كاذب حكماً وإن كان يحتمل أن يكون صادقاً في الواقع، وأما الإقرار بالبطلان فلا يكفي لنفي العار عن المقذوف .
واستدل أصحاب القول الرابع للشق الأول من قولهم بأن الله تعالى سمى القاذف كاذباً إذا لم يأت بأربعة شهداء على الإطلاق، فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله ، وإن كان في نفس الأمر صادقاً ، فليس هناك ما يمنع من الإقرار ببطلان قوله[32].
ويناقش بأن هذا يقتضي أن تكون التوبة بالإكذاب .
واستدلوا للشق الثاني من قولهم بأنه قد يكون كاذباً في الشهادة وصادقاً في السب .
الترجيح :
ولعل الراجح -والله تعالى أعلم- هو القول الأول، لقوة أدلته، ولأنه لا يزول العار عن المقذوف إلا أن يكذب القاذف نفسه ، ولا محظور من إكذاب نفسه، للدلالة الصريحة للآية الكريمة على ذلك، ولأنه لا تتحقق المقصود من التوبة إلا بذلك .
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
الخاتمــة
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، والصلاة والسلام على رسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين . وبعد
فهذه أهم نتائج هذا البحث :
- القذف هو الرمي بالزنا أو نفي نسب موجب للحد فيهما .
- القاذف إذا حد للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك قبل التوبة .
- تقبل شهادة القاذف على قول جمهور الفقهاء بعد الحد والتوبة .
- تقبل شهادة القاذف بعد توبته وقبل إقامة الحد عليه .
- إذا عجز القاذف عن إقام البينة على صحة ما اتهم به المقذوف ولم يحد القاذف لسبب غير متعلق بثبوت القذف، كعفو المقذوف فلا تقبل شهادته في هذه الحالة .
- إذا لم يحكم بكذب القاذف، ولا بعجزه عن إقامة البينة المعتبرة على صحة قذفه يتوقف عن قبول شهادته حتى يتبين حاله .
- تتحقق توبة القاذف بإصلاح حاله وإكذاب نفسه فيما رمى به المقذوف والندم على فعله .
وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
[1] أحكام القرآن لابن العربي 3 / 1337، وينظر: المغني 14 / 189، والحاوي 17 / 25.
[2] ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3 / 399 .
[3] ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 182، والمغني 14 / 189، والحاوي 17 / 25، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 399 .
[4] أحكام القرآن للجصاص 3 / 399، والمغني 14 / 189
[5] سورة النور الآية 4 .
[6] ينظر: الحاوي 17 / 25 ، والمغني 14 / 190 .
[7] ينظر: الحاوي 17 / 25 .
[8] ينظر: المغني 14 / 190، 191 .
[9] ينظر: الحاوي 17 / 25 .
[10] ينظر: المرجع السابق 17 / 25 .
[11] ينظر: سورة النور الآية 4 .
[12] ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3 / 400 .
[13] ينظر: المرجع السابق 3 / 400
[14] سورة النور الآية 13 .
[15] أحكام القرآن 3 / 401 .
[16] ذكره الجصاص بالسند المذكور في أحكام القرآن 3 / 401 .
[17] أحكام القرآن للجصاص 3 / 401 .
[18] وضعفه بسبب حجاج بن أرطأة ، ينظر: تهذيب التهذيب لابن حجر 1 / 502 .
[19] ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3 / 400
[20] ينظر: الحاوي 17 / 32، والمغني 14 / 191
[21] ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12 / 179، والمهذب 5 / 624 .
[22] ينظر: المغني 14 / 191 .
[23] ينظر: المغني 14 / 192 .
[24] سورة النور الآية 13 .
[25] ينظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2 / 16 .
[26] وقال عنه الحافظ ابن حجر: "لم أره مرفوعاًب تلخيص الحبير 4 / 304.
[27] ينظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2 / 16 .
[28] ينظر: المغني 14 / 191 .
[29] ينظر: المغني 14 / 191 ، والمهذب 5 / 624 .
[30] ينظر: المغني 14 / 192، والنظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 2 / 16 .
[31] ينظر: المغني 14 / 192 .
[32] ينظر: المغني 14 / 192 .