عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-12-2019, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,167
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطبة كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ


ومن الناس من مسَّهُ طائف المرض بإدمان التماجد بالأنساب يَرُومُ التميز وطلب التقدير مع نسيان ما درج عليه أسلافه من ظُلمٍ أو جهلٍ أو سخائم أخرى، قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يوم فتح مكة: "يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من التراب قال الله: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ï´¾[17]"[18]، وندد النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بهذا الصنيع وتوعد صانعيه بالصغار حين قال: (لينتهين أقوامٌ يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عيبةالجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمنٌ تقيٌّ، أو فاجرٌ شقيٌّ، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من التراب)[19]، وَبَيَّنَ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عدم جدوى الإنتساب إلى قومٍ لهم بأسٌ وشكيمةٌ في الفوز بالنجاة في الآخرة من العذاب حين التقصير في العمل فقال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)[20]، وقال الله تعالى: ï´؟ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ï´¾[21].

بل إن الله عز وجل سيرفع القدر ويعلي الذكر وينجي من العذاب ويورث النعيم يوم القيامة على أساس التقوى مع إغفال شأن النسب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم، إلا أن تقولوا: فلانٌ بن فلانٍ خيرٌ من فلانٍ بن فلانٍ، فاليوم أرفعُنسبي وأضعُ نسبكم، أين المتقون)[22].

وإذا كان المرء متفرعاً من عائلةٍ ليس لها في أمجاد الناس على مقاييس الدنيا شئٌ يُذكرُ فما ذنبه ؟ ولماذا يهدر الخلق قدره ؟، فعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أنسابكم هذه ليست بسبابٍ على أحد، وإنما أنتم ولد آدم، طفَّ الصاع لم تملؤوه، ليس لأحد فضلٌ على أحد إلا الدين، أو عملٌ صالح"[23].

وقد حدث في زمان النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - موقفٌ اشتبه فيه الأمر بين المعايرة أو الوصف ولعله لم يكن من السباب في شئ، كان صاحباه أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - وبلال بن رباح - رضي الله عنه - مؤذن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، حين تغاضبا، وفي ثورة الغضب قال أبو ذرٍ لبلال: (يا ابن السوداء فشكاه بلالٌ إلى النبي فقال النبي لأبي ذر:أعَيَّرْتَهُ بأمه إنك امرؤٌ فيك جاهلية)[24]، وفي رواية البخاري رحمه الله تعالى: (رأيت أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه -، وعليه حلةٌ، وعلى غلامِهِ حلةٌ، فسألناه عن ذلك، فقال: إني سابَبْتُ رجلاً، فشكاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعيَّرْتَهُ بأُمِّهِ" ثم قال: "إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم")[25].

ونظراً لبريق النسب في عيون الناس فقد حاولوا أن يشفعوا لإمرأةٍ قد سرقت من بني مخزوم - ولهم في الناس سمعةٌ ووجاهةٌ - ولم يجدوا مدخلاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أسامة بن زيد - رضي الله عنه - لأنه كان حِبّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها: (أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترئ عليه إلا أسامة، حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله"؟! . ثم قام فخطب، قال: "يا أيها الناس، إنما ضلَّ من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله، لو أن فاطمةَ بنتَ محمد سرقتْ لقطع محمدٌ يدها")[26].

وأكرم الناس على الله تعالى قياساً ووصفاً قد حدده النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وذلك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ( سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أكرم ؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم"، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألونني"؟ قالوا: نعم، قال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، إذا فقهوا")[27].

ومن تَلَطِّفِ الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يجب أن نتعلم تذوق بعض الأدب في معاملة الناس، فقد روى أهل السير أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما رأى بلال بن رباحٍ - رضي الله عنه - يعذب في رمضاء مكة وَوَهَجَهَا المُسْتَعِرِ جَلَبَ المال واشتراه من أُبيِّ بن خلف، وعندئذ سارت مقولات المنافقين والمرجفين يقولون: ما أعتق أبو بكرٍ بلالاً إلا لمعروفٍ أسداهُ بلالٌ لأبي بكر، فتولى الله الرد من فوق سبع سماوات: ï´؟ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ï´¾[28]، وقد كان منطق عمر - رضي الله عنه - في وصف هذا الموقف يقطر تواضعاً إذ سوَّى بين السيد ومن كان بالأمس في زمرة العبيد بل نعته بالسيادة حين قال: أبو بكرٍ سيدُنَا وأعْتَقَ سيدَنا، وذكر الإمام ابن حجرٍ رحمه الله تعالى في الفتح: [كان عمر - رضي الله عنه - يقولأبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلالاً، قال ابن التين:يعني أن بلالاً من السادة، ولم يرد أنه أفضل من عمر، وقال غيره: السيد الأول حقيقة، والثاني قاله تواضعا على سبيل المجاز][29].


ويرحم الله من قال:
عليك بتقوى اللهِ في كل حالةٍ
ولا تتركنَّ التقوى اتِّكَالاً على النسبِ

فَقَدْ رفَعَ الإسلامُ سلمانَ فَارسٍ
وقدْ خَفَضَ الشركُ اللعِينَ أبا لهبِ


ومن حرص النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - على هداية الصناديد والكبراء من قريشٍ فقد حاول لفت انتباههم إلى دعوته الكريمة ولم يلتفت إلى إلحاحِ رجلٍ كان من العامة قبل إسلامه وهو عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - الذي أنزل الله تعالى في شأنه قرآناً يتلى، قال الله تعالى ï´؟ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ï´¾[30]، وحال العظة من الكتاب العزيز يشير إلى أن هذا الدين منصورٌ بكل من يؤمن به ولا بأس أن يكون من الأغنياء أو الفقراء أو السادة أو العبيد أو الوجهاء أو المدفوعين بالأبواب، فكل واحدٍ مهما كان حجمه في المجتمع له دوره وأمانته وبطولته التي من أجلها يرفع الله قدره بين الناس ولا يجوز أن يكون في الجماعة المؤمنة من يعامله الناس معاملة النكرات.


وأخيراً:
ندفع بالحسنى في وجوه المتعالين بالمال والأنساب والأصل والمناصب على حساب الخُلُقِ والدين والتقوى مع كل التقدير

بقول أمير الشعراء شوقي:
لا يقولن امرؤٌ أصلي فما أصله
مسكٌ وأصلُ الناس من طينِ


وإلى المتضعين بأصولهم المتوهمين أن أقدارهم بين الناس مَسَّهَا الانحدار نسوق إليهم بكل الإجلال قول أمير المؤمنين على بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -:
كن ابن منْ شئتَ واكْتَسِبْ أدباً
يغنيك محمودُهُ عن النسبِ

إِنَّ الفَتى من يقولُ هَا أنا ذَا
ليْسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كَانَ أبي


والله نسأل أن يعلي أقدارنا ويرفع عنا إصرنا ويبصر قلوبنا بهداه.
والحمد لله في بدءٍ وفي ختمٍ.






[1] - النحل:18.

[2] - الألباني في السلسلة الصحيحة 3700 بسندٍ صحيحٍ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه.

[3] - الحجرات:13.

[4] - المائدة: من الآية18.

[5] - التوبة: من الآية30.

[6] - آل عمران: من الآية181.

[7] - آل عمران: من الآية75.

[8] - السخاوي في المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الحديث من الألسنة 914 عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، ورواه الثعلبي وابن مردويه وابن حِبَّان في الضعفاء، من رواية يحيى بن عبيد اللَّه عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً، وفي رواية ابن حبان: يهودي، على الإفراد، وكذا أخرجه الديلمي في مسنده، ولفظه: "ما خلا قط يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله".

[9] - السجدة:7.

[10] - الأنعام:74.

[11] - هود42:43.

[12] - الحجرات:13.

[13] - الإمام القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ص ج ط2 دار الغد العربي / القاهرة.

[14] - السابق.

[15] - محمد جار الله الصعدي في النوافح العطرة 59 بسندٍ صحيحٍ عن أنسٍ - رضي الله عنه.

[16] - صحيح البخاري 3493 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه.

[17] - الحجرات:13.

[18] - ابن العربي في عارضة الأحوذي 6/337 بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه.

[19] - الألباني في صحيح الجامع 5483 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه.

[20] - الزرقاني في مختصر المقاصد 961 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه.


[21] المؤمنون:101.

[22] - المنذري في الترغيب والترهيب 4/61 بإسنادٍ صحيحٍ أو حسنٍ أو ما يقاربهما.

[23] - الألباني في صحيح الترغيب 2962 وقال: صحيحٌ لغيره.

[24] - الألباني في غاية المرام 307 بسندٍ صحيحٍ بغير هذا السياق.

[25] - صحيح البخاري 2545 بسندٍ صحيحٍ.

[26] - صحيح البخاري 6788 بسندٍ صحيحٍ.

[27] - صحيح البخاري 4689.

[28] - الليل 19-21.

[29] - الإمام ابن حجر العسقلاني / فتح الباري بشرح صحيح البخاري / كتاب فضائل الصحابة / مناقب بلال - نسخة مدمجة على المكتبة الإسلامية - موقع إسلام ويب.

[30] - عبس 1:6.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.40 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.09%)]