
19-12-2019, 04:17 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,783
الدولة :
|
|
رد: العفة
سلسلة من محاسن الدين الإسلامي (5)
العفة (الحلقة الثانية)
د. محمد ويلالي
الخطبة الأولى
تناولنا في الجمعة الماضية الحديث عن صفة جليلة، تعتبر من أعظم محاسن الدين الإسلامي، هي مفتاح العزة والكرامة، وسبيل الورع والسلامة، وداعي التقوى ولااستقامة. إنها صفة "العفة"، التي ما دخلت نفسًا إلا ملأتها اكتفاء وقناعة، وما غزت قلبا إلا أحالته سعادة وطمأنينة، وما تمكنت من مجتمع إلا نعم بالأمن، وسلم أفراده من الغبن. صفة الصادقين، وبلسم المخلصين، وغنى المحتاجين، وسخاء الأغنياء الممتلئين.وقصدنا اليوم - إن شاء الله تعالى - أن نعمق الحديث عن هذه الصفة العظيمة، بضرب أمثلة المتعففين عبر تاريخ الإسلام، لنوقن أن بالعفة طهرت الأسر والمجتمعات، وعاش المسلمون في تآخ كان مضرب الأمثال بين الأمم والجماعات. ولنبدأ بنبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي إنما بعثه الله تعالى ليتمم حسن الأخلاق.ولقد عرضت عليه قريش الدنيا من أجل أن يتخلى عن المبادئ التي بعث من أجلها، فلم تطمعه عروضهم، ولم يسلبه بريق مغرياتهم، بل منعته عفته أن يبتغي الدنيا بالآخرة. فقد بعثوا له عتبة بن ربيعة مفاوضاً، فقال له: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفا، سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا، ملكناك علينا..". فلما فرغ من عروضه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟". قال: نعم. قال:" فاسمع مني". فقرأ له من مطلع سورة فصلت حتى وصل السجدة، ثم قال له: "قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك" صحيح فقه السيرة.ولما فتح الله تعالى على نبيه الأمصار، لم تغره الغنائم، ولو تستهوه نفائس المغانم. فقد قفل - صلى الله عليه وسلم - من حنين وقد غنم مالا كثيرا، فرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَتَعَلَّقَ بِهِ النَّاسُ يَقُولُونَ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْأَنَا بَيْنَنَا، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى سَمُرَةٍ - صلى الله عليه وسلم - (شجرة الطلح)، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمٌ، لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تجدونِي بَخِيلاً، وَلاَ جَبَاناً، وَلاَ كَذُوباً" البخاري.وفي رواية عند أحمد: ثُمَّ دَنَا مِنْ بَعِيرِهِ، فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ، فَجَعَلَهَا بَيْنَ أَصَابِعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ رَفَعَهَا فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ لي مِنْ هَذَا الْفَيءِ وَلاَ هَذِهِ، إِلاَّ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَرُدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَاراً، وَنَاراً، وَشَنَاراً".ما أفسد الناسَ إلا الطمع، وما أساء أخلاقَ كثير منهم إلا الجشع، وحب الثراء السريع ولو بسلوك طريق النهب، والسرقة، والرشوة، والخداع. لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجل برد الأمانات إلى أصحابها مخافة أن يدركه الموت وهي عنده.فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ سَرِيعًا، فدَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ: "ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ تِبْرًا - صلى الله عليه وسلم - (ذهبا) عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ" البخاري.فليس هناك وقت للتسويف في إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم، ولا مجال للتماطل في أداء الأمانات إلى أصحابها، بهذا ساد الإسلام وانتشر، وعظم كيانه وازدهر: الإحساس القوي بالمسؤولية، والتحري الدقيق في القضايا المالية، حتى في أحرج اللحظات.فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْماً عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: لَوْ رَأَيْتُمَا نَبِي اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَرَضٍ مَرِضَهُ، وَكَانَ لَهُ عِنْدِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ أَوْ سَبْعَةٌ، فَأَمَرَنِي نَبِي اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُفَرِّقَهَا، فَشَغَلَنِي وَجَعُ نَبِي اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا فَقَال: "مَا فَعَلَتِ السِّتَّةُ أَوِ السَّبْعَةُ؟". قُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ، لَقَدْ كَانَ شَغَلَنِي وَجَعُكَ. فَدَعَا بِهَا، ثُمَّ صَفَّهَا فِي كَفِّهِ فَقَالَ: "مَا ظَنُّ نَبِي اللَّهِ لَوْ لَقِىَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذِهِ عِنْدَهُ؟" الصحيحة.ستة دنانير أو سبعة مملوكة لأصحابها، خشي أن يموت وهي عنده، يحاسبه الله تعالى عليها، فكيف بمن سرقوا من مال البلاد ما بين سنة 2000 و 2010م أزيد من 135 مليار درهم، وأزيد من 5000 هكتار من الأراضي العمومية، بحسب لجان تحقيق رسمية، في الوقت الذي يعاني فيه قرابة 30% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 سنة من البطالة.ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "يأتي على الناس زمان، ما يبالي الرجل من أين أصاب المال، من حلال أو حرام " صحيح النسائي. يثبت قلبهم على حب المال، يميلون معه حيث مال، ويقيمون حيث أقام، مع أن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" صحيح الترمذي. ومع ذلك يزعمون أنهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويدعون أنهم يتورعون، وما علموا أن الورع الحقيقي هو اتقاء المحارم، وحفظ الحقوق. فقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة - رضي الله عنه - فقال: "يا أبا هريرة، كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قَنِعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا" صحيح ابن ماجه.لقد بلغ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخوف من مال الغير، أَنْ أسهرته تمرة واحدة، وأطارت النوم من عينيه، مخافة أن تكون من مال الصدقة، وهي محرمة على آل البيت. فعن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد تحت جنبه تمرة من الليل، فأكلها، فلم ينم تلك الليلة. فقال بعض نسائه: يا رسول الله، أَرِقتَ البارحة. قال: "إني وجدت تحت جنبي تمرة، فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه" أحمد وإسناده صحيح.فنبي هذا شأنه، لم يكن لينجذب إلى بريق الدنيا التي صارت مرتعا للتنافس، وميدانا للمظاهر المزيفة، والمغريات البراقة، التي أخذت بتلابيبنا، فاستعبدتنا حتى صرنا لها أسرى. تأمل في فعل رسول الله وقد عُرض عليه أن يغير ثوب فراشه. فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلَتْ عليَّ امرأة من الأنصار، فرأَتْ فراش رسول الله - رضي الله عنه - عباءةً مثنية، فرجعَتْ إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراش حَشوُه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ فقلت: فلانة الأنصارية، دخلت عليَّ فرأَتْ فراشك، فبعثَتْ إليَّ بهذا. فقال: رُدِّيه. فلم أردَّه، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة، رُدِّيه، فو الله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة. قالت: فرددته" صحيح الترغيب.إن القناعة من يحلل بساحتها
لم يبق في ظلها هم يؤرقه
الخطبة الثانية
هذا النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - ، الذي لو أحب ملك الدنيا لملكها، "مات وما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدا، وترك درعه رهنا عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير" أحمد وإسناده صحيح. وقال أنس بن مالك: ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - صَاعُ بُرٍّ، وَلاَ صَاعُ حَبٍّ" قال أنس: "وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ" البخاري.وإذا وضعتَ الجهاز الكاشف على بيته - صلى الله عليه وسلم - من الداخل، لتعرف جهازه وأثاثه، فدونك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوَ الصَّاعِ وَقَرَظٍ - صلى الله عليه وسلم - (شيء يدبغ به الجلد) فِي نَاحِيةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ - صلى الله عليه وسلم (جلد غير مدبوغ) مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَاي - صلى الله عليه وسلم (سالت دموعه)، فَقَالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟". فَقُلْتُ: يَا نَبِي اللَّهِ، وَمَا لِيَ لاَ أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِي اللَّهِ، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ؟. قَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ، وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟". قُلْتُ: "بَلَى".
فإذا نبا بيَ منزل جاوزتُه 
وجعلتُ منه غيره ليَ منزلا 
وإذا غلا شيء علي تركته 
فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|