في فضل عشر ذي الحجة
الشيخ عبدالعزيز بن محمد العقيل
الحمد لله مُفضِّل الأيَّام بعضها على بعض، ومُوقِظ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ، ومُوفِّق مَن شاء من عباده لاغتنام الأوقات الفاضلة، أحمده - سبحانه - على ما أولاه من إحسانه وأفضاله، وأشكُره على جزيل برِّه ونَواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله الهادي لما فيه الخير والسَّعادة، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، المهتَدِين بهديِه والمقتَفِين لآثاره وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - وشمِّروا لطلب الخيرات، واغتنموا الأوقات الفاضلات، فها أنتم في أيَّام العشر المفضَّلات، وهي الأيَّام المعلومات التي أقسَمَ الله - سبحانه وتعالى - بهن في محكم الآيات؛ فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2].
فعظِّمُوها - رحمكم الله - بالأعمال الصالحة، فإنها أحبُّ إلى ربِّكم في هذه الأيَّام منها في سائر الأيَّام.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيَّامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيَّام))؛ يعني: العشر، قالوا يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسه وماله ولم يَرجِع من ذلك بشيءٍ))[1].
وفيها يوم عرفة الذي قال في نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خير الدُّعاء دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير)).
وعن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال في صيام يوم عرفة: ((صيام يوم عرفة أحتَسِب على الله أنْ يُكفِّر السنة التي قبلَه والسنة التي بعدَه))[2].
فيا عباد الله:
تدبَّروا قولَ الله وقولَ نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم -، واشكُروا نِعَمَ الله عليكم حيث منحَكُم هذا الفضل العظيم والثواب الجزيل على العمل الصالح في الوقت القليل، فاللهَ اللهَ عباد الله في حِفظ هذه الأيَّام القليلة بالأعمال الصالحة لتنالوا ثوابَها المضاعف؛ فإنها أيَّام مُضاعَفة الحسنات وإجابة الدعوات، والإفاضات والنفحات، وإعتاق الرِّقاب من الموبقات والوقوف بتلك المشاعر المفضلات، والطواف بالبيت العتيق وضجيج الأصوات بالدعوات، لفاطر الأرض والسماوات.
فاعلَمُوا أيها المقيمون في هذه الأيَّام لتُشارِكوا في فضلها مَن سار إلى البيت الحرام، وأكثِرُوا التسبيح والتكبير والتحميد امتِثالًا لأمر نبيِّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -.
فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((ما من أيَّامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثِروا فيهنَّ من التسبيح والتكبير والتحميد))[3].
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيَّام العشر فيُكبِّران ويُكبِّر الناس بتكبيرهما.
فانتَبِهوا - رحمكم الله - لهذا الفضل العظيم الذي كاد يُفقَد بين الكثير من المسلمين بسبب الانشِغال بأعمال الدنيا وإيثارها على الأعمال الصالحات، لقد أهمل الكثير من المسلمين الأعمال الصالحة والتجارة الرابحة وما كان عليه سلفهم الصالح، فلا بُدَّ من الرُّجوع إلى الله والبُعد عمَّا يسخطه ويوجب مقته وخذلانه، فقد أُصِيب المسلمون وأذلُّوا وسُلِّط عليهم أعداؤهم، ومن أكبر الأمثلة والشواهد ما حلَّ بلبنان وأهله، وشعب فلسطين المشرد من أوطانه، والذي عاش عشرات السنين في المخيمات يُقاسِي ألم البرد في الشتاء وحرارة الشمس في الصيف، وألم الجوع في أكثر أوقاته، ولم يقف الأعداء عند حدِّ التشريد وسلب الأموال والاستيلاء على الأراضي، بل طغى وتجبَّر وتطاوَل وغزا لبنان ومخيَّمات الاجئين وخدَع المسلمين وأخرج مَن بَقِي من المقاتلين وشتَّتَهم، وحين صفا له الجو ولم يبقَ إلا شيخ وعجوز وامرأة وطفل انقضَّ بسباعه الضارية المتعطِّشة إلى دماء الأبرياء، والجائعة للحوم الضعفاء، والباحثة عن أعراض المتعفِّفات من النساء، فأوقع المذبحة الرهيبة المروِّعة في أولئك العُزَّل ما بين شيخ وامرأة وطفل؛ فخاض بدباباته في دمائهم، وهدم المباني على جثثهم، وهتك الأعراض، وأجهَزَ على المصابين.
تلك فَعلةُ اليهود والصهاينة الحاقِدين على الإسلام والمسلمين، وليس غريبًا أنْ يفعَلُوا ما فعَلُوا؛ فقد عُرِفوا بالحقد والخبث والمكر والخداع، ولكنَّ الغريب أنْ ينخَدِع المسلمون بأقوالهم، ولعلَّ ما وقَع في لبنان ومخيَّمات الفلسطينيين يكون مُنبِّهًا وحافزًا للمسلمين على الانتِباه واليقَظَة والرُّجوع إلى الله، والصِّدق معه في الأقوال والأفعال، والاستعداد والأخْذ بالثَّأر في القريب العاجل، ولينصرنَّ الله مَن ينصُرُه.
فانتَبِهوا يا عباد الله لأنفُسكم، وتمسَّكوا بتعاليم ربِّكم، واحذَرُوا عَواقِب الذنوب والمعاصي، اللهمَّ وفِّقنا لاتِّباع سنَّة نبيِّك الأمين، وأدخِلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ولا تجعَلْنا عن بابك مطرودين، ولا تخزنا يومَ الدِّين، ولا تجعل مصيبتنا في الدِّين، واغفِرْ لنا وارحمنا وأنت خيرُ الغافرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
واغتَنِموا يا عباد الله هذه الأيَّام الفاضلة بالأعمال الصالحة، وينبغي لمن أراد أنْ يُضحِّي ألاَّ يأخُذ من شعره ولا بشره شيئًا في أيَّام العشر حتى يُضحِّي؛ لحديث أم سلمه - رضِي الله عنها - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا رأيتُم هلال ذي الحجة وأراد أحدُكم أنْ يُضحَّي فليُمسِك عن شعره وأظفاره))[4].
وفي لفظ: ((مَن كان له ذبحٌ يذبَحُه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجَّة فلا يأخذنَّ من شَعره وأظفاره حتى يُضحِّي))[5].
فاتَّقوا الله يا عباد الله وامتَثِلوا أوامره واجتنبوا نواهيه.
[1] أخرجه البخاري رقم: (969) - الفتح: 2/530.
[2] جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (1162).
[3] أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 2/75، 135.
[4] أخرجه مسلم (1977).
[5] أخرجه مسلم رقم [42 - (1977)].