الموالاة: معناها ومظاهرها
أبو مريم محمد الجريتلي
4- يحسدون أهل الإيمان على ما آتاهم الله من فضله:
كما قال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[42].
يقول ابن كثير - رحمه الله -: "يقول - تبارك وتعالى - ناهيًا عباده المؤمنين عن اتِّخاذ المنافقين بطانة؛ أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً؛ أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكلِّ مُمكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم.
ثم قال تعالى: {قَدِ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر}؛ أي: قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.
قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[43]، وذلك أشدُّ الغيظ والحنق، قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[44]؛ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أنَّ الله متِمٌّ نعمته على عبادِه المؤمنين، ومكملٌ دينه، ومعلنٌ كلمته، ومظهرٌ دينه، فموتوا أنتم بغيظكم؛ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنُّه سرائركم من البغضاء والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمِّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها"[45].
ونصيحة لكل مسلم يسير إلى الله يبتغي الحق ويسأل الله العون:
لا ترغب عن سبيل المؤمنين؛ كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[46]، وقال - سبحانه -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[47].
يقول ابن كثير - رحمه الله -: {نَوَلِّه مَا تَوَلَّى}؛ أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره، ونزيّنها له؛ استدراجًا له، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}[48]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[49]، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[50]، وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأنَّ مَن خرج عن الهدى لَم يَكُن له طريق إلاَّ إلى النار يوم القيامة"[51].
فلا ترغب عن سبيل المؤمنين، ولا تقتفِ سُبُل المجرمين من الكفَّار والمنافقين، واعلم أنه ما من سبيل منها إلا وعليه شيطان يدعو إليه ويزينه لأهله.
فإن وفقك الله لسبيل المؤمنين فإياك والتفرُّقَ فيه، واسمع لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[52].
وعليك بالنُّصح لكل مسلم؛ فـ((الدين النصيحة))، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن جرير بن عبدالله البجلي قال: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصح لكل مسلم[53].
وفي رواية: ((أبايعك على أن تعبُد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين))[54].
فالنصيحةُ للمسلمين هو مُقتضى ترْك التفرُّق في السبيل، وهو هديُ أهل السنَّة وسَمْتهم.
يقول ابن تيميَّة - رحمه الله -: "ثُمَّ مِن طريقة أهْلِ السُّنَّة والجماعة اتِّباع آثار الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا.... إلى أن يقول - رحمه الله -: ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتَقِدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشُد بعضه بعضًا)).[55]
وقوله: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهَر"[56]، [57].
جَعَلَنَا اللهُ وإياكم مِمَّن لا يُفارقون السبيل، ولا يَتَفَرَّقون فيه، اللهم آمين.
ــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري: (6732/ كتاب الفرائض)، ورواه مسلم: (1615/ كتاب الفرائض).
[2] [الممتحنة: 1].
[3] رواه البخاري: (6502/ كتاب الرقائق/ باب: التواضع).
[4] [المجادلة: 22].
[5] "اقتضاء الصراط المستقيم" ص48، (ط. دار الحديث).
[6] [الممتحنة: 1].
[7] [المائدة: 55].
[8] "جامع العلوم والحكم"، حديث 38.
[9] [النساء: 76].
[10] [الأنفال: 72].
[11] رواه أبو داود، 4/5121.
[12] رواه مسلم: (3240/ كتاب الإمارة/ باب: وُجُوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن).
[13] [البقرة: 120]
[14] متَّفق عليه: رواه البخاري: (732/ أحاديث الأنبياء/ باب: ما ذكر عن بني إسرائيل)، ورواه مسلم: (2669/العلم/ باب: اتباع سنن اليهود والنصارى).
[15]"صحيح الجامع"، ح (6149).
[16] "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص188، (ط/ دار الحديث).
[17] [المائدة: 51 - 53].
[18] [المائدة: 78 - 81].
[19] [المجادلة: 22].
[20] "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص190، 189.
[21] [المائدة: 51].
[22]"المحلى"، 13/35.
[23] [المائدة: 52].
[24] "تفسير القرآن العظيم" لآية المائدة (51)، 2/66،65.
[25] "أضواء البيان"، 3/401.
[26] [الحجرات: 10].
[27] "هجر المبتدع"؛ لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد: ص4. (ط، مكتبة السنة).
[28] [آل عمران: 118، 119].
[29] "أحكام أهل الذمة"، 1/242.
[30] [الفرقان: 72].
[31] "تفسير ابن كثير: 3/399.
[32] رواه البيهقي: 9/234.
[33] "صحيح الجامع"، ح6، 818.
[34] [المائدة: 52].
[35] [المائدة: 51، 52].
[36] [المائدة: 56].
[37] "البداية والنهاية"؛ لابن كثير، 2/409 - 410.
[38] [النساء: 138، 139].
[39] "تفسير السعدي"، ص209 - 210.
[40] [النساء: 141].
[41] "تفسير ابن كثير"، 1/487، (ط. دار القلم).
[42] [آل عمران: 118 - 120].
[43] [آل عمران: 119].
[44] [آل عمران: 119].
[45] "تفسير ابن كثير"، 1/342 - 343.
[46] [الأنعام: 153].
[47] [النساء: 115].
[48] [القلم: 44].
[49] [الصف: 5].
[50] [الأنعام: 110].
[51] "تفسير ابن كثير"، 1/476.
[52] [سورة يوسف: 108].
[53] رواه البخاري: (57/ كتاب الإيمان/ باب: الدين النصيحة)، ورواه مسلم: (56/ كتاب الإيمان/ باب: بيان أن الدين النصيحة).
[54] رواه النسائي:7/148، وأحمد في المسند: 4/365 ، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم636.
[55] رواه البخاري: (481/ كتاب الصلاة/ باب: تشبيك الأصابع).
[56] رواه البخاري: (6011/ كتاب الأدب/ باب: رحمة الناس)، ورواه مسلم: (2586/كتاب البر والصلة).
[57] "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين: 512 - 515، (ط. مكتبة الإيمان).