التشبه
خالد بن عثمان السبت
ثانياً: أن يتميز المسلم عن الكافر بشخصيته، وأن يحافظ على تفرده، وأن يحافظ على سمات الشخصية الإسلامية التي يفترق بها عن غيره من الكفار، ومن ثم تحصل المحافظة على سمات الأمة المسلمة، وعلى خصائصها وعلى سيادتها وعلى تفردها في الكمالات، فتكون الأمة متبوعة لا تابعة، وهذا الذي يصلح لها إذ أنها رأس ولا يصلح أن تكون ذنباً بحال من الأحوال، فالله - عز وجل - يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[(143) سورة البقرة]، أي عدولاً خياراً: (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)[(143) سورة البقرة].
فلا يصلح لهذه الأمة أن تكون ذائبة في شخصية غيرها، متقمصة لأزيائهم وأخلاقهم وعاداتهم وعباداتهم، وتكون أمة منحلة، ليس لها ما يميزها، وليس لها من المقومات والخصائص ما تتفرد به عن سائر الأمم غيرها.
ثالثاً: من حكم الشارع في تحريم مشابهة الكفار:
هو أن نثق تماماً أن هذه الأعمال التي يعملها الكفار وينفردون بها أنها إما باطلة، وإما ناقصة، والمسلم ليس بحاجة لأن يجلب لنفسه ذلك النقص ليكون ناقصاً أو يجلب لنفسه ذلك الفساد فيكون ذلك خللاً فيه.
رابعاً: ما في مخالفتهم من تحقيق معنى البراءة منهم، ولا يخفى أثر المخالفة -أيضاً- في نفس هؤلاء الذين نخالفهم من شعورهم بالذل والصغار، بخلاف ما إذا وافقناهم فإنهم ينتفشون وتتضخم نفوسهم ويتعالون، ولا تجد أصدق لذلك من قول الله - عز وجل -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [(6) سورة الجن].
خامساً: أن بذلك تحقيق لمقصود من مقاصد الشارع في هذا الباب، وهو أن يوجد الفرق بين الناس، وأن يُعرف أن هذا مسلم وأن هذا من الكفار، بهيئته في بدنه، في لباسه، في وجهه، أما أن يبقى الناس سواسية لا تفرق بين المسلم والكافر، لا تجد فرقاً بين البوذي واليهودي والنصارى وما إلى ذلك، فإن هذا أمر لا يحسن ولا يجمل، وهو خلاف مقصود الشارع.
هذه الحكم من تحريم التشبه بالكفار، وأما الحكمة من منع التشبه بأهل الأهواء والبدع، فأقول: في ذلك زجر أكيد لهؤلاء الناس، فإذا كان هؤلاء من أهل الأهواء الذين خرجوا عن قوانين الشريعة وعن نظامها وابتدعوا بدعاً ما أنزل الله - عز وجل - بها من سلطان يجدون الآخرين يحاكونهم ويتشبهون بهم، فمتى يرتدعون؟
ففي هذا إنكار عليهم و-أيضاً- إلزامهم بالذل والصغار، وأمر آخر وهو أن يتميز صاحب السنة عنهم، فلا يضع نفسه موضع الريبة والتهمة، فينسب إليهم.
وأما الحكمة من منع التشبه بالفساق، فكذلك فيه زجر لهم وتأخيرهم، فهم لا يصلحون في مقام الصدارة، وكذلك ليتميز صاحب الطاعة والاستقامة عن أهل الفسق والفجور، وكذلك ليحافظ العبد على حدود الله - عز وجل -؛ لأن من شابه أهل الفسق فإن ذلك يعني الانحلال والانفلات من أوامر الله -تبارك وتعالى-، ومن التكاليف الشرعية.
وأما الحكمة من تحريم تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فأقول: في ذلك محافظة على مقتضى الفطرة التي فطر الله - عز وجل - كل واحد من الجنسين عليها.
فالله - عز وجل - فطر الرجال على أن يكون الرجل قوياً شديداً له سماته وخصائصه التي تليق بفحولته ورجولته التي هيأه الله - عز وجل - بها؛ ليتحمل الشدائد؛ ليعمل خارج المنزل، ومن أجل أن يصاول ويقاتل الأعداء، وأن يحمي الديار وما إلى ذلك، وأما المرأة فقد خلقت لمعنىً آخر.
المرأة يصلح لها كل معنىً من معاني الأنوثة واللطف وما إلى ذلك من الليونة، وخصائص النساء، فإذا تشبهت المرأة بالرجال تكون قد خرجت عن طورها، وعن ما رسمه الله - عز وجل - لها، فانتكست فطرتها ووقعت في أمور لا تليق كما تسمعون في الجنس الرابع في النساء المترجلات، تتخذ خليلات من النساء، وتفعل ما لا يليق من ألوان الفجور التي لا تخطر على بال أحد.
وكذلك الرجل إذا خرج عن طوره، وخرج عن فطرته وما رسم الله - عز وجل - له، فإنه يكون بذلك متأنثاً متكسراً لا يصلح لشيء مما يصلح للرجال، وإنما تفسد فطرته وتنتكس، ويكون ذلك فساداً في داخله وفي خارجه، إضافة إلى ما يفضي إليه ذلك من القبائح، وما أخبار الجنس الثالث أعزكم الله - عز وجل - عنا ببعيد.
كيف تنتكس الفطرة انتكاساً كلياً حتى يعمد الرجل إلى أن يكون موافقاً للمرأة في كل شيء بلا استثناء في لباسه وهيئته وما دون ذلك وما فوقه، هذا أمر لا شك أنه يخالف الفطرة السليمة.
وأما الحكمة من منع التشبه بالأعراب -وهم سكان البادية- فإن ذلك لما يوجد في هؤلاء من الجفاء وقلة العلم، فالتعرب لا شك أنه ابتعاد عن مظان العلم، وسكنى البادية لا شك أنه مظنة للجفاء والجلافة والجهل، وهذه أمور ينفرد بها أهل البادية عادة، فمن شابههم في مثل هذه الأمور لا شك أنه يكون قد تقمص أخلاقاً رديئة، وجلبها إلى نفسه.
أما الحكمة من النهي عن التشبه بالحيوانات فهذا لا شك أنه من مقتضى المحافظة على الفطرة، فالإنسان فطره الله - عز وجل - على الفطرة القويمة وخلقه في أحسن تقويم، وهذا يشمل هيئته الظاهرة كما نشاهد رأسه إلى أعلى وأكله متميز يأكل بيده، وهيئته تخالف هيئة الحيوانات، فإذا جعل يرسم على نفسه رسومات معينة، أو يلبس على وجهه وجه حيوان، أو ما إلى ذلك، فهذا انتكاس للفطرة وهبوط ونزول لا يليق به، والله - عز وجل - يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[(4) سورة التين]، أي في هيئته الظاهرة والباطنة.
والله - عز وجل - يمتن علينا فيقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[(70) سورة الإسراء].
فحينما نتشبه بهؤلاء العجماوات نكون قد تخلينا عن هذا التفضيل وتركنا هذا التكريم الإلهي، فكمال الإنسان وصلاحه إنما يكون في الأمور التي تناسبه وتلائمه.
خامساً: ما هي الأبواب التي يدخلها التشبه؟:
أفعال الكفار على ثلاثة أنواع:
الأول: ما كان من جنس العبادات أي ما فعلوه على سبيل الديانة، فهذا لا يجوز أن نتشبه بهم فيه، أو في شيء منه، سواء انتشر عند المسلمين أو لم ينتشر.
النوع الثاني: العادات والأخلاق، فما كان من عاداتهم وأخلاقهم، فهذا إن كان من خصائصهم فلا يجوز لنا أن نتشبه فيه، فإذا تفشى في الناس فلا بأس من فعله، ما لم تتصادم هذه الأخلاق والمعاملات مع شريعتنا الغراء.
النوع الثالث: ما كان من الصنائع والأعمال، فإن العلم رحم بين الناس، ولا يختص بأمة دون الأمم، هذه الصناعات والمبتكرات والعلوم التجريبية النافعة وما توصلوا إليه من ألوان التقدم المادي لا شك أنه مطلوب، وأن الأمة يجب عليها أن تحصل أسباب القوة، وأن تأخذ بها؛ لتكون أمة قوية ممكنة في الأرض، فالتقدم المادي لا يختص بهؤلاء الكفار، فإذا أخذنا منهم العلوم النافعة المادية، وأخذنا منهم ألوان المهن والصناعات التي يحتاج إليها المسلمون، فإن ذلك ليس من قبيل التشبه بهم، بل هو أمر مطلوب.
والله - عز وجل - يقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[(60) سورة الأنفال].
فلا يفهم أحد أن الكلام عن التشبه أن المقصود به أن نترك ما عليه هؤلاء، بل إذا أردنا أن نتكلم بطريقة الحصر العقلي وهي ما يسميه أهل المنطق وأهل الأصول بالسبر والتقسيم العقليين، إذا أردنا أن ننظر إلى مخرجات الحضارة الغربية، فنقول: إنها لا تخلو من أربعة أقسام لا خامس لها، الموقف منها لا يخرج إلى قسم خامس.
إما أن يقول قائل: أن نرفض جميع ما أخرجته وأنتجته هذه الحضارة الغربية بحلوها ومرها، بصالحها وطالحها، وهذا لا يقوله عاقل.
وإما أن نقول: أن نأخذ بحلوها ومرها بنافعها ومضارها -كما قال بعض دعاة التغريب- وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا يقوله عاقل، وأما أن نقول: إننا نأخذ الضار فقط ونترك النافع، وهذا لا يقول به أحد.
والقسم الرابع هو أن نأخذ النافع فقط ونترك الضار، هذا هو الواجب علينا، هذا الموقف الصحيح والموقف الشرعي من مخرجات الحضارة الغربية.
النبي - صلى الله عليه وسلم - استفاد من الكفار في أشياء كحفر الخندق؛ إذ لم يكن معهوداً عند العرب، ولم يعرفه المسلمون، فلما جاءت الأحزاب من كل ناحية إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار سلمان الفارسي -رضي الله عنه- على النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق، فهي خطة عسكرية فارسية استفادها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما قال: هذه خطة قذرة نجسة أنتجتها أفكار الكفار، ما قال ذلك.
وكذلك -أيضاً- استعمال المنجنيق، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استعمله في حصار الطائف، وذلك كان معروفاً عند الفرس، فهي قضية عسكرية، إنتاج عسكري فارسي استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتفع به، ولم يكن معهوداً عند العرب، ولم يكن ضمن أسلحتهم، وكذلك -أيضاً- تدوين الدواوين الذي كان في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما كثر الناس وانتشر الجند لم يعد يعرف من خرج في الجيش أو السرية ومن لم يخرج، فأشار المغيرة بن شعبه -رضي الله عنه- على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يضع الدواوين التي يكتب فيها أسماء الناس -أسماء الجند والمقاتلة- فيعرف من تخلف، ويعطون أرزاقهم ورواتبهم، وكانت هذه معمولاً بها عند الروم، ولم تكن معروفة عند المسلمين، ولم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أبو بكر، ولم يقل عمر -رضي الله عنه-: إن هذه قضية أنتجتها عقول الكفار.
سادساً: لا تتشبه بهؤلاء:
لما كان تمييز الشريعة الإسلامية للمسلمين مقصوداً، ولما كان تميز هذه الشريعة -أيضاً- عن غيرها مقصوداً للشارع، وكان الشأن أن يكون المسلم على أكمل الأحوال اللائقة، جاءت أحكام الشرع بالمنع من التشبه بالكفار وبناقص الديانة وناقص العلم، كما تضمنت حفظ مقتضى الفطرة، فمنعت من تشبه الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، كما رفعت شأن المسلم، وأكرمته فمنعته من التشبه بالحيوانات، وكذلك نزهته عن أخلاق الشياطين فمنعته من التشبه بهم.
فمن هؤلاء الذين لا يجوز لنا من التشبه بهم بحال من الأحوال:
أولاً: الكفار، ويدل على ذلك أدلة كثيرة، فالله - عز وجل - يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[(18) سورة الجاثية].
فكل ما خالف هذه الشريعة من أعمال الكفار فإنه من أهوائهم.
وكذلك يقول الله - عز وجل -: (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[(48) سورة المائدة].
والله - جل وعلا - منع المؤمنين أن يتلفظوا بكلمة لربما نتوهم أنها يسيرة، إلا أنها ليست كذلك ففها نحاكي المشركين وإن كانت مع اختلاف القصد، إنها كلمة واحدة ومع ذلك نهينا عنها؛ ذلك أن اليهود كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "راعنا"، يقصدون به وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعونة، وحاشاه من ذلك - عليه الصلاة والسلام -، فالله - عز وجل - أدب المؤمنين، فقال ناهياً لهم أن يحاكوا المشركين في مثل هذا الكلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا)[(104) سورة البقرة].
نهاهم عن هذه الكلمة التي شابهوا اليهود فيها في الظاهر مع اختلاف القصد.
والله ينهانا -أيضاً- عن مشابهة المشركين في قسوة قلوبهم؛ كما قال الله - عز وجل -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)[(16) سورة الحديد].
وقد أخرج أبو داود وأحمد وغيرهما من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تشبه بقومٍ فهو منهم))[4].
فهذا الحديث فيه وعيد لهؤلاء المتشبهين بأعداء الله - عز وجل -.
ومما يدل على ذلك -أيضاً- حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التحذير والذم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟))[5].
وهذا يشمل المحاكاة لهؤلاء في عباداتهم وعاداتهم، ولهذا جاء الفرق بين صيامنا وصيامهم بأكلة السحر، كما أخرج مسلم ذلك في صحيحه عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))[6].
وكذلك في عاشوراء كما سبق بيانه، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))[7].
وفي رواية: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع))[8].
وقد خالف النبي - صلى الله عليه وسلم -أيضاً- المشركين حيث دفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس، وكان المشركون ينتظرون طلوع الشمس، ويقولون: (أشرق ثبير كي ما نغير) أي ينطلقون من مزدلفة إذا ظهرت الشمس وارتفعت فوق هذا الجبل الذي ينظرون إليه في جهة المشرق.
وهكذا في الإعلام بالصلاة، فقد اقتُرح على النبي - صلى الله عليه وسلم - البوق فأمتنع؛ لأنه من أمر اليهود، فاقتُرِح عليه الناقوس قبل الأذان، فامتنع؛ لأنه من أمر النصارى، واقتُرح - عليه الصلاة والسلام - النار فامتنع؛ لأنه من أمر المجوس، وكما نهينا -أيضاً- عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر كما سبق.
وكذلك -أيضاً- لا نحاكي هؤلاء في عاداتهم ومظاهرهم المختصة بهم، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حينما رأى عليه ثوبين معصفرين: ((إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها))[9].
ومن ذلك أيضاً حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار، بيض لحاهم، فقال: ((يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب)) فقالوا: إن أهل الكتاب يتسرولون، يعني يلبسون السراويلات ولا يأتزرون، فقال: ((تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب)) فقالوا: إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون، يعني يلبسون الخفاف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب))، فقالوا: إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، قال: ((قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب))[10].
ومن ذلك أيضاً حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى خالفوا المجوس))[11].
ومن ذلك حديث جابر ابن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصاري فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف))[12] أي من غير نطق، وليس معنى ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يشير بيده إذا سلم، لكن إذا كان الإنسان بعيداً لا يسمعك فيمكنك أن تشير إليه مع إلقاء السلام.
ومما يدخل في جملة الكفار الذين نهينا عن مشابهتهم أهل الجاهلية، والجاهلية هي الحالة التي كان عليها الناس قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكفي لمعرفة قبحها عنوانُها؛ فعنوانها يدل عليها، فهي منسوبه إلى الجهل، والجهل خلاف العلم ومن يرضى من الناس أن ينسب إلى الجهل؟!
جاء من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة.. وذكر منهم: ((ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية))[13].
وفي حديث جابر في ذكر خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة، وفيها قوله - صلى الله عليه وسلم - معلناً سقوط أمور الجاهلية كلها: ((ألا أن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع))[14].
وقد رأى الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- امرأة حجت مصمتة لا تتكلم -صامتة في حجها- فسأل عنها، قالوا: حجت مصمتة، فقال: هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، حيث كان الناس في الجاهلية يتقربون إلى الله - عز وجل - بهذا، يحج الواحد ولا يتكلم حتى يرجع من حجته.
النوع الثاني: ممن نهينا عن التشبه بهم، وهم أهل الأهواء والبدع وعرفنا الحكمة من هذا المنع، والمقصود بالبدعة: هي الطريقة المخترعة في الدين التي تضاهي الشريعة حيث يقصد بالسلوك عليها، ما يقصد بالطريقة الشرعية، والقاعدة في هذا الباب هي: أنه تجب مخالفة أهل البدع في ما عرف كونه من شعارهم الذي انفردوا به عن جمهور أهل السنة، وإن صح مستندهم فيه.
يتضح لكم هذا بمثال: هل سمعتم أحداً يقول: قال أبو بكر الصديق كرم الله وجهه؟ لا، وهل سمعتم أحداً يقول: قال أبو بكر الصديق - عليه السلام -؟ الجواب: لا.
ولكن سمعنا كثيراً من يقول: قال علي كرم الله وجهه، قال علي - عليه السلام -، فهل هذا الكلام الذي قيل هو حق أو باطل؟
لا شك أنه حق، وأن علياً -رضي الله عنه- مستحق لذلك، علي -كرم الله وجهه-، هو من خيار الصحابة، ولكن تخصيص علي بذلك فيه مضاهاة لبعض أهل البدع، ومن ثم يقال ليس لصاحب السنة أن يضاهيهم في ذلك، وإنما يترضى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً، فلو قال ذلك أحياناً فإنه لا يخص أحداً دون غيره، فلا بأس أن يقول: قال أبو بكر كرم الله وجهه، قال: أبو بكر - عليه السلام -، ويقول: قال علي - عليه السلام -، أما أن يخص ذلك بأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، فيكون ذلك شعاراً له، فإن هذا مضاهاة لبعض أهل البدع.
ثالثاً: ممن نهينا عن التشبه بهم وهم الفساق، وعرفنا الحكمة من ذلك، والفسق: هو الخروج عن طاعة الله - عز وجل -، أو هو تجاوز الحد بالمعصية، وترك الطاعة، وعليه متى يكون الإنسان فاسقاً؟
يكون الإنسان فاسقاً إذا فعل كبيرة ولم يتب منها أو بغلبة الصغائر عليه، والمداومة والإصرار عليها، والقاعدة في هذا الباب أن كل ما انفرد به أهل الفسق من الهيئات والأزياء فإنه يمنع التشبه بهم فيه، وما كان شعاراً للفساق أو النساء الفاسقات فليس للإنسان الذي هو على تقوى وصلاح وديانة أن يتشبه بهم في ذلك، وإن كان الفعل في أصله من الأمور المباحة، ما الدليل على ذلك؟.
الله - عز وجل - يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[(19) سورة الحشر].
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[15].
ولا شك أن هذا التشبه بهؤلاء يفضي إلى مفاسد حيث أن الإنسان لربما يفعل فعلهم، ويقارف ما قارفوه، مما أوجب لهم الفسق من معصية الله - عز وجل -.
ومثال ذلك تشقير الحواجب بالنسبة للمرأة، أو حف الحواجب ونتف الحواجب، فهذا لا شك أنه نمص، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله))[16].
فهذا من الكبائر ومن فعلته فهي فاسقة، لكن ما حكم تشقير المرأة لحاجبها؟ نقول: تكون بذلك متشبهة بالنامصة أليس كذلك؟ متشبهة بهذه الفاسقة، فليس لها ذلك.
الرابع: ممن ورد النهي عن مشابهته أن يتشبه الرجل بالمرأة، أو أن تتشبه المرأة بالرجل، والقاعدة في هذا الباب أن يُقال: كل ما أختص به الرجال شرعاً أو عرفاً منع منه النساء، والعكس، شرعاً المرأة اختصت بالحجاب أليس كذلك؟ هل يجوز للرجل أن يلبس الحجاب؟ لا، هذا مما اختصت به المرأة شرعاً.
ومث لذلك ما اختص به أحدهما عرفاً، فالرجل اختص بهذه العمامة، هل يجوز للمرأة أن تلبس هذه العمامة والعقال مثلاً؟ الجواب: لا.
الرجل عرفاً اختص بلبس الثوب القميص- فهل يجوز للمرأة أن تلبسه؟ الجواب: لا يجوز للمرأة أن تلبس زي الرجل وإن لم يكن ذلك من قبيل التخصيص الشرعي، لكن في عرف الناس صار ذلك مختصاً بالرجل.
لكن لو انتقلنا إلى بلد آخر أو بعد تطاول القرون صار المرأة تلبس هذا القميص والرجل يلبس شيئاً آخر، فهل يُقال: إنها في ذلك البلد متشبهة؟ الجواب: لا يقال: إنها متشبهة.
وقاعدة أخرى مفيدة في هذا الباب، وهي أن يقال: كل ما يجري على الرجال والنساء في هذا الباب يجري على الصغار من الذكور والإناث، فليس لك أن تأتي إلى صبي صغير وتلبسه ملابس البنت.
بعض الناس يفعلون هذا؛ لأنهم لا يوجد عندهم بنات -مثلاً- بل كل الذي عندهم ذكور فيلبسونه زي بنت ويدعونه على سبيل التمليح باسم بنت، ولربما ألبسوه الحلي! فلا شك أن هذا إفساد لفطرته.
وقد أخبرني بعض الأعضاء في الهيئة عن حالات يقبضون فيها على بعض هؤلاء الذين انتكست فطرهم من الجنس الثالث، ولمَّا يسألونه ما الذي حمله على ذلك؟ بعضهم يقول: كنت صغيراً في بيت لا يوجد فيه بنات فكان أهلي منذ الصغر يلبسونني زي البنات، ويدعونني باسم بنت، ويلبسوني الحلي!!.
وما الحليُّ إلا زينة من نقيصة *** تتمم من حسنٍ إذا الحسن قصرا
أما إذا كان الجمال موفراً *** فحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
فالرجل فيه هذا الجمال الطبيعي فهو ليس بحاجة إلى قلادة، وليس بحاجة إلى أساور، فلا يجوز للرجل أن يتشبه بالمرأة فيما كان من خصائصها التي عرفت بها، أو فيما كان يتعلق بتخصيص الشارع لها في بعض الأمور.
وكذلك بالنسبة للصغار لا نلبس الصغير لباس البنات ولا تلبس الصغيرة لباس الأولاد.
قاعدة أخرى:
ما حرم لبسه لم تحل صنعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم،، فلا يجوز لباس الصليب ولا الزنار، هل يجوز لأحد أن يصنع الصليب والزنار؟ الجواب: لا.
الألبسة الخاصة بالكفار هل يجوز لأحد أن يفتح مشغلاً ليخيطها للمسلمين؟ الجواب: لا، فكل ما حرم لبسه حرم ببيعه وصنعته لمن يلبسه ممن يحرم عليه لبسه، ما الدليل على منع تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال؟
الدليل: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في حديث ابن عباس: "لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء" وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم))[17].
وفي لفظ: "لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"[18].
هذه بعض الأدلة وهناك أدلة أخرى تدل على هذا المعنى، وهي كثيرة على كل حال، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وأمر خامس: ممن نهينا عن التشبه بهم وهم الأعراب، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس: ((من سكن البادية جفا))[19].
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه- قال: "أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن فقال: ((الإيمان يمان هاهنا، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر))[20]".
فالجفاء والغلظة عند رعاة الإبل، من ربيعة ومضر.
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعاً: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل))[21].
البادية كانوا يسمون صلاة العشاء العتمة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر أصحابه من أن يغلب تسمية الأعراب على العشاء، فهذا لا شك أنه يدل على منع التشبه بهؤلاء الأعراب في خصائصهم، وأعني بذلك ما كان من قبيل الجفاء والغلظة والشدة وما إلى ذلك مما لا يجمل ولا يحسن.
والنوع السادس: ممن نهينا عن التشبه بهم -أيضاً- هم الأعاجم، والأعاجم على نوعين:
الأول: أعاجم من الكفار، فأدلة منع التشبه بالكفار تكفي في هذا.
والقسم الثاني: هم الأعاجم من المسلمين، أما الأعاجم من الكفار، فيحرم التشبه بهم مطلقاً في خصائصهم الدينية، وفي خصائصهم العادية، يعني التي من باب العادات.
وأما التشبه بالأعاجم من المسلمين، فما كان من خصائصهم فإنه لا يحسن ولا يجمل أن يفعل، لماذا؟ لأن ما عليه هؤلاء الأعاجم مما ينفردون به لا شك أنه نقص عما عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
فالقاعدة في هذا الباب -وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن الشريعة إذا نهت عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم -الكفار- قديماً وحديثاً، ودخل فيه ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون.
إذن: خصائص الأعاجم ولو كانوا من المسلمين لا يجمل بنا أن نتشبه بهم فيها، لكن هل هذا على سبيل التحريم بالنسبة للمسلمين؟ الجواب: لا، وإنما على سبيل الكراهة.
مثال ذلك: النساء الآن عندهن موضة يسألن عنها دائماً تقول المرأة: ما حكم لبس البنجابي؟
نقول: هذا من زي العجم، نعم هم من أعاجم المسلمين، لكن لا يحسن أن تتشبهي بهم فيما كان من خصائصهم.
لكن لو كان هذا البنجابي صار ذائعاً شائعاً بين الأمم عند العرب وعند غيرهم فلا إشكال، لكن هل يحرم عليها أن تلبس هذا البنجابي؟ الجواب: لا، لا يحرم عليها؛ لأنها لم تتشبه بالكفار، وإنما تشبهت بالأعاجم المسلمين، لكن ذلك لا شك أنه نقص، فنحن لما وقعنا فيما وقعنا فيه من اللهاث وراء الأمم في البحث عن شيء نفعله أصبحنا نجمع من هاهنا وهاهنا؛ لعلنا نحصل بذلك ألوان الكمالات.
يتبع