خروج المعتكف عن المسجد والاشتراط فيه2-2
د.سعد بن تركي الخثلان
المبحث الثالث : خروج المعتكف من المسجد
سبق القول بأنه يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في المسجد على اختلاف بين العلماء في ضابط المسجد الذي يشرع الاعتكاف فيه، والأصل مقام المعتكف في المسجد وعدم خروجه منه؛ إذ أن هذه هي حقيقة الاعتكاف، لكن هناك أحوال يباح للمعتكف الخروج معها من المسجد ...
والأحوال التي يباح للمعتكف معها الخروج من المسجد والأحوال التي لا يباح للمعتكف الخروج من المسجد - بمعنى أنها تبطل الاعتكاف - يمكن حصرها في الأقسام الآتية :
القسم الأول: الخروج لأمر لابّد منه طبعاً أو شرعاً.
القسم الثاني: الخروج لغير حاجة أو لأمرٍ ينافي الاعتكاف.
القسم الثالث: الخروج لأمر طاعةٍ لا تجب عليه.
وفيما يأتي بيان لهذه الأقسام:
القسم الأول: الخروج لأمرٍ لابّد منه طبعاً أو شرعاً:
يجوز للمعتكف أن يخرج لأمر لابد منه، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم في الجملة، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله : " لا خلاف في أنّ له الخروج لما لابّد له منه "[1] اهـ .
ومن أمثلة ما لابد منه طبعاً أن يخرج لقضاء حاجة البول والغائط، وقد اتفق العلماء على ذلك، قال ابن المنذر رحمه الله : " أجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول "[2] اهـ.
وقال ابن القطان رحمه الله : " أجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول "[3] اهـ.
وقال الماوردي : " خروج المعتكف للبول والغائط جائز إجماعاً "[4] اهـ .
وكذا نقل الإجماع على ذلك غيرهم، ومستند هذا الإجماع هو ما جاء في الصحيحين[5] عن عائشة رضي الله عنها قالت : ... وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتفقوا على استثنائها واختلفوا في غيرها من الحاجات "[6] اهـ .
ولأن البول والغائط مما لابّد للإنسان منهما، ولا يمكن فعلها في المسجد فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليهما لم يصح الاعتكاف [7].
وفي معناهما الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه بهما، فله الخروج للإتيان بالمأكول والمشروب متى احتاج إليهما سواءٌ كان ذلك بالذهاب لمنزله والإتيان بهما أو بشرائهما [8].
إما إذا وجد من يأتيه بالأكل فهل له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألةعلى قولين:
القول الأول: ليس له الخروج من المسجد في هذه الحال فإن خرج بطل اعتكافه. وإليه ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية [9]والمالكية [10]والحنابلة [11]وهو وجه عند الشافعية [12].
القول الثاني: له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل وإن أمكنه ذلك في المسجد. وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعية [13] وقول عند الحنابلة [14].
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدل الجمهور لقولهم بأنه ليس للمعتكف الخروج من المسجد للأكل ومادام يمكنه ذلك في المسجد بما يأتي:
1- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفاً [15].
وقولها " إلا لحاجة الإنسان " كناية عن البول والغائط فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لا يخرج للأكل والشرب مع قرب بيته من المسجد .
2- ولأن الأصل في الاعتكاف لزوم المسجد والمكث فيه وعدم الخروج منه إلا لحاجةٍ ملحة، ومادام المعتكف يوجد من يأتي له بالأكل فقد أمكن قضاء حاجة الأكل في المسجد، فيكون خروجه في هذه الحال خروجاً لغير حاجة، والخروج لغير حاجة ينافي الاعتكاف [16].
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول لقولهم بأن المعتكف له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل وإن أمكنه ذلك في المسجد بتعليلات حاصلها :
قالوا إن في الأكل في المسجد دناءة وتركاً للمروءة، والمسلم مأمور بالصيانة، ثم إنه قد يكون في أكله في المسجد مشقة عليه فإن من الناس من يخفي جنس قوته على الناس، ثم إنه قد يكون في المسجد غيره فيستحي أن يأكل دونه، وربما إن أطعمه لم يكفهما، ثم إنه قد يحتشم من أكله المصلون، وربما دعاهم ذلك إلى الخروج [17].
واعترض على الاستدلال بهذه التعليلات بأن من ذكر ليس بعذر يبيح الخروج من المسجد والإقامة في المنزل للأكل، وإلا لو ساغ ذلك لساغ الخروج من المسجد للنوم في المنزل، إذ أن ما يرد على الأكل في المسجد مما ذكر يرد على النوم [18]، وما ذكر من أن في الأكل في المسجد دناءةً وتركاً للمروءة غير مسلم، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله وهو من أبعد الناس عما يخدش المروءة .
الترجيح :
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة وما استدل به أصحاب كل قول يظهر - والله أعلم - أن الراجح فيها هو قول الجمهور وهو أن المعتكف ليس له الخروج من المسجد إلى منزله للأكل مادام أنه يمكنه ذلك في المسجد، وذلك لقوة أدلته، ولضعف ما استدل به أصحاب القول الثاني كما يظهر ذلك من المناقشة .. وبناء على قول الجمهور إذا خرج المعتكف للأكل في منزله بطل اعتكافه والله تعالى أعلم .
وأما خروج المعتكف من المسجد لشرب الماء في منزله مع إمكان ذلك في المسجد فلا يجوز في قول أكثر الفقهاء[19] حتى عند الشافعية[20] وبعض الحنابلة الذين يجيزون للمعتكف الخروج إلى منزله للأكل، وقد فرقوا بين الأكل والشرب في المسجد بأنه في الأكل في المسجد تبذلاَّ ونقص مروءة بخلاف الشرب فليس فيه ذلك، ولهذا فإن استطعام الطعام مكروه واستسقاء الماء ليس بمكروه، وأكل الطعام في المسجد مما قد يستحيا منه بخلاف شرب الماء فليس مما يستحيا منه، قالوا : وقد استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء ولم يستطعم الطعام[21] والصحيح أنه لا فرق بين الأكل والشرب، وكلاهما ليس بمسوغٍ للمعتكف الخروج من المسجد إلا إذا لم يجد من يأتيه بهما، وما ذكره من المعاني التي لأجلها سوّغوا للمعتكف الخروج من المسجد للأكل في منزله قد سبقت الإجابة عنها.
ومن أمثلة الخروج من المسجد لما لابّد منه شرعاً الخروج للوضوء أو لغسل الجنابة أو لصلاة الجمعة إذا كان اعتكافه في غير مسجد جامع .
أما الخروج للوضوء وغسل الجنابة فإن لم يمكنه الإتيان بهما في المسجد جاز له الخروج باتفاق الأئمة قال ابن هبيرة رحمه الله : " وأجمعوا على أنه يجوز للإنسان الخروج إلى ما لابّد منه لحاجة الإنسان والغسل من الجنابة ... "[22] .
وإذا كان بقرب المسجد سقاية أو ما يسمى في وقتنا الحاضر بدورات المياه فهل له الخروج إلى منزله للوضوء وغسل الجنابة ؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ليس له الخروج إلى منزله في هذه الحال ويلزمه التطهر في سقاية دورات مياه المسجد.
وإليه ذهب الحنفية [23] والشافعية إلا أنهم يستثنون الوضوء إذا كان بعد قضاء الحاجة [24].
القول الثاني: له الخروج إلى منزله في هذه الحال والإتيان بالطهارة الواجبة . وإليه ذهب المالكية [25].
القول الثالث: التفصيل فإن كان لا يحتشم من دخول سقاية المسجد دورات المياه فليس له الخروج إلى منزله أو إن كان يحتشم من دخولها فله الخروج إلى منزله والتطهر فيه. وإليه ذهب الحنابلة[26] .
الأدلة :
أدلة القول الأول:
علل أصحاب هذا القول بعدم جواز خروج المعتكف للتطهر في منزله مادام يمكنه ذلك في سقاية المسجد بأنّ خروجه في هذه الحال خروج لأمرٍ منه بدّ، فبإمكانه أن يأتي بالطهارة الواجبة في سقاية المسجد أشبه خروجه إلى منزله للنوم ونحوه [27].
ونوقش هذا التعليل بعدم التسليم بأن خروجه في هذه الحال خروج لأمرٍ منه بد، بل هو لأمرٍ ليس منه بد، إذ قد يلحقه الضرر إذا كان يحتشم من ذلك [28].
أدلة القول الثاني:
علل أصحاب هذا القول لقولهم بجواز خروج المعتكف إلى منزله للإتيان بالطهارة الواجبة بأن هذا في معنى الحاجة المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلا لحاجة [29]، إذ لا فرق في الخروج من المسجد بين أن يكون لقضاء حاجة البول أو الغائط أو يكون للإتيان بالطهارة الواجبة [30].
ويمكن مناقشة هذا التعليل بأن ما ذكر إنما يسلم به لو لم يكن بقرب المسجد سقاية أو كان لكنه يحتشم من دخولها أما إذا كان يوجد بقرب المسجد سقاية ولا يحتشم من دخولها فلا حاجة لخروجه إلى منزله حينئذ .
أدلة القول الثالث:
علل أصحاب هذا القول لقولهم بأنه كان المعتكف لا يحتشم من دخول سقاية المسجد فليس له الخروج إلى منزله بأنه لا حاجة لخروجه في هذه الحال، والأصل في المعتكف لزومه المسجد وعدم خروجه منه إلا لحاجة، أما إذا كان المعتكف يحتشم من دخول سقاية المسجد فله الخروج إلى منزله للإتيان بالطهارة الواجبة قال الموفق ابن قدامة رحمه الله : " إذا خرج لحاجة الإنسان، وبقرب المسجد سقاية أقرب إلى منزله لا يحتشم من دخولها، ويمكنه التنظف فيها لم يكن له المضي إلى منزله، لأن له من ذلك بد، وإن كان يحتشم من دخولها أو فيه نقيصة عليه أو مخالفة لعادته، أو لا يمكنه التنظف فيها، فله أن يمضي إلى منزله، لما عليه من المشقة في ترك المروءة ... قال المروذّي : سألت أبا عبد الله عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجب إليك أو مسجد الحي ؟ قال : المسجد الكبير، وأرخص لي أن أعتكف في غيره، قلت : يتوضأ الرجل في المسجد ؟ لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد "[31] اهـ .
الترجيح :
بعد عرض أقوال العلماء في هذه المسألة ووجهة كل قول يظهر - والله أعلم - أن الراجح في هذه المسألة هو القول الثالث وهو أن المعتكف إذا كان يحتشم من دخول سقاية المسجد دورات المياه فله الخروج إلى منزله للإتيان بالطهارة الواجبة، وإن كان لا يحتشم من دخولها فليس له الخروج إلى منزله. والله أعلم .
وأما خروج المعتكف لصلاة الجمعة فقد سبق ترجيح القول بأنه يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون في مسجدٍ تقام فيه الجماعة، ولا يشترط أن يكون في مسجدٍ جامع ، وبناء على ذلك من اعتكف في مسجدٍ تقام في الجماعة دون الجمعة يلزمه الخروج إلى الجمعة باتفاق العلماء، ولكن هل خروجه للجمعة يبطل اعتكافه ؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول: أن خروج المعتكف للجمعة لا يبطل اعتكافه، وهو مذهب الحنفية[32] والحنابلة[33] ووجه عند الشافعية [34]، وقول عند المالكية[35] .
القول الثاني: أنَّ خروج المعتكف للجمعة يبطل اعتكافه وهو مذهب المالكية[36] والصحيح من مذهب الشافعية [37].
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدل أصحاب هذا القول لقولهم بأن خروج المعتكف للجمعة لا يبطل اعتكافه بما يأتي :
1- عموم الأدلة الدالة على مشروعية الاعتكاف في مسجدٍ تقام فيه الجماعة – والتي سبق ذكرها .
ووجه الدلالة : أن الشارع أذن بالاعتكاف في مسجدٍ تقام فيه الجماعة مع إيجاب صلاة الجمعة ، فدلّ ذلك على إذنه للخروج لصلاة الجمعة ، وما ترتب على المأذون غير مضمون [38].
2- أن الجمعة فرض عين ولا يمكن إقامتها في كلَّ مسجد فكان خروج المعتكف للجمعة خروج لما لابّد منه كالخروج لقضاء حاجة الإنسان [39].
3- أن الجمعة تقام مرة واحدة في الأسبوع فلا يضر الخروج إليها كما لو اعتكفت المرأة مدة يتخللها أيام حيضها [40].
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول لقولهم بأن خروج المعتكف للجمعة يبطل اعتكافه بأن الخروج من المسجد في الأصل منافٍ للاعتكاف ويستثنى من ذلك الخروج لما لابّد للإنسان منه كقضاء الحاجة، والخروج للجمعة منه بدّ ويمكن الاحتراز منه بالاعتكاف في المسجد الجامع فإذا لم يفعل بطل اعتكافه[41] .
ويمكن مناقشة هذا التعليل بأن الشارع قد أذن في الاعتكاف في مسجدٍ تقام فيه الجماعة ون لم يكن مسجد جامع ، وإذا اعتكف الإنسان في مسجدٍ غير جامع فخروجه للجمعة خروج لما لابّد منه .
الترجيح:
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة وما استدل به أصحاب كل قول يظهر - والله أعلم - أن القول الراجح فيها هو القول الأول وهو أنَّ خروج المعتكف للجمعة لا يبطل اعتكافه لقوة أدلة هذا القول ولضعف أدلة أصحاب القول الثاني كما يظهر ذلك من مناقشتها .
القسم الثاني : الخروج من المسجد لغير حاجة أو لأمر ينافي الاعتكاف:
اتفق العلماء على أنّ خروج المعتكف من المسجد لغير حاجة يبطل الاعتكاف، قال ابن رشد: اتفقوا على أنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة [42].
ومن أمثلة الخروج لغير حاجة : الخروج للبيع والشراء والاكتساب والنزهة ونحو ذلك، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه لأرجّله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة "[43]. ولأن الاعتكاف هو اللبث في المسجد فإذا خرج منه لغير عذر فقد فعل ما ينافيه فبطل كما لو أكل في الصوم [44]، وإذا كان الخروج لغير حاجة مبطلاً للاعتكاف فإن الخروج لأمرٍ ينافي الاعتكاف- كالخروج لجماع أهله أو مباشرتهم- مبطلّ للاعتكاف من باب أولى
القسم الثالث : الخروج لأمر طاعةٍ لا تجب عليه:
اختلف الفقهاء في خروج المعتكف لأمر طاعةٍ لا تجب عليه كعيادة المريض وشهود جنازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه من أجازه إذا اشترط المعتكف ذلك في ابتداء اعتكافه ...، وحيث إن هذه المسألة تتعلق بحكم اشتراط المعتكف وأثر ذلك الاشتراط، وهذا الحكم هو محل البحث في المبحث الآتي فسوف نؤجل الحديث عن هذا القسم إلى ما بعد المبحث الآتي .
يتبع