عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06-02-2020, 03:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,493
الدولة : Egypt
افتراضي القصة في السنة النبوية

القصة في السنة النبوية


د. مصطفى عطية جمعة






يتناول هذا المبحث أحد أشكال التعبير في الأحاديث النبوية الشريفة، وهي شكل القصة، والقصة في مفهومها البسيط فن يعتمد على الحكاية، وفي الحكاية أحداث وشخوص ومكان وزمان، حيث ينبع مصطلح " القص " - معجميًا - من تتبع الأثر، ثم تطور إلى معنى الحكاية، ويكاد الخبر والقصة يتفقان في الدلالة على الحكي [1]، وبالنظر إلى استعمالات القصة المختلفة نجد أنها لا تخرج عن ذلك المدلول، وإن أصبحت مصطلحًا عامًا، ينتظم الفن القصصي بأسره على اختلاف أشكاله [2]. فعندما نذكر "القص" أو "القصص" لا نقصد فن القصة القصيرة أو القصة الطويلة أو الرواية، بل المقصود دلالة القص عامة.

وقبل ذلك دلالة وأغراض يريدها منشئ القصة ومقدمها. وقد أجاد الرسول صلى الله عليه وسلم في توظيف القصة في أحاديثه الشريفة توظيفاً يخدم القيم السامية التي يرومها، خاصة أن النفس البشرية تميل إلى سماع القصص، وتحتفي بالحكايات، ويسهل إيصال المعلومة والحكمة عبر القصة، بدلاً من القول المباشر.

ولسنا بصدد عرض أبرز القصص التي وردت في كتب الصحاح، بقدر ما يهمنا أن نتعرف على القصص بوصفها شكلاً من أشكال الحوار الذي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو شكل موظف في ثنايا الحوار، لذا فإن تناول القصة في هذا المبحث سيكون خاضعا لآلية الحوار، بمعنى أن القصة ستكون واردة ضمن سياق الحوار النبوي، فهي خاضعة لمنطق الحوار الذي تكون القصة فيه مثالا أو دليلا أو تعليلا أو وسيلة لتوصيل مفهوم أو معلومة.

وعليه يمكن أن نقسم أشكال القصص في الحوار النبوي إلى عدة أشكال:
1) المثل القصصي:
حيث تكون القصة مثالاً يبسط المفهوم والمراد، وهذا المثال مجرد قصة بأحداث مفترضة، لذا هي تقترب من شكل المثال العام، أو القص المتخيل، الذي يلامس حياة المتلقي بشكل عام، ويبدأ متن الحديث بطرح مفهوم وتأتي القصة توضيحا لهذا المفهوما وتبسيطا له.

عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر قوما، يعملون له عملا يوما إلى الليل، على أجر معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر أجيرين بعدهم، فقال لهما: أكملا بقية يومكما هذا، ولكما الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر قالا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال لهما: أكملا بقية عملكما، ما بقي من النهار شيء يسير، فأبيا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور[3].

فقد جاء استهل الحديث بمقارنة بين: المسلمين واليهود والنصارى، وجاء الاستهلال غير مكتمل، فلم نعرف مثل أصحاب الديانات الثلاث بماذا، فقد ارتبط هذا المثل بالقصة المروية، وجاءت القصة - نحويا - خبرا للمبتدأ (مثل )، وهذا يعني التعاضد اللغوي والبنائي بين جوانب الحديث الشريف، ونعلم أن المضمون الكلي للقصة هو المقارنة بين جهود أصحاب الديانات الثلاث في الوفاء بخدمة الإسلام والذود عنه، ونيل ثواب إتمام دعوته وإكمال أركانه. فالفريق الأول عمل منتصف النهار، ولم يستطع أن يكمل العمل، فغادر متنازلا عن الأجر، والفريق الثاني عمل إلى العصر، وغادر رغم أن المتبقي على آخر اليوم شيء يسير، ولكنهم غادروا متنازلين عن الأجر، أما الفريق الثالث فهو أتم العمل حسب الوقت ونال الأجر.

في الحديث أمور عدة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم: جعل الديانات السماوية الأساسية الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام في بوتقة واحدة، وهذا دليل على اعتراف الإسلام بالنبوات والرسالات السابقة، وأنها وغيرها من دعوات أنبياء الله تخرج من مشكاة واحدة، بغض النظر عن التبدل والتحريف في بعضها، وهنا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم: استيفاء العمل هو الأساس في قبوله، وأن الخالق عز وجل يستوفي كل أمة أجرها، ولكن التقاعس بشري.

أيضا، ارتكز الحديث الشريف على الحوار بشكل خفي، فقد كان مطلع الحديث ثم المثل القصصي المقدم معتمدا على بناء حواري يتمثل في المقارنة بين: جهود أتباع الديانات الثلاث، وقد نال المسلمون الأجر كاملا لأنهم تحمل مشاق العمل، وأتموه لوقته، فنالوا أجر من سبقهم، مصداقا لقوله: " واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور "، ولننظر إلى لفظة "النور " الذي ختم بها الحديث، فهي معبرة عن أن نور المشكاة واحد في ضوئه، ولكن أين من يتلقى الضوء كاملا: إيمانا وعملا وجهادا.

في الحديث السابق أيضا: عدم التمييز بين اليهود والنصارى في العمل، ويبدو من الترتيب في المثل القصصي أن الرسول يقصد بالفريق الأول: اليهود. والنصارى هم الفريق الثاني، أما المسلمون فهم الفريق الثالث، فهذا ترتيب زمني تتابعي، يبسط مفهوم الجهد البشري في تلقي الإيمان والنهوض به.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر: فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال بها في مرج أو روضة، فما أصابت في طِيَلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها، فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له، فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ثم لم ينس حق الله في رقابها، ولا ظهروها، فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر[4].

يعتمد هذا الحديث على المقارنة أيضا، مقارنة بين حابس الخيل، فهي على ثلاثة أحوال: الأول: أن تكون أجرا لرجل نذرها للجهاد في سبيل الله: محاربة للكفر، وتحريرا للأرض، ودفاعا عن حرمات الإسلام، وهذا بأن يجعل صاحبها خيله نذرا لله تعالى، فهي محبوسة من أجل ساعة الجهاد، فيثاب على خدمته لها، وهي مثوبة تبدأ من ساعة تهيئتها للجهاد، فكل ما يقوم به صاحبها من أجلها ينال الثواب عليه، فلو قام على رعيها في حديقة أو مرج، فهو مثاب على ذلك، حتى لو أنه تركها ترعى أو تشرب من نهر غير عامد، يناله الأجر أيضا، فالأجر موقوف على النية. وهذا مصداق لقوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60] [5]، وهناك تناص (اقتباس) من المصطلح القرآني " رباط الخيل "، في تواشج ما بين القرآن والحديث الشريف، وتعميق الدلالات القرآنية، وهي واضحة على امتداد الأحاديث النبوية.

والحال الثاني: أن تكون سترا أي مانعة عن النار لصاحبها، وهذه تكون لرجل ربّى الخيل كمال ورزق له ولعياله، وأدى زكاة الله فيها، فهي ستر له.

والحال الثالث: أن تكون وزرا وسوءا ومصدرا لشقاء صاحبها، وهذا لمن يربط الخيل تكبرا بين الناس، وخيلاء له ولعياله، فتزيد نفسه غرورا، وسلوكه سطوة، وتصرفاته عنفوانا، فيضر من حوله من المسلمين وغير المسلمين، فتكون الخيل هنا وبالا وسيئات عليه.

وهذه مصداق للآية الكريمة: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14] [6]. والخيل المسوّمة هي الخيل المطهمة والراعية الحسان [7]، وهي شهوة ومما يحبه المرء في دنياه، وتتقارب في الدلالة مع المركبات الحديثة الفارهة، كوسيلة ركوب.

في الحديث حض على الجهاد، وعلى العمل وإخراج الصدقات، وعلى التواضع، عبر تبيان سبيل تعامل المسلم مع الخيل، فإما أن تكون للجهاد، أو تكون وسيلة رزق ومن ثم إخراج حق الله فيها من زكاة وصدقة، ثم النهي عن اتخاذها وسيلة للتكبر، بين الناس عندما يعتلون ظهورها.

استهل الرسول صلى الله عليه وسلم: حديثه بإجمال ثم أعقبه بتفصيل، والإجمال جاء قاعدة أساسية في التعامل مع الخيل، وهو تعامل نفسي أخلاقي ينطلق من منظومة الإسلام في تربية النفس البشرية حتى لا يطغى الشح والتكبر عليها، وتصبح الممتلكات وسيلة للخير والجهاد والتواضع.

2) قصص الرحمة بالحيوان:
ويقصد بها القصص الواقعية التي بها مظاهر الحنو على الحيوان، وهي تختلف عن النوع السابق، في كونها قصصا حقيقية، كما ورد في تفسيرها، وقد رواها الرسول صلى الله عليه وسلم: من باب التقرير الواضح للحادثة التي وقعت بالفعل، فالرسول يعيد ذكرها، مؤكدا وقوعها، ومبينا نتيجة الفعلة ذاتها ثوابا أو عقابا.

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر [8].

هذا الحديث نزل في أحد رجال بني إسرائيل؛ نال مغفرة من الله تعالى لأنه سقى كلباً كاد يموت عطشاً، فقد نزل بئرا فشرب، فلما صعد وجد كلبا يلهث من العطش، حتى أنه يلحس التراب لحسا، فنزل البئر، فملأ خفه (حذاءه) ماء، ثم وضعه في فمه، وصعد البئر، وسقى الكلب، فنال الشكر من الله تعالى، وأيضا المغفرة الواسعة.

ومن الموقف المذكور، خرجت الحكمة الشاملة من الحديث أن " في كل كبد رطبة أجر "، فالمراد من الرطوبة الحياة، والرطوبة تتأتى من الماء [9]. وهذا الأمر على سبيل الوجوب.

ونرى في الحديث أن الصحابة طرحوا سؤالا على الرسول صلى الله عليه وسلم: فهل ينالون ثواباً إذا أحسنوا للبهائم عامة؟، وجاءت الإجابة مؤسسة لحكم عام في الترفق بالبهائم. وقد اعتمدت بنيةُ الحديث القصةَ مطلعا، ومن ثم كان الحوار استفهاميا عن ثواب من يحسن للبهائم في العموم.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: (عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار). قال: فقال والله أعلم: لا أنت أطعمتها ولا سقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض [10].

فهذه المرأة دخلت النار لأنها حبست القطة، لم تقم بإطعامها وسقيها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض أي هوامها وحشراتها، وقد جاء في شرح الحديث الشريف: أن المرأة غير مأمورة بقتل القطة، لأنها لم تفعل شيئا، وإنما حبستها دون ذنب، فدخلت النار [11]. والقصد هنا: الرأفة بالحيوان ورعايته وعدم إيذائه. وجاء بناء الحديث: ذكر القصة بإيجاز شمل حبس القطة، حتى الموت جوعا، ثم العاقبة أن دخلت صاحبتها النار في الشطر الأول. ثم جاء الشطر الثاني: جاء تعليلا لسبب دخولها النار، وهو تعليل منطلق من رحابة الرحمة العامة بمخلوقات الله تعالى، فإن لم نرعها، فلنتركها تنل رزقها المقدر من قبل الله تعالى، فهو رازقٌ مخلوقاته، فكأننا أشبه ببناء حواري على شطرين: شطر قصصي، وشطر تعليل له.

2) قصص الصالحين من الأمم السابقة:
وهي قصص مروية عن الصالحين من الأمم السابقة، وقد جاءت ضمن سياق الحكاية الطويلة نوعا ما، بها الكثير مما يمكن التحاور حوله، وهي قصص مكتملة الدلالة، واضحة في إرشادها، تبرهن من خلال كونها حدثت بالفعل على كثير من القيم الإنسانية والإسلامية العظيمة.

عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجّيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فناء بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) [12]

الحديث السابق كان حوارا قصصيا مرويا بين الرسول وصحابته، وشفاهية الحوار واضحة من بنيته المعتمدة على الحكي المتمهل، الذي نجد أن الرسول يتوقف فيه من آن لآخر، كما يذكر الراوي مثلا: " قال النبي صلى الله عليه وسلم ): قال الثالث: اللهم... ". فهذا يعني أن الرسول كان يتوقف متأملا وقع سرده الأحداث على وجوه مستمعيه، وربما يعن لأحدهم سؤال، ولكن متن الحديث يخلو من السؤال لطبيعة التشويق الذي يعتمده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولأن الأحداث واضحة متعللة في تتابعها.

أكد الرسول في مطلع الحديث على أن القصة واقعة بالفعل، حين قال: "..ممن كان قبلكم "، فهذا توكيد على واقعية الشخوص والأحداث، خاصة أن القصة تنقل السامع إلى أجواء إيمانية خالصة، لا مجال للاجتهاد البشري فيها، فلا سبيل للخروج من كهف في باطن جبل، سد بابه بصخرة عظيمة، إلا باللجوء إلى المولى سبحانه وتعالى، فقد انعدمت القدرة البشرية في هذا الموقف، وامتحنت القلوب، وبدأت مناجاة العباد لربهم، فالأول أنجاه الله بإخلاصه في طاعة والديه، بموقف أخفض الابن جناح الذل من الرحمة فيه، حيث ظل واقفا حاملا إناء الغبوق، منتظرا استيقاظ والديه المسنين، حارما أبناءه منه. والثاني تعفف عن الوقوع في الفاحشة بعدما امتلك جسد ابنة عمه وهي أحب الناس إليه، وقام خوفا من عقاب الله. والثالث: يؤدي أمانة أجر رجل عمل عنده يوما، ولكنه يؤديه أضعافا مضاعفة: خيلا ورقيقا وأنعاما، ولو شاء لاكتفى بإعطاء الأجير أجره فحسب، خصوصا أنه غادر دون أن يطالب بأجره.

المواقف الثلاثة فيها أمور عدة:
أولها: إنها تمثل أشد لحظات الإخلاص لله تعالى.

ثانيها: إنها متدرجة في طبيعة الاختبار ذاته، فالموقف الأول أقل امتحانا للقلب من الموقف الثاني حيث شهوة الجسد، ورغبة النفس، ولكنه يترفع، أما الثالث فهو يعطي ثمرة تعبه في استثمار أجر الرجل، عن طيب خاطر، وحب النفس للمال شديد.

ثالثها: إن الابتلاء متنوع في كل موقف ما بين فتنة الولد، وفتنة المرأة، وفتنة المال.

رابعها: إن القيم إنسانية الطابع، ما بين طاعة الوالدين، وإعفاف النساء، وإعطاء حق الأجير/ العامل، وهي قيم سامية مشتركة بين البشر، في الأديان السابقة بدليل أن القصة حدثت في أمم سابقة، ثم عززها الإسلام وشدد عليها.

خامسها: إن بناء القصة يعتمد على المناجاة الخالصة للعبد مع ربه، بأشد مواقف الإخلاص والعبودية المطلقة لله تعالى، وهذه المناجاة حوار موصول مع الله.

سادسها: إن الطابع الحواري واضح في ثنايا القصة، فكل موقف يجعل النفس تتحاور حول مدى ترسخ هذه القيم في النفس، وهي قيم أساسية في نفس كل مسلم، وثابتة في مختلف الأديان السماوية المنزلة من عند الله تعالى. كما أن الشخصيات الثلاثة بمواقفها المختلفة شكلت بناء حواريا فيما بينها، فالتنوع يجعل الذهن متفكرا، مقارنا، طارحا الأسئلة، أي متحاورا مع الشخصيات والأحداث.

سابعها: إن هذه القصة، وغيرها من القصص النبوي، تثير في السامع الشعور بالتفاؤل، والأمل في الله تعالى دائما، وأن الأمور مهما اشتدت، وعظُم سوادُها فإنها إلى انفراج مادام العبد حسن الظن، صادق التوكل على الله تعالى. والتفاؤل شعور " بتوقع الخير الذي يؤدي إلى الرضا والفرح والسرور، ثم السعادة، وما ينعكس عنه من أثر إيجابي...، يدفعه إلى البحث عن وسائل عمل الخير، والرغبة في فعله، والاستزادة منه " [13]، والهدي النبوي متوافق مع الفطرة البشرية، لأن النفس تميل بطبعها إلى الأمل، والرغبة في الخير.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.15%)]