بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة
د. عبدالله علمي
بلاغة الفواصل القرآنية
(قراءة في آيات العقيدة)
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم المرسلين، وبعد:
شكَّلت الفواصل القرآنية ظاهرةً جديدة أمام العرب؛ حيث لم يكن لهم معرفةٌ بها، فالفاصلة بشكل عامٍّ هي: "آخر كلمةٍ في الآية القرآنية؛ كالقافية في الشعر، وقرينة السجع، قال القاضي أبو بكر ت 543 هـ: "الفواصل حروفٌ متشاكلة في المقاطع، توجب حُسنَ إفهام المعاني..."[1].
فالفاصلة في القرآن تأتي تابعة للمعنى، وحسب ما يتطلبه المقام، فلا تَحِلُّ فاصلةٌ محلَّ أخرى، "فالسجعات نازلة في مواضعها، ملائمة لموقعها، بريئة من التكلف، تَتبعُ فيها الألفاظُ المعاني، فلا نقص ولا زيادة، ولا تَكرار لضرورة السجع"[2].
وبالإضافة إلى الدورِ الإيقاعي الموسيقيِّ للفاصلة القرآنية، فهي تقوم بإحكام المعنى، وإبلاغ معانٍ مقصودة حسب المقام.
وإذا كان الإيقاع الصوتي للفاصلة القرآنيةِ يُعطي نغمًا محببًا للنفوس، تلذُّ له الأسماع العربية المجبولة على حبِّ القوافي في الأسجاع والأشعار، فإن للفاصلة القرآنية أغراضًا بلاغية كثيرة.
وقد وقف عندها علماءُ الإعجاز على اختلاف مشاربهم وتوجُّهاتهم الفكرية؛ حيث رفع مِن قيمتها المعتزلةُ؛ أمثال الزمخشري ت 538 هـ، ونوَّهوا بها، في حين ذهب الأشاعرةُ - وعلى رأسهم عبدالقاهر الجرجاني ت 471 هـ - إلى التقليل من قيمتها البلاغية.
وسنسعى في هذا المقال إلى مقاربة فواصل السُّوَر العقَدية المكية؛ التي تناقش قضية التوحيد، وسنُبيِّن أثرها في مخاطبة وِجدان ومشاعر المخالفين لعقيدة القرآن (الوحدانية).
واتخذت الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة موقعَ التذييل والختام؛ مقدمةً معانيَ بلاغيةً شديدةَ الدقة، بشكل بلاغي إبلاغي يَمزُج بين القوة والصرامة والهدوء والاسترسال.
1- تأطير نظري: الفاصلة القرآنية وقضية الإعجاز:
أ- تحديد مصطلح الفاصلة:
الفاصلة لغةً: هي الحاجز بين الشيئين، نقول: فصل بينهما فصلًا، وانفصل الشيء؛ أي: قطعته فانقطع، والفصلُ: القضاء بين الحق والباطل[3].
واصطلاحًا: هي ما يتردَّد في باب السجع عن الفِقرة، ونعني بها الجملة التي تنتهي بها الفاصلة، وقد فرَّق السيوطي (ت 911 هـ) بين الفاصلة والسجع، فقال: "الفواصل بلاغة، والأسجاع عيبٌ"[4].
وحدد بعضهم الفاصلة في الكلمة الأخيرة من الفِقرة، ورأى البعضُ أن الفاصلة تشمل الجملة الختامية كلها.
يقول الزركشي ت 794 هـ: "الفاصلة هي كلمة آخر الآية"[5].
وربَّط الرُّمَّاني ت 384 هـ حدَّ الفواصل بتمام المعنى، فقال: "الفواصل حروف متشاكلة توجب حُسن إفهام المعاني"[6].
وأخرُجُ مِن هذا بقولي: الفاصلة هي ما خُتِمت به الآيات القرآنية من حروف أو كلمات، أو جُمَل تُلخِّص معاني النصوص.
سمات الفاصلة القرآنية:
ب1- أداء المعنى الدقيق:
نقلت الفواصل القرآنية معانيَ الآيات، وأبلغتْ دلالاتِها بشكل مُعجِز؛ حيث صوَّر القرآن انفعالات النَّفْس البشرية، فتبدأ الفاصلة من فاتحة السورة، ثم تنتهي في خاتمتها.
والمَواطن الرئيسة التي أتت للحِجاج العقدي حافلةٌ بهذه الانفعالات حسَب المواقف؛ يقول صاحب الظلال: "وإنك لتُحِسُّ لمسات الرحمة الندية ودَبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال، كما تُحِس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقْع كلمة الشِّرك التي لا تُطيقها فطرتُه"، فالفاصلة القرآنية تتماهى بشكل مُعجِز مع معاني آيات العقيدة:
ففي المواقف السهلة السلسة تُختَتم الآيات مثلًا بحروف تضارع معانيها؛ مثل حروف الياء والألف، عكس المواطن التي تقتضي الشدة والعنف، فهي تنتهي مثلًا بحروف قوية كحرف الزاي، نتمثل ذلك في سورة مريم عند قوله تعالى: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 6].
فالموقف موقف دعاء رقيق مِن نبي الله زكرياء إلى ربه، يستدعي الختم بحرف الياء والألف المصورِّيْنِ لهذه الحالة التي وُصِف فيها الدعاء بالخفاء؛ لأن السر في الدعاء أقربُ إلى اطمئنان النفس وإلى الإخلاص، كما أن زكرياء بلغ سنًّا متقدمةً تستدعي اللينَ.
وفي السورة نفسها تتلوَّن الفاصلة بحرف النون الباعث على معاني القوة والغِلظة في موقف إثبات العقيدة؛ قال تعالى في ختام السورة: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [مريم: 34، 35].
فالنص هنا جاء للحسم في قضية مريم وابنها عيسى عليهما السلام، وللفصل في مسألة نبوَّته، "يتغير نظامُ الفاصلة فتطول...، فتُصبح بحرف النون أو الميم، وقبلهما مدٌّ طويل، وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يُصدر حُكمًا بعد نهاية القصة مستمدًّا منها، ولهجة الحكم تقتضي أسلوبًا موسيقيًّا غيرَ أسلوب الاستعراض - الذي سبَق في قص حكاية مريم - وتقتضي إيقاعًا قويًّا رصينًا بدل إيقاع القصة المسترسل"[7].
يتبع