
06-02-2020, 04:21 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,255
الدولة :
|
|
رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة
بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة
د. عبدالله علمي
ب2- بلاغة الفاصلة شكلًا ومضمونًا:
لم تقتصر فواصل القرآن الكريم على إكساب البيان جمالًا واتساقًا فحَسْب، بل هي معجزة في معانيها؛ يقول الرماني ت 384 هـ: "فواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة؛ لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها"[8].
وللفواصل أثرٌ مهمٌّ في تحديد المعاني، يصل إلى حد الفصل بين الآراء الفقهية، وبيان الراجح من المرجوح أثناء استنباط الأدلة الشرعية؛ يقول القنوجي ت 1307 هـ: "لا يتأتى لأحدٍ معرفة معنى القرآن، ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل"[9].
وقد توهَّم بعضُ الباحثين حينما حصروا وقصَروا دور الفاصلة في الجمال الشكلي، وسنسعى إلى بيان عكس هذا في بحثِنا التطبيقي على آيات العقيدة؛ يقول تمام حسان ت 1432هـ: "الفاصلة القرآنية لا تدلُّ بالضرورة على تمام المعنى، ومِن ثَم تُصبح وظيفتها في القرآن غير نَحْوية ولا دلالية، فإن لم يكن للفاصلة غرض نَحْوي ولا دلالي، فماذا يكون الغرض منها إذًا؟ أغلب الظن أن الغرض منها جمالي صرف"[10].
الرأي نفسه انحاز إليه بعضُ أئمة اللغة مِن قبلُ؛ مثل الفراء ت 207 هـ أثناء توجيهه بعض فواصل الآيات، نذكر من ذلك قوله تعالى: ï´؟ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ï´¾ [الضحى: 1 - 3]، فتَكتفي بالكاف الأولى من إعادة الأخرى، ولأن رؤوسَ الآيات بالياء، فاجتمَع ذَلِكَ فيه) ، لكن هذا الانزياح الأسلوبي لم يكن لغايةِ الفاصلة في حد ذاتها؛ كما قال الفراء، بل إن حذف كاف (وما قلى) له معنى دلالي لم ينتبه إليه، ويتجلى هذا إذا تتبَّعنا بناءَ النص والسياق الذي نزل من أجله؛ فالله سبحانه لم يُخاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم بطريق مباشر؛ لأن الحالةَ النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم لا تَسمَح بعد انقطاع الوحي، فالمقام مقام إيناس، ولفظة (قلى) تَحمل معنى الطرد والإبعاد الشديد؛ وهذا خليقٌ ألا يضاف لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، عكس لفظة (الوداع) التي تحمل معنى الفراق اللطيف على أمل الرجوع، والتي استعمل فيها الله تعالى كاف المخاطب.
إذًا: الفاصلة القرآنية تجمع بين جوهر المعنى أولًا، ثم حُسن الشكل ثانيًا، ولا تَعتد بألفاظ جميلة، أو تبحث عن مشاكلة فنية تَجور على المعنى لتحقيق زُخرف البديع.
ج- الفاصلة القرآنية وقضية الإعجاز:
يصطدم الباحث في إعجاز الفاصلة القرآنية برأي إمام البلاغة عبدالقاهر الجرجاني ت 471 هـ - قدَّس الله سرَّه - الذي ينفي جملةً وتفصيلًا إعجاز فواصل القرآن؛ يقول:
"إِنْ زعَم زاعم أن الوصف الذي تُحُدُّوا به هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع وفواصلَ، كالذي تراه في القرآن؛ لأنه أيضًا ليس بأكثر من التعويل على مراعاة الوزن، وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علِمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يُعْوِزهم ذلك، ولم يتعذَّر عليهم، وقد خُيِّل إلى بعضهم - إن كان الحكاية صحيحة - شيءٌ من هذا، حتى وضع على ما زعَموا فصولَ كلامٍ أواخرُها كأواخر الآي" [11].
نناقش هذا النص علَّنا نقف على قيمة الفاصلة في إعجاز القرآن:
هل الفاصلة في القرآن كالقوافي في الشعر كما قرَّر الجرجاني؟
هل يحق لنا أن نتحدث عن إعجاز الفاصلة القرآنية، أم أن هذا ضربٌ من الوهم والخيال بعبارة الجرجاني؟
ج 1- صواب عبدالقاهر الجرجاني:
الغرض الأساس الذي ألَّف من أجله عبدالقاهر كتاب دلائل الإعجاز هو الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني، وبيان مواطن عجز العرب عن مناظرة القرآن، والمتتبِّع لكتاب الدلائل يتبيَّن له جليًّا أن عبدالقاهر لا يَحفِل بالمظاهر الشكلية للأسلوب؛ كالسجع وغيرها من ألوان البديع، بل يغوص في عمق المعاني، ولعل هذا هو السبب في عدم عده ضروب البديع من البلاغة.
وهذا رأي أُشايعه؛ لأن القرآن الكريم مُعجِز بمعانيه لا شكله، وهو كتاب يغوص في أعماق النفوس، ويخاطب جميع أنماط التفكير، ويبلغ مراد الله المحكم بلا زُخرف ولا كبير صنعةٍ، وهذا أُسُّ الإعجاز كما صرَّح بذلك الجرجاني بقوله: "وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي، وبين ما قاله الناس في معناها؛ كموازنتهم بين قول الله سبحانه: ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 179]، وبين "قتلُ البعض إحياءٌ للجميع" - خطأً منهم؛لأنَّا لا نعلَم لحديث التحريك والتسكين وحديث الفاصلة مذهبًا في هذه الموازنة"[12].
وقد أقمتُ موازنة مُفصَّلة حول تركيب القرآن وجميع صِيَغ العرب، فلم أجد معيار الصرف والفاصلة حاضرًا كما ذكر الجرجاني فعلًا، وهذا ملخص ما خلصت إليه:
ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ï´¾ [البقرة: 179] الصيغ العربية البليغة:
القصاص يقي شر القتل ويَكُفُّه.
♦ القصاص يمنح حياة آمنة سعيدة.
♦ يدخل في القصاص كل ما يتعلق بالجنايات مِن قطع يد السارق وغيره.
♦ تضمين معنى العدل؛ لأن كلمة (القصاص) تعني: الأخذ من الجاني نفس ما سلب، خلاف التعبير العربي الذي لا يتضمن هذا المعنى الأساس الدقيق في التشريع.
♦ الفصاحة في التعبير: حيث جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضًا، وإبقاءً على أنفسهم، واستدامة لحياتهم.
♦ تخصيص نوع من القتل وهو القصاص لا معظم القتل كما جاء في التعبير العربي.
♦ عذوبة الألفاظ والتلطف في الخطاب، فلفظ (القتل) أقوى من لفظ (القصاص)، وأثقل على نفوس المخاطب.
♦ سلامة الألفاظ مما يُوحش سمع المخاطب، وربط القصاص بالحياة المرغوب فيها.
♦ استعمال الطباق المعنوي بين القصاص والحياة.
♦ تنافر حروف التعابير العربية، وتناسب حروف النص التشريعي.
♦ الجمل العربية فيها تَكرار للفظ القتل، وليس في النص هذا التكرار.
صيغ العرب
القتل يقي شر القتل ويكفُّه، هذا هو المعنى الوحيد للجُمَل العربية.
لكن الجرجاني لم يكتفِ بهذا الحد، بل أخرج مكونات البديع - وعلى رأسها الفاصلة - من النظم، قال بنبرة تقرير صارمة:
"فإذا بطَل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه - يعني مكونات البديع ومنها الفاصلة - لم يبقَ إلا أن يكون في النظم"[13].
أما مكونات البديع، فإنني أُسلم للجرجاني، وأما الفاصلة فأُناقشه مناقشةً قد تُوقِعه في مأزق منهجي يُجهز على لُبِّ نظريته؛ إذ إن معيار الاختيار الذي ركَّز عليه الجرجاني كثيرًا في دلائله أجلى وأوضح في الكلمات الفواصل التي تُذيَّل بها نصوصُ القرآن!
وقد التمس فضل عباس ت 1432 هـ العذرَ للجرجاني قائلًا: "إن عبدالقاهر ينفي أن يكون وزن الفاصلة وجهًا مِن وجوه الإعجاز، أما اختيار الكلمة في الفاصلة كأن تختار كلمة يفقهون في الآية، ويعلمون في آية أخرى ...، فهذا يدخل في النظم الذي هو لُبُّ الإعجاز"[14].
وهذا التوجيه الأقرب إلى ما أُثيره في هذا المقال، فالفاصلة من أركان الإعجاز في القرآن بمعانيها الدقيقة التي تشيعها في مواطنها وسياقاتها، لكنها معجزة بوزنها وصياغتها، خلافًا لما ذهب إليه فضل عباس رحمه الله.
ج 2- شطط عبدالقاهر الجرجاني:
إن إخراج الفاصلة بشكل مطلق من نظرية الإعجاز، شططٌ وقع فيها الجرجاني وهو يقيم صرح المعاني على أنقاض المباني والتراكيب المسكوكة، فالفاصلة وجهٌ أساس من وجوه الإعجاز، ولكن بلاغتها أولًا لا من حيث الشكل والسجع كما في الشِّعر، بل في دقة معانيها.
أما قول الجرجاني: إن العرب لم يُبهَروا بالفاصلة، فقولٌ مطلق يفتقر إلى الدليل، فالسُّنة النبوية طافحةٌ بالأحاديث الصحيحة التي تُظهِر انبهار العرب بالفاصلة، مثل سماع ابن المغيرة للقرآن، وانبهار العرب بآيات سورة النجم.
وسنُبيِّن في الجزء التطبيقي من هذا المقال بلاغةَ الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة، ونرد تقرير الجرجاني رحمه الله، والذي أرى أنه اتخذه نصرةً لمذهبه الفكري الأشعري لا غير.
2- بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة:
أدَّت الفاصلة القرآنية في آيات العقيدة وظيفةً رئيسة في إبلاغ رسائل القرآن؛ حيث تماهت جلُّ فواصل آيات العقيدة مع فحوى النص، فبالإضافة للدور الإيقاعي الذي هو بمثابة القفل للنصوص، والذي يجلب سمع المخاطبين - تناسقت الفواصل في آيات العقيدة استنادًا على المعاني والدلالات التي تؤديها النصوص.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|