عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 06-02-2020, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,406
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي




أ‌- بلاغة الفاصلة وبناء عقيدة التوحيد.
ترتيب الفاصلة في بناء عقيدة التوحيد.
قدَّم الله تعالى العبادة على الاستعانة في مطلع سورة الفاتحة؛ ليبلغ ضرورة الاتكال المطلق الكامل عليه بعد الإيمان بعقيدة التوحيد؛ قال تعالى: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ï´¾ [الفاتحة: 2 - 5].


وليس السببُ في العدول عن تقديم الاستعانة هو التناسبَ الشكلي للفواصل؛ كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين، بل السبب الرئيس هو ترسيخ مبدأ التوحيد في القلوب، فالمعبود المقدَّم هو وحده الجدير بالاستعانة؛ يقول الزمخشري: (فإن قلتَ: لِمَ قُدِّمت العبادة على الاستعانة؟ قلتُ: لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة؛ ليستوجبوا الإجابة عليها)[15].


وعندنا اعتراض على قوله: (ليستوجبوا الإجابة عليها)، فلا أحد يستوجب على الله تعالى، وهذه زَلة معتزلي رحمه الله، فالتقديم في الفاصلة كما أكد الزمخشري تقديمُ علة على معلول، وقد يكون التقديم تقديم شرف ورِفعة؛ لأن العبادة من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المستعين[16].


كما أن العبادة تقرُّبٌ للخالق تبارك وتعالى، فهي أجدرُ بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه، فناسَب أن يقدِّم المناجي ما هو مِن عزمِه وصُنعه، على ما يسأله مما يُعين على ذلك[17].


وأصل المبتدأ أن يقدَّم على الخبر، لكن مراعاة للفاصلة وما تبلغه مِن دلالات تخدم قضية التوحيد، يَعْدِل القرآن عن هذا الأصل، فسورة الفلق التي تلخِّص وتقرِّر عقيدة القرآن في النفوس - خُتِمت فاصلتها بحرف (الدال) الساكن المقلقل؛ لتسكن النفس بعقيدة الوحدانية الواضحة، بعد الاضطراب الفكري الذي أبلغته القلقلة، والقلقلة حسب قواعد التجويد حركةٌ نطقية غايتها إيضاح الحرف؛ كضغط الحروف على آلة الرقن.


والغاية الثاوية وراء هذا كله، هي جعلُ عقيدة الوحدانية ظاهرةً فاعلة؛ لتَطمئن وحشةُ النفوس؛ قال تعالى: ï´؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ï´¾ [الإخلاص: 1 - 4]، فقوله:ï´؟ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ï´¾ نفيٌ قاطع للمساواة عن الله تعالى، وأصل التركيب: (لم يكن أحدٌ كفوًا لله)، لكن لَمَّا كان الغرض البلاغي نفيَ المكافأة، جيء مع الجار والمجرور، وجيء بالاسم نكرة مؤخَّرة، ومعلوم أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، إذًا: أغرقت الآية في النفي الشامل بهذا التركيب، فليس أحدٌ كائنًا مِن كان ندًّا لله تعالى، وبهذا تضافر المكون الصوتي والظاهرة البلاغية لتبليغ رسالة النص العقدي.


كما قدم الله ذكر الآخرة على الدنيا رغم تقدُّم الحياة الفانية على الباقية زمنيًّا؛ ليبين أن ما هو أجلُّ وأعظم يقع تحت قدرة الله وحده، وأن الحُظوة الكبرى يوم القيامة للمؤمنين؛ قال تعالى: ï´؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ï´¾ [النجم: 25]، وليستِ الغايةُ هي إحداث التناغم الصوتي، والسيرَ على إيقاع الألف المقصورة التي انتهت بها السورة؛ كما ذهب إلى ذلك السيوطي بقوله: "الترتيب لرعاية الفاصلة، وهو تقديم ما هو متأخِّر في الزمان، ولولا مراعاة الفاصلة لقُدِّمت الأولى"[18]، بل تأخير فاصلة (الأولى) يبلغ معنًى دقيقًا لم ينتبه إليه السيوطي ومَن ذهب مذهبه.


وغاية التقديم الاهتمام بالآخرة، ورد أطماع المعارضين لعقيدة التوحيد بأن ينالهم خير يوم الفوز فيها، ولذا أردف الله ذلك بقوله: ï´؟وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًاï´¾ [النجم: 26]، وهذا إقناطٌ لهم عما طمِعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام، موجب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الألوهية[19].


ومن إثبات عقيدة التوحيد إثبات صفات الرب وأسمائه التي اتَّخذت الفاصلة أسلوبًا شديد الحساسية لرسمِها في القرآن الكريم، فمثلًا: الصفتان المشتقتان من الجذر اللُّغوي نفسه: (الرحمن والرحيم)، كل واحدة تأتي في خاتمة النصوص في موضعها، بل تُقدم الأهم مراعاةً للمعنى، وليس لمجرَّد الإيقاع الموسيقيِّ في الفاصلة؛ مثل قوله تعالى في مطلع سورة الفاتحة المؤسسة لعقيدة القرآن: ï´؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ï´¾ [الفاتحة: 3]؛ يقول الزمخشري: "فإن قلتَ: لِم قُدِّم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه، والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ كقولهم: فلان نِحرير، وشجاع باسل، وجواد فياض؟! قلتُ: لَمَّا قال الرحمن، فتناول جلائل النعم، وعظائمها وأصولها، أردفه الرحيم كالتتمة والرديفة، ليتناول ما دقَّ فيها ولَطُفَ"[20].


والرحمن أَولى بالتقديم؛ لأنها دالة على الصفة القائمة بالله تعالى، أما الرحيم فهي صفة دالة على رحمته بخلْقه؛ يقول ابن القيم 751 هـ: "وأما الجمع بين الرحمن والرحيم، ففيه معنًى هو أحسن من المعنيينِ اللذين ذكرهما، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحَم خلقَه برحمتِه، وإذا أردت هذا فتأمَّل قوله: ï´؟ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ï´¾ [الأحزاب: 43]، وقوله: ï´؟ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [النور: 20]، ولم يَجِئ قط (رحمن بهم)، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وهذه نكتةٌ لا تكاد تجدها في كتاب"[21]، وعمومًا: تقديم الصفة الخاصة بالله أولى؛ لأن الصفة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها[22].


دقة معاني الفواصل القرآنية في بناء عقيدة التوحيد:
تختم الآيات المؤسسة لعقيدة التوحيد فواصلها بذكر أسماء الله وصفاته حسب ما يقتضيه المعنى الدقيق للنص، لا ما يتطلبه الجرس الموسيقيُّ للآيات، وملخص هذا بالجدول البياني التالي:
النص العقدي
الفاصلة
المعنى البلاغي الدقيق
ï´؟ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ï´¾ [الأحزاب: 48] وكفى بالله وكيلًا لما كان موضوع الآية التوكل خُتِمت باسم الله (الوكيل)؛ لتَمنَح المخاطب بالاعتقاد الإسلامي قوةً؛ أي: إنك متَّكِل على مَن له الأمر كله؛ يقول القرطبي: "وفي قوة الكلام وعدٌ بنصره، والوكيل: الحافظ القائمٌ على الأمر"[23].
ï´؟ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ï´¾ [النساء: 85].
وكان الله على كل شيء مقيتًا
في مقام الشفاعة جاء بهذه الفاصلة؛ ليُبيِّنَ أنه سبحانه الوحيد المتحكم في الأقدار والأرزاق، وكل أسباب الحفظ، وحب الخير التي جُبل على حبها الإنسان، وليَحذر الناس باقي أنواع التوسل المفضي إلى بوابة الشِّرك؛ قال ابن الجوزي:"وفي المُقِيت سبعةُ أقوال: أحدهما أنه المقدر، والثاني: أنه الحفيظ، وبه قال قتادة والزجاج، وقال هو الحفيظ أشبه؛ لأنه مشتق من القوت، وقال: قُتُّ الرجلَ أقوته قوتًا، إذا حفِظ عليه نفسه بإعطائه ما يَقوته، والقوتُ: اسم الشيء الذي يَحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر حاجته من الحفظ، والثالث: أنه الشهيد، والرابع: أنه الحسيب، والخامس: أنه الرقيب، والسابع: أنه معطي القوت؛ أي: الرزَّاق"[24]، وكل هذه الأوصاف تجعل الشفاعة بإذن الله وبيده.
ï´؟ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 2]
إن الله كان بما تعملون خبيرًا
لِمَّا كان موضوع الآية الأمرَ باتباع أمر الله، وأول أمر الله التزام عقيدته - جاءت الفاصلة لتؤكد أن الله خبيرٌ بالأعمال والقلوب؛ يقول الرازي: "لما قال: إنه عليم بما في قلوب العباد، بيَّن أنه عالم خبيرٌ بأعمالهم، فسَوُّوا قلوبكم وأصلِحوا أعمالكم"[25].
ï´؟ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [البقرة: 137].
وهو السميع العليم
أبلغت فاصلة هذا النص {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} علِم الله بالنيَّات، وسمِع الله للأقوال؛ لأن الإيمان بالمعتقد الذي جاءت الآية لتُرسخه يبنى على أساسين: الأقوال الظاهرة (الحجاج)، والنيات المضمرة (الإيمان)؛ يقول أبو حيان: "أي: وهو السميع لأقوالكم، العليم بنياتكم واعتقاداتكم، ولما كانت الأقوال الظاهرة لنا، الدالة على ما في الباطن، قُدِّمت صفة السميع على العليم"[26].
ï´؟ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [سبأ: 27].
هو الله العزيز الحكيم
فالقرآن هنا في سياق مجادلة المخالفين لمعتقده بأحقية عبادة الله، وزَيف ما يُعبَد دونه؛ لذا بيَّن عزة الله وحكمته؛ يقول الرازي: "لا يُعبَد أحدٌ لاستحقاق العبادة غير الله، فقال: ï´؟ أَرُونِيَ... ï´¾ï´؟ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾؛ أي: هو المعبود لذاته واتصافه بالعزة وهي القدرة الكاملة، والحِكمة وهي العلمُ التام الذي عِلمُه موافقٌ له"[27].
ï´؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ï´¾ [إبراهيم: 19، 20].
وما ذلك على الله بعزيز
تؤكِّد هذه الآية وَحدانية الله ببيان قدرته المطلقة المتجسِّدة في خلقه السماوات والأرضَ، لذا جاءت الفاصلة بصيغتها الاسمية الثابتة؛ لتُثبت طلاقة القدرة الإلهية؛ يقول الشعراوي: "طلاقة قدرة الله تعالى يُمكن أن تفعل ما تشاء، فلا شيء يتأبَّى عن مرادات الحق سبحانه ولا على قدرته، فلا أحد يسبق إرادة الله أو مشيئته...، والله لا يُغلَب، وقد بيَّن لنا في جزئيات الحياة أنه يذهب بنبات ويأتي بنبات آخر، ويذهب بحيوان ويأتي بحيوان آخر؛ وكذلك يذهب بالجماعة من البشر ويأتي بغيرهم"[28]، فهو بهذه الفاصلة يَختم برهانه على وحدانيَّته بشكل بديع، يُبرز قدرته على إفناء المخاطبين، والإتيان بخلق جديد على صفتهم أو على غير صفتهم، وما ذلك بممتنع متعذر عليه[29].
ï´؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 40].
والله على كل شيء قدير
فالنص بيَّن أنه ما مِن شيء في السماوات والأرض إلا وقع تحت ملكه تعالى وتصرُّفه، فيُعذب مَن أراد أن يُعذبه، ويغفر لمن يشاء أن يغفر له، ولا شيء يُعجزه، فهو سبحانه صاحب القدرة المطلقة[30]، لذا جاءت الفاصلة مبيِّنةً أن الله تعالى قدير، فلا يُعجزه شيء، وهي تمكين يَمنح النص قوةً؛ ليَزدجر كلُّ مَن خالَف معتقد التوحيد.
ï´؟ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [آل عمران: 189].
والله على كل شيء قدير
يثبت هذا النص ملك الله المطلق على السماوات والأرض وكل المخلوقات التي بهما؛ لذا جاء بفاصلة تبلغ أن القدرة المطلقة له وحده؛ يقول النسفي: "ï´؟ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء"[31].


ترسم فواصل القرآن الجوَّ الذي دار فيه النقاش حول عقيدة القرآن، وذلك باختيار صيغ الفواصل بدقة شديدة؛ كالتعبير عن ما يختلج صدور المخالفين لعقيدة الوحدانية؛ قال تعالى حكاية عنهم: ï´؟ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ï´¾ [ص: 5]، فبالإضافة للإيقاع الصوتي عبَّر الله تعالى بهذه الصيغة (عُجاب)؛ ليبلغ شدة عجبهم مِن أن تكون الآلهة المتعددة التي ظلوا عليها عاكفين باطلةً! وأن يكون هناك إله واحد لا إله غيره؛ يقول الألوسي: "إن (فُعَالًا) بناء مبالغة كرجل طُوال وسُراع، ووجه تعجُّبهم أنه خلاف ما ألْفَوْا عليه آباءَهم الذين أجمعوا على تعدُّد الآلهة وواظبوا على عبادتها، وقد كان مدارُهم في كل ما يأتون ويَذَرون التقليدَ، فيَعُدُّون خلاف ما اعتادوه عجبًا، بل محالًا"[32].


وتتماهى صيغ الفواصل مع مضمون النص والسياق الذي يأتي فيه، مثل الفاصلة التي أتت بصيغتي المبالغة (ظلوم) (كفار) عند قوله تعالى: ï´؟ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ï´¾ [إبراهيم: 34]؛ حيث أكدت هذه الفاصلة بصيغتها الاسمية ثبات وملازمة صفتي: الظلم والكفران للإنسان، "وهما خبران لـ(إن) مرفوعان بالضمة وهما صيغ مبالغة"[33]، وسياق النص يستدعي هذه الفاصلة؛ لأن القرآن قبل ذلك عدَّد نِعَم الله تعالى على الإنسان؛ قال تعالى: ï´؟ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ï´¾ [إبراهيم: 32 - 34]، فبعدما استعرض القرآن كل هذه النعم ختَم بهذه الصيغ؛ إذ بمقدار كثرة النعم يَكثُر كفر الكافرين بها إذا أعرضوا عن عبادة المنعم، وعبدوا ما لا يُغني عنهم شيء[34].


ب‌- بلاغة فاصلة آيات العقيدة وحجاج المعتقدات المخالفة:
• ترتيب فاصلة آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة.
تتخذ الفاصلة القرآنية موقعها في نظم الآيات العقدية التي تسرُدُ مجادلة رسلِ الله لأقوامهم، من ذلك ما حكاه الله عن رسول اليهود موسى عليه الصلاة والسلام، في معرض مواجهته طاغية زمانه؛ قال تعالى: ï´؟ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ï´¾ [النازعات: 15 - 25]؛ حيث قدَّم الله ذكر الآخرة على الأولى في هذا النص أيضًا، وليس الغرض الإيقاع الموسيقيَّ؛ كما ذهب إلى ذلك جل المفسرين، بل لغرض بلاغي ثانٍ؛ حيث أراد الله أن يبلغ عن طريقه أن غطرسة فرعون وما حكاه عنه في سياق هذا النص زائفةٌ، فالدار الثابتة (الآخرة) لله تعالى، وكذا الزائلة (الدنيا)، كما أن تقديم الآخرة رغم تأخُّرها زمنًا حقَّق غرض النظم في بيان أن مزاعم فرعون واستعراض قوته، وقوله: ï´؟ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ï´¾ سبب عقابه، وفيه إشارة إلى إمهال الله تعالى له؛ قال الرازي: "المقصود التنبيه على أنه ما أخذه بكلمته الأولى في الحال، بل أمهله أربعين سنة، فلما ذكر الثانية أخذ بها، وهذا تنبيهٌ على أنه تعالى يُمهل ولا يُهمل"[35].


وفي سياق جدال فرعون لموسى في سورة طه التي خُتمِت فواصلها بالألف المقصورة؛ قال تعالى: ï´؟ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ï´¾ [طه: 67]؛ حيث نلاحظ تأخير الفاعل (موسى) إلى آخر الآية، والظاهر أن إيقاع سورة طه استدعى ذلك، لكن هذا الانزياح الأسلوبي له غرض ثانٍ؛ فللتأخير حِكمة أخرى: وهي أن النفس تتشوق لفاعل (أوجس)، فإذا جاء بعد أن أُخِّر وقَع بموقعٍ، وقد أُخر الفاعل عن موقعه رغم تقديم ضميره (نفسه).


كما أخَّر الله ذكر موسى في فاصلة قوله تعالى: ï´؟ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ï´¾ [طه: 70]، على عكس ما دأب عليه القرآن من تقديم موسى؛ لأنه هو الرسول؛ قال تعالى: ï´؟ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الصافات: 120]، ï´؟ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ï´¾ [الصافات: 114]، ï´؟ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ï´¾ [طه: 70].


فما السرُّ إذًا في انزياح الفاصلة في هذا النص عمَّا جرت به العادة من تقديم موسى على هارون عليهما السلام؟
الجواب هو: ليبقى التوحيد خالصًا لله وحده، ولا يرتبط بشخص موسى ولا غيره، فالموقف موقف انبهار بمعجزة العصا التي لا حولَ ولا قوة لموسى فيها، وعليه فالسحرةُ آمنوا برب هارون وموسى، ولا نماري في أن فاصلة سورة طه استدعت ذلك، لكن ليست هي الغرض الأساس كما سطرت ذلك كل مصادر التفسير؛ حسب ما اطلعت عليه.


فقد يكون ترتيب الفواصل مهمًّا، لكن برأيي يبقى المعنى البلاغي أهم في نظم الفواصل؛ حيث نلحظ مثلًا في ترتيب سورة القمر - التي استعرضت صراع عقيدة التوحيد مع المخالفين لها - ختم جميع الآيات بحرف الراء، حتى إن القرآن خالف الترتيب المعهود، فقدَّم أثناء تركيب الآيات أحيانًا المفعول به على الفاعل، وإنما جاء بهذا النظام في بعض فواصل آي "القمر" لأغراض أسلوبية، لا كما ذهب إليه أغلب اللغويين من أن الغرض هو تناسق الجرس الصوتي فحسب، نُمثل لهذا بقوله تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ï´¾ [القمر: 41]؛ حيث قدم المفعول به (آل فرعون) على الفاعل (النُّذُر)، وليس الغرض تناسق فواصل الراء فحسب، بل يحمل تقديم المفعول به معنى الاختصاص، فآل فرعون وبنو إسرائيل اختصوا بتلك النذر دون غيرهم، وهذا واضح بتتبُّعنا قصصَ الأنبياء في القرآن، فقصص موسى تأخذ النصيب الأكبر، وقد يكون غرض التقديم في فاصلة هذه الآية بيان أن قوم الحضارة الفرعونية أسبقُ في الزمن من رسالة موسى، وما أتى به من رسائل ونُذر بالألواح.





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.76%)]