عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 06-02-2020, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,490
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة

بلاغة الفواصل القرآنية: قراءة في آيات العقيدة


د. عبدالله علمي








دقة معاني فواصل آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة:
تتماهى فواصل آيات العقيدة أثناء مجادلة أهل الكتاب مع مضمون النص، فقد بيَّن الله لليهود منهجه، وأخذ منهم الميثاق عليه؛ قال تعالى: ï´؟ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ï´¾ [المائدة: 12]، فبما أن الآية ميثاق إيماني موجه إلى اليهود أولًا، واليهود عُرِفوا تاريخيًّا بنقض المواثيق، جاءت الفاصلة بلهجة قوية تُخوف اليهود، وتضمن المحافظة على ميثاق الله تعالى من طرف المسلمين؛ قال الطاهر بن عاشور: "ناسب ذكرُ ميثاق بني إسرائيل عقب ذِكر ميثاق المسلمين (وميثاقه الذي واثَقكم به) - تحذيرًا مِن أن يكون ميثاقنا كميثاقهم، ومحل الموعظة هو قوله:ï´؟ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ï´¾"[36].


وفي سياق ذكر مواثيق اليهود، أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم بالتجاوز والرحمة عن بعض المنتهينَ عن هذه الخصلة التي بسببها لُعِنوا؛ قال تعالى: ï´؟ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [المائدة: 13]، وجاءت الجملة الفاصلة ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ ليِّنةً في الختام؛ كالتعليل للأمر بالتجاوز عن المنتهين، وهو تأكيدٌ على أن الله يحب المحسن منهم، ويقابله بالجميل كالمحسنين من المسلمين؛ "قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا عفوتَ فأنت محسنٌ، وإذا كنتَ محسنًا فقد أحبَّك الله"[37].


وجاءت الفاصلة عنيفة قاصفة أثناء مواجهة المعاندين المخالفين المُصرين على الاعتقاد الفاسد؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [المائدة: 41]؛ فالنص موجَّه إلى اليهود المعاندين حسب سياق نزوله، وللمنافقين المسارعين في الكفر، لذا أوغَلت الفاصلة في التهديد الشديد اللهجة الذي حسَم مصيرهم المخزي في الدنيا والآخرة؛ يقول أبو حيان الأندلسي: "(لهم في الدنيا خزي)؛ أي: ذل وفضيحة، فخِزي المنافقين بهَتْك سترهم وخوفهم من القتل إن اطَّلعَ على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تَمَسْكُنُهم وضرب الجِزية عليهم، وكونُهم في أقطار الأرض تحت ذمَّة غيرهم وفي إيالته، (ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم)، وُصِف بالعظم لتزايُدِه فلا انقضاءَ له، أو لتزايُدِ ألَمِه، أو لهما"[38].


فالفاصلة تأتي قوية صارمة مصرِّحة بالعذاب مع هذا النوع من المخالفين؛ مثل قوله تعالى: ï´؟ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ï´¾ [المائدة: 10]، فبعدما بيَّن جُرمَهم أخبر مباشرة أنهم خالدون في نار جهنم[39]، وتحمل الفاصلة معنى التهديد لمن سار على نهجهم، يقول البقاعي: "لَمَّا ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيبًا، ذكَر جزاء مَن لم يفعل فعلَهم ترهيبًا، فقال: (والذين كفروا)؛ أي: ستروا ما أوضحتْه له عقولُهم من الدلالة على صحة ما دعتْهم إليه الرسلُ، (وكذَّبوا)؛ أي: عنادًا (بآيتنا)؛ أي: بالعلامات المضافة لعظمها إلينا (أولئك)؛ أي: البُعداء من الرحمة (أصحاب الجحيم)؛ أي: الذين لا يَنفكُّون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثُرت كبائرُهم"[40].


ثم بيَّن الله لأهل الكتاب عقيدة التوحيد التي صحَّحت ما كانوا عليه من عقائد؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ï´¾ [المائدة: 15]، وختم النص بهذه الفاصلة؛ ليؤكد سماحة عقيدة الإسلام وشموليتها التي وصفها بالنور والكتاب المبين.


كما توسَّل القرآن بالفاصلة في آيات العقيدة التي يجادل فيها المخالفين؛ ليُبرهن على أحقية وجهة نظره؛ كبيان قدرة الله المطلقة أثناء قوله: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 19]، فغرض النص إقناع المخالفين بضرورة الإيمان بمعتقد القرآن، وبيان أن الله سيحاسب الجميع في النهاية، فيُثيب الطائع، ويُعاقب المعاند، وعليه فالمعاقب أولى أن يمتلك القدرة المطلقة، وهذا ما أبلغتْه الفاصلة.


وحينما يُبطل القرآن عقيدة المخالف يُقرِّر مباشرة عقيدته بالاستعانة بالفاصلة، مثل قوله تعالى - في مَعرِض مواجهة عقيدة النصارى -: ï´؟ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [المائدة: 17]، فبعدما بيَّن بطلان عقيدة التثليث، وزعمهم أن عيسى عليه السلام ربٌّ يُعبَد مِن دون الله، بيَّن أن عيسى عليه السلام لا يقوى عن الدفاع عن نفسه في حال أراد الله أن يُهلكه، فكيف يكون إلهًا؟!

كما بيَّن عن طريق البرهان أن مُلك السماوات والأرض لله وحده دون سواه، وأنه سبحانه خلق عيسى وأمه عليهما السلام، ثم أتى بالفاصلة ï´؟ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ التي تقرِّر عقيدة الألوهية الصحيحة، بطريقة غير مباشرة؛ وذلك بتأكيد طريق أسلوب التمكين وهو أنه سبحانه صاحب القدرة المطلقة، لا يُعجِزه شيء.


ومن أجل الإجابة عن سؤال حقيقة عيسى عليه السلام، وتفنيد عقيدة المخالفين القائلة: إنه مقتول ومصلوب - توسل القرآن بالفاصلة؛ قال تعالى: ï´؟ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ï´¾ [النساء: 157، 158]، فالفاصلة تبرهن على عقلانية ما أتى به القرآن؛ لأن مسألة الرفع قد يستنكرها العقل على إنسان عادي، لكن الله بعزَّته قادرٌ على رَفْعه، وبحكمته نجَّى عيسى من كيد الكائدين؛ يقول الرازي: "المراد من العزة كمال القدرة ومن الحكمة كمال العلم، فنبَّه بهذا على أن رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السماوات، وإن كان كالمتعذر على البشر، لكنه لا تعذُّر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حِكمتي"[41].


ويختار القرآن الفاصلة بعناية فائقة؛ لتواكِب نظمَ الآي؛ مثل قوله تعالى أثناء مجادلة المخالفين عقيدته: ï´؟ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ï´¾ [السجدة: 26، 27]، فالفاصلة في الآيتين صيغت صياغة الاستفهام الإنكاري: الأولى: ï´؟ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ï´¾، والثانية: ï´؟ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ï´¾.

لكن الله اختار في الأولى السمع؛ لأن أخبار الأمم السالفة تناقلَتْها الألسن سماعًا على مدار التاريخ، بينما اختار في الثانية البصر؛ لأن الماء المنَزَّل من السماء والمحيي الأرض بعد موتها، والمخرج الزرع، نعمةٌ تُبصرها الأعين!


كما اختار سبحانه صفتي (العلم) و(الفقه) لَمَّا عرض على المخالفين الحججَ العقلية التي تحتاج إلى التدبر والتفكر؛ قال تعالى: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ï´¾ [الأنعام: 97، 98]، فختم الآية الأولى بذكر العلم؛ لأن تحصيل معنى الآية يقتضي التعلم والمدارسة، والتجرِبة والبحث العلمي المادي، وهذا مَيدان علوم الفلك وعلوم البحار، وختم الآية الثانية بذكر الفقه؛ لأن التدبر والتفكر في أحوال النفوس البشرية - مِن خَلْق، ومراحل التطور والارتقاء، وغيرها من العلوم الإنسانية النسبية - تحتاج إلى الفقه.


ومدلول العلم أقرب إلى نتائج العلوم الحقة التي تسعى إلى الخروج بخلاصات حاسمة، بَيْدَ أن العلوم الإنسانية تسعى بوسيلة الفقه إلى ترك النتائج مفتوحةً يَطغى عليها طابع النسبية!


ولا يكتفي القرآن بهذا التدقيق في الفواصل التي يجادل بها المخالفين للعقيدة التي يدافع عنها، بل يضع الفواصل المتقاربة كل واحدةٍ في مقامها حسب ما يقتضيه معنى النظم القرآني، فأثناء دعوته المخالفين للتفكر والتدبر في قوله تعالى: ï´؟ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾ [الرعد: 3، 4].


أتت الفاصلة الأولى كالآتي: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ï´¾؛ لأنها تتحدَّث عن علم التربة والصخور والأنهار، وأنواع الثمار التي تتلون بتعاقُب الليل والنهار، وهذا يُدرَك بالتفكر الخاص بنخبة العلماء، أما الآية الثانية فتحدَّثت عن أنواع الثمار التي تَخرج من أشجار متنوعة؛ منها ذات الأغصان الكثيفة وغير ذلك، وعن مذاقها، وهذا يُدرِكه كل إنسان بالنظر السطحي، وبعملية التذوق الحسي التي تتكرَّر أثناء الأكل.


بلاغة صيغ فواصل آيات العقيدة أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة:
تتخذ الفاصلة القرآنية أثناء حجاج أصحاب المعتقدات المخالفة صيغًا متباينة، حسب ما يقتضيه المقام؛ قال فرعون - أثناء عرض موسى عليه السلام عقيدته عليه -: ï´؟ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ï´¾ [طه: 49]، فالخطاب موجَّه لمثنًّى: موسى وهارون، لكن فرعون اختص موسى وحده خارجًا على أصل الصيغة في فاصلة هذه الآية، مع أنه ابتدأ الخطاب لموسى بصيغة المثنى: (ربكما)، فإضافة إلى تَحقُّق إيقاع الفاصلة، أراد فرعون في موقف المناظرة أن يشعر موسى أنه وحيد في دعواه؛ ليهزمه حجاجيًّا وينتصر لعقيدته.

وفي محاورة النصارى عوَّضت الفاصلة القرآنية صيغةَ التأنيث بصيغة التذكير خروجًا عن الأصل، عند قوله تعالى في وصف مريم العذراء عليها السلام: ï´؟ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ï´¾ [التحريم: 12]؛ حيث خاطَب مريم بصيغة المذكر (القانتين) بدل القانتات.


ولا يقتصر أسلوب الإحلال هذا على مواءمة الفواصل السالفة والآتية (الداخلين، الظالمين...)، فمريم بلَغت درجة الصِّديقين، وهي درجة لم يَصِلْها كثير من الرجال، بَلْهَ النساء اللواتي لم تكتمل منهن عقلًا سوى القليل؛ كما جاء في الحديث المرفوع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كَمُلَ مِن الرجال كثيرٌ، ولم يَكمُلْ من النساء إلا آسيةُ امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام))[42]، فالرسول صلى الله عليه وسلم حدَّد هذه المرتبة التي ترتقي إليها المرأة، ولم يُدخل عائشة عليها السلام رغم مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء بالصورة التشبيهية المقارنة بينها وبين باقي أنواع النساء، وقد تدخل خديجة وفاطمة عليهما السلام بالنظر إلى سلوكهما داخل المجتمع، وقد جاء هذا في بعض الأحاديث الضعيفة، وهذا يظهر لنا سرُّ هذا الإحلال في صيغة هذه الفاصلة.


كما توسل القرآن الكريم إلى الفاصلة أثناء مجادلة المخالفين ببعض الصيغ؛ لإكساب دعوة التوحيد قوةً؛ قال تعالى بعد مجادلة المخالفين: ï´؟ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ï´¾ [الإسراء: 45]، والأصل في الصيغة: حجابًا ساترًا، لكن القرآن اختار هذه الصيغة ليس لمجرد الإيقاع الصوتي المناسب للفواصل: (غفورًا، نفورًا، مسحورًا)، بل الغرض الأساس: المبالغة في وصف الحجاب نفسه بالستر؛ لأنه إذا كان الحجاب نفسه مستورًا، كان المحجَب به وهو المؤمن أشد سترًا، وهذا بَعث للروح القوية في نفسية المعتقدين عقيدةَ التوحيد عن طريق الفاصلة.




يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.19%)]