الموضوع: التعصب المذهبي
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-02-2020, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,732
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التعصب المذهبي

التعصب المذهبي


سامح محمد عيد



حكم التعصب المذهبي:


من آراء العلماء السَّابقة يتبيَّن لنا أن التعصُّب لمذهب معيَّنٍ لا يجوز شرعًا.

قال ابن تيميَّة: ولا يجوز لأحدٍ أن يرجِّح قولاً على قولٍ بغير دليل، ولا يتعصَّب لقول على قول، ولا لقائل على قائلٍ بغير حُجَّة، بل من كان مقلِّدًا لَزِم حكم التَّقليد فلم يرجِّح ولم يزيِّف، ولم يصوِّب ولم يُخطِّئ، ومن كان عنده من العلم والبيانِ ما يقوله سُمِع ذلك منه، فقُبِل ما تبيَّن أنه حق، ورُدَّ ما تبيَّن أنه باطل، ووُقِف ما لم يتبيَّن فيه أحدُ الأمرين، والله تعالى قد فاوتَ بين الناس في قُوَى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان[11].


وقال محمد سلطان الخجندي: فمن يتعصَّب لواحد معيَّن غير رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتِّباعُه دون الأئمة الآخرين، فهو ضالٌّ جاهل، بل قد يكون كافرًا يُستَتاب، فإن تاب فبها، وإلاَّ قُتل؛ فإنَّه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتِّباعُ أحدٍ بعينه من هؤلاء الأئمة، فقد جعله بمنزلة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك كُفْر[12].

هذا، وقد ذُكِر عن الأئمَّة الأعلام أقوالٌ تنبذ التعصُّب، وتنهى عنه، وتنصُّ على الأخذ بالدليل وإن كان مُخالفًا لقولهم؛ وهذا من تعظيمهم - رحمهم الله - للأثر، وصَرْف أتباعهم إلى الأخذ بالدليل، وأن يكونوا مع الدليل والحقِّ حيثما دارَا.

قال الإمام أبو حنيفة: إذا جاء عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعلى العين والرَّأس.

وقال الإمام مالك: ما مِن أحدٍ إلاَّ ويُؤخذ من قوله ويُترك، إلاَّ صاحب هذا القبر - وأشار إلى قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقال الإمام الشافعيُّ: كلُّ ما قلت، وكان قول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خلاف قولي مما يصحُّ، فحديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أولَى، ولا تقلِّدوني.

وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا عنِّي شيئًا، ولا تقلِّدوني، ولا تقلِّدوا فلانًا وفلانًا - وفي رواية: مالكًا، والشافعيَّ، والأوزاعي، ولا الثوريَّ - وخُذُوا من حيث أَخذوا.

ومع أن الأئمَّة نصُّوا على عدم تقليدهم، والأخذ بالدليل وإن كان مخالفًا لأقوالهم، إلا أنَّ ذلك لم يمنع من وجود طائفةٍ تعصَّبَت لأقوال أئمتهم، وغَلوا في ذلك غُلوًّا كبيرًا، فمن أقوال بعض المتعصبِّة:
قال الحصكفي في أبيات يمدح بها الإمام أبا حنيفة، منها:
فَلَعْنَةُ رَبِّنَا أَعْدَادَ رَمْلٍ
عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ



وأنشد منذرُ بن سعيد الظاهريُّ عدَّة أبيات تُصوِّر حالة تشبُّث المالكيَّة بقول الإمام بدون دليلٍ، فقال:
عَذِيرِيَ مِنْ قَوْمٍ إِذَا مَا سَأَلْتُهُمْ
دَلِيلاً يَقُولُوا: هَكَذَا قَالَ مَالِكُ

فَإِنْ زِدْتُ قَالُوا: قَالَ: سُحْنُونُ مِثْلُهُ
وَقَدْ كَانَ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ الْمَسَالِكُ





وقال إمام الحرَمين الجوينيُّ الشافعي: نحن ندَّعي أنه يجب على كافَّة العاقلين وعامَّة المسلمين - شرقًا وغربًا، بُعدًا وقربًا - انتحالُ مذهب الشافعي، ويجب على العوامِّ الطَّغَام، والجُهَّال الأنذال أيضًا انتحالُ مذهبه؛ بحيث لا يَبْغُون عنه حِوَلاً، ولا يريدون به بدلاً!

وقال أحد الحنابلة:
أَنَا حَنْبَلِيٌّ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ
فَوَصِيَّتِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَحَنْبَلُوا



والحقُّ هو اتِّباع الدليل والأخذ به ممن قاله، ولا يقدح ذلك فيمن تَرْك مذهبه في مسألة، ولا يُعتبر مُخالفًا لإمامه، بل هو متَّبِع له كما نصُّوا على ذلك.

قال أبو مزاحم الخاقاني في شعرٍ له:
أَقُولُ الآنَ فِي الفُقَهَاءِ قَوْلاً
عَلَى الإِنْصَافِ جَدَّ بِهِ اهْتِمَامِي

أَرَى بَعْدَ الصَّحَابَةِ تَابِعِيهِمْ
لِذِي فُتْيَاهُمُ بِهِمُ ائْتِمَامِي

عَلِمْتُ إِذَا عَزَمْتُ عَلَى اقْتِدَائِي
بِهِمْ أَنِّي مُصِيبٌ فِي اعْتِزَامِي

وَبَعْدَ التَّابِعِينَ أَئِمَّةٌ لِي
سَأَذْكُرُ بَعْضَهُمْ عِنْدَ انْتِظَامِ

فَسُفْيَانُ العِرَاقِ وَمَالِكٌ فِي
حِجَازِهِمُ وَأَوْزَاعِيُّ شَامِ

أَلاَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ قُدْوَةٌ لِي
نَعَمْ وَالشَّافِعِيُّ أَخُو الكِرَامِ

وَمِمَّنْ أَرْتَضِي فَأَبُو عُبَيْدٍ
وَأَرْضَى بِابْنِ حَنْبَلٍ الإِمَامِ

فَآخُذُ مِنْ مَقَالِهِمُ اخْتِيَارِي
وَمَا أَنَا بِالْمُبَاهِي وَالْمُسَامِي

وَأَخْذِي بِاخْتِلاَفِهِمُ مُبَاحٌ



الآثار المترتبة على التعصُّب المذهبي:
التعصب إلى أيِّ مذهب يترتَّب عليه آثارٌ سلبيَّة، منها:
أولاً: افتراق وَحْدة المسلمين، وهذا يظهر جليًّا فيما حكاه بعضُهم بأن رجلاً رأى آخَر وهو يرفع سبَّابته عند التشهُّد، فضربها حتى كسرها؛ لأنَّه يرى أن رفع السَّبَّابة مُحرَّم! وإنا لله وإنا إليه راجعون، لا سِيَّما وأن رفع السبَّابة أمرٌ مشروع.

ثانيًا: التَّنافُس بين تلاميذ المذاهب، والذي دفعَهم إلى الوقيعة، والتباغض، والتَّقاتُل، والتاريخ شاهدٌ بذلك، بل وتَرْك الصَّلاة وراء بعضهم البعض.

ثالثًا: نشوء ضعف الوازع الدِّيني؛ وذلك بأنَّ المكلَّف إذا وعظ بالآية وعلم أنَّ هذا كلام الله، أو ذَكَّر بالحديث وعلم أنَّ هذا كلام رسول الله كان لهذا شأنٌ عنده، بعكس ما لو قيل له: هذا رأي الإمام فلان، أو الإمام فلان، وبذلك نشَأ عند كثيرٍ من المسلمين ضَعْفُ الوازع الدِّيني، والذي نُشاهده في التحايل على الأمور الشرعيَّة.

رابعًا: نشأة التَّلفيق، وهو الاتِّجاه إلى جمع الرُّخَص والتسهيلات الموجودة في المذاهب، وبذلك ينشأ التَّهاون، وارتكابُ كثيرٍ من المُخالَفات، وذلك بتتبُّع الأقوال التي تُناسب هوى كلِّ إنسان من كل مذهب، ولو كان الاحتكامُ إلى الدليل من الكتاب والسُّنة لَمَا وُجِد هذا.

خامسًا: تعظيم الأئمَّة إلى الحدِّ الذي يرفعهم إلى نِسْبة العصمة لهم، وعدم جواز الخطأ عليهم، ولذلك نرى كثيرًا من العلماء لا يجرؤ أن يقول: أخطأ الإمامُ في هذه المسألة، مع العلم أنَّه يرى النصَّ بخلاف الفتوى، وهذا التعظيم قد يصل ببعض الناس إلى ردِّ الآية المُحْكَمة القاطعة الدلالة، والحديث الصحيح الواضح المعنى؛ خوفًا من مُخالفة الإمام، وهذا إن لم يكن شِرْكًا بالله فهو ذريعةٌ إلى الشِّرك، وتقديمُ غير أمر الله على أمر الله.

خلاصة القول:
اعلم أنَّ بين الأئمة اختلافًا كبيرًا في الفروع وبعضِ الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات ومُفْردات منكَرة، وإنما أُمِرنا باتِّباع أكثرهم صوابًا، ونجزم بأنَّ غرضهم ليس إلا اتِّباع الكتاب والسُّنة، وكلَّما خالفوا فيه لقياسٍ أو تأويل قال: وإذا رأيت فقيهًا خالف حديثًا أو ردَّ حديثًا، أو حرَّفَ معناه فلا تُبادر لتغليطه، فقد قال عليٌّ - رضي الله عنه - لمن قال له: أتظنُّ أنَّ طلحة والزبير كانا على باطل: "يا هذا، إنَّه ملبوس عليك، إن الحقَّ لا يُعرَف بالرِّجال، اعرِف الحقَّ تَعْرِفْ أهله"[13].

وما زال الاختلافُ بين الأئمة واقعًا في الفروع وبعض الأصول، مع اتِّفاق الكل على تعظيم الباري - جلَّ جلاله - وأنه ليس كمِثله شيء، وأنَّ ما شرَعه رسولُه حق، وأنَّ كتابهم واحد، ونبيَّهم واحد، وقِبْلتهم واحدة، وإنَّما وُضِعت المُناظرة لكشف الحقِّ، وإفادة العالِم الأزكى العلمَ لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف، فإنْ داخَلَها زَهْوٌ من الأكمل، وانكسارٌ من الأصغر، فذاك دأب النفوس الزكيَّة في بعض الأحيان؛ غفلةً عن الله، فما الظنُّ بالنفوس الشريرة المنطَفِيَة؟!


[1] "مجموع فتاوى ابن تيميَّة" 22/ 251.

[2] "الروضة النديَّة" لصديق حسن خان 1/ 93.

[3] رواه البخاريُّ (378) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، ومسلمٌ (411)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، من حديث أنس بن مالك.

[4] "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 22/ 252 - 254.

[5] "إعلام الموقِّعين" 2/ 232.

[6] "مجموع فتاوى ابن تيمية" 22/ 255.

[7] "مجموع فتاوى ابن تيمية" 35/ 121.

[8] "مجموع فتاوى ابن تيمية" 20/ 216.

[9] رواه أبو داود (3641) كتاب: العلم، باب: الحثّ على طلب العلم، والترمذيُّ (2682) كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وابن ماجَهْ (223) باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم، وأحمد 5/ 196، والدارميُّ 1/ 110 (342) باب: في فضل العلم والعالم، من حديث أبي الدَّرداء - رضي الله عنه.
قال الترمذيُّ: ولا نعرف هذا الحديث إلاَّ من حديث عاصم بن رجاء بن حَيْوة، وليس هو عندي بمتَّصِل هكذا حدَّثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يُروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيسٍ، عن أبي الدَّرْداء، عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلم - وهذا أصحُّ من حديث محمود بن خداش، ورأى محمد بن إسماعيل هذا أصح، وقال الشيخ المجدِّدُ ناصر الدين الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (6297): صحيح.

[10] "إعلام الموقعين" 1/ 5 - 8.

[11] "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 35/ 233.

[12] رسالة "هل المسلم مُلْزَم باتباع مذهب معيَّن من المذاهب الأربعة؟" لمحمد سلطان المعصومي الخجندي، ص 54.

[13] "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي، 1/ 340.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.19 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.34%)]