الأصول الإجرائية لإثبات الأوقاف (المبحث الأول)
فضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين
المطلب الثالث
عناية القضاء الإسلامي بإجراءات إثبات الأوقاف
لقد اعتنى القضاء الإسلامي بالأوقاف ورسم الأصول الإجرائية لإثباتها، فقد كان القضاة يعتنون بها ويتفقدونها، فهذا القاضي لهيعة بن عيسى الحضرمي أحد القضاة بمصر (ت: 204هـ) يسعى حين ولي القضاء إلى إثبات الأوقاف مما كان في أيدي القضاة أو في أيدي أهلها، فلقد "كان من أحسن ما عمله لهيعة في ولايته أن قضى في أحباس مصر كلها، فلم يبق منها حبسًا حتى حكم فيه، إما ببينة تثبت عنه، وإما لإقرار أهل الحبس"[16].
وكان لهيعة يقول عن الأوقاف: "سألت الله أن يبلغني الحكم فيها فلم أترك شيئًا منها حتى حكمت فيه وجلدت الشهادة به"[17].
ويقرر الفقهاء بأن على القاضي عند توليه قضاء بلد أن يباشر بالنظر في أمر الموقوف والوصايا على الجهات العامة التي لا ناظر عليها[18].
وفي الأندلس جعل بعض حكامها للأوقاف خطة (ولاية) للعناية بها وبغلتها، فيثبتها ويصونها ويحافظ عليها من التبديل والاعتداء، وتثبت ذرعتها، وتنفذ شروط موقفها وكافة ما يلزم لها[19].
ولقد كان توثيق الأوقاف ورسم الإجراءات اللازمة لإثباتها موضع اهتمام العلماء الذين ألفوا في علم التوثيق، ويسمى- أيضًا: "علم الشروط"، وهو فرع من علم الفقه يبحث في كيف تدون العقود والإقرارات والمحاضر والسجلات القضائية طبقًا للأحكام المرعية وعلى وجه يصح الاحتجاج بها[20].
وأهدافه: صيانة الحقوق، صرف الارتياب عنها، وقطع المنازعة بين المتعاملين، والتحيز عن العقود الفاسدة[21].
وقد أشاد العلماء بعلم التوثيق فقال ابن فرحون (ت: 799هـ) بأنه: "صناعة جليلة شريفة، وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم..."[22].
ويقرر الفقهاء بألا يكتفي الموثق بمعرفة أنموذج الوثائق وصيغها من غير معرفة بفقه الأحكام والإجراءات التي تؤسس عليها هذه الصيغ والنماذج، فهذا ابن أبي الدم (ت: 642هـ) يمهد لعدم الإكثار من ذكر نماذج هذه الوثائق من المحاضر والسجلات في كتابه "الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات"، فهو يقول: "واعلم أنا لا نرى الاشتغال بذكر صورة هذه الأشياء والإكثار منها، كما فعله جماعة من كتاب الشروط الذين خلوا من معرفة الفقه وعلم الفتوى، ونصبوا نفوسهم لتأليف هذه الحجج التي يكتبونها في مجالس الحكام وعلى أبواب المساجد؛ فإن هذا القدر لن يجهله من يتصف بصفة العلم، وهذه الأشياء عند الفقيه الماهر كشربة ماء بارد في يوم صائف، ومتى قنعت همته بعلم الوثائق فقط من غير ترو من علوم الشريعة فقد أسكنته الحضيض ورضي بالأدون، والمعالي لن تدرك بالهوينا"[23].
ولقد أدرج بعض الفقهاء أحكام الإثبات والتوثيق ورسومه في كتب الفقه العام، ومن ذلك: السرخسي الحنفي (ت: 490هـ) في كتابه: "المبسوط"[24]، كما أدرجه آخرون في الكتب المؤلفة في القضاء خاصة، ومن ذلك: ابن فرحون المالكي (ت: 799هـ) في كتابه: "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام"[25]، وابن أبي الدم الشافعي (ت: 642هـ) في كتابه: "الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات"[26].
كما صنف بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية كتبًا في الإثبات والتوثيق ورسومه (إجراءاته)، وأدرجوا فيها ما يتعلق بالأوقاف، ومن ذلك عند الحنفية كتاب: "الشروط وعلوم الصكوك" لأبي نصر السمرقندي (ت حوالي: 550هـ)، وقد خص صيغ الأوقاف وما تشتمل عليه من رسم كتابتها وأحوالها الشرعية بالباب الثامن والعشرين[27]، ومن ذلك عند المالكية كتاب: "المقنع في علم الشروط" لأحمد بن مغيث الطليطلي (ت: 459هـ)، وقد تناول صيغ الأوقاف وما تشتمل عليه من رسم كتابتها وأصولها الشرعية بعدد من صيغ الوثائق وفقهها[28]، ومن ذلك عند الشافعية كتاب: "جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود" لشمس الدين الأسيوطي من علماء القرن التاسع، وقد تناول فيه الأحكام الشرعية والأصول الإجرائية لإثبات الوقف وتوثيقه في أحكام قررها وصيغ حررها[29].
كما أن من الفقهاء من خص صيغ ما يثبته القضاة من محاضر وسجلات مشتملة على الأصول الشرعية لإثبات الأوقاف وتوثيقها اللازمة لها بمؤلف مستقل، مثل: كتاب: "رسوم القضاة" لأبي نصر السمرقندي (ت حوالي: 550هـ)، وقد تناول فيه صيغة إثبات الوقف مشتملة على أصولها الشرعية والإجرائية[30].
المطلب الرابع
أنواع توثيق الأوقاف وإثباتها
توثيق الأوقاف وإثباتها ثلاثة أنواع:
1- الأوراق العادية (غير الرسمية) لتوثيق الوقف.
وهو إثبات عرفي غير ولائى؛ إذ هو يصدر من أشخاص ليست لهم صفة ولائية من جهة الدولة.
2- تسجيل إثبات عقار الوقف بحجة استحكام.
وهو إثبات ولائي يصدر عن موظف عام في الدولة وفق الإجراءات المرسومة شرعًا ونظامًا.
3- تسجيل إنشاء الوقف ولائيًا (رسميًا).
وهو إثبات ولائي مثل سابقه
وأبين هذه الأنواع فيما يلي:
النوع الأول: الأوراق العادية لتوثيق الوقف:
وهي التي يحررها الناس فيما بينهم لتوثيق الأوقاف أو إنشاء وقفيتها دون الرجوع إلى الدوائر الحكومية المختصة سواء حرره الملتزم بنفسه أم أملاه على غيره ووقع عليه أم كتب الكاتب شهادة به[31].
وليس لها بذلك صفة ولائية في الإثبات.
أوصاف الأوراق العادية الصالحة للاحتجاج:
لا يعمل بالتوثيق العادي في الإثبات أمام القضاء إلا إذا استوفى الأوصاف التالية[32]:
1- أن تكون الكتابة مستبينة- أي: مكتوية- على شيء تثبت عليه وتظهر فيه من الورق ونحوه، فلا يعتد بالكتابة في الهواء أو على سطح الماء.
2- أن تكون الكتابة مرسومة على الوجه المعتاد- أي: مكتوبة- على الطريقة المعتادة في كل زمان ومكان ما يناسبه.
3- أن تثبت نسبة الكتابة إلى كاتبها على وجه يوثق به، فتكون خالية من التزوير ومن التغيير الذي يخل بالثقة فيها، وبنسبتها إلى كاتبها.
وسيأتي بيان لحكم العمل بالأوراق العادية ووظيفتها في إثبات الأوقاف في المبحث الثاني.
النوع الثاني: تسجيل إثبات عقار الوقف بحجة استحكام:
والمراد به: إثبات موظف عام أثناء ولايته وفي حدود اختصاصه تملك عقار الوقف في غير مواجهة خصم ابتداء.
النوع الثالث: تسجيل إنشاء الوقف ولائيًا:
والمراد به: إثبات موظف عام أثناء ولايته وفي حدود اختصاصه تسجيل إنشاء الوقف[33].
وذلك كتوثيق المحاكم إنشاء الوقف الثابت ملكيته لصاحبه، وكتوثيق كتاب العدل إثبات الإيصاء بعقار أو غيره معلقًا على الوفاة، ويكون في مصارف الوقف.
أوصاف التوثيق الولائي:
للتوثيق الولائي- وهو النوع الثاني والثالث- أوصاف ثلاثة[34]، وهي كالتالي:
1- أن يحرره موظف حكومي:
والمراد بالموظف الحكومي: المولى من قبل الدولة.
وهذا يشمل في وقتنا: قضاة المحاكم، وكتاب العدل، على تفصيل سنذكره في الاختصاص النوعي لإثبات الأوقاف[35].
فإذا لم يول مثل هذا العمل لم يحق له توليه، ولو قام به لم يعتد به.
2- أن يكون توثيق الوقف وإثباته من أعمال وظيفته:
فلابد أن يكون توثيق الوقف وإثباته من أعمال وظيفة من قام بهذا العمل، وإلا لم يعتد به.
3- أن يستوفي التوثيق كافة الإجراءات الولائية اللازمة له:
فلا يعتد بالتوثيق الرسمي إلا إذا صدر طبقًا للإجراءات المرسومة لهذا التوثيق مما هو مقرر شرعًا ونظامًا، ومن ذلك: أن العقار لا توثق وقفيته ولائيًا إلا أن يكون عليه حجة مسجلة- كما في المادتين السادسة والأربعين بعد المائتين، والسابعة والأربعين بعد المائتين من نظام المرافعات الشرعية السعودي.
وإذا لم يكن عليه حجة مسجلة فيجري توثيقه وفق القواعد والإجراءات المقررة لإجراء الاستحكام- كما في المادة الثامنة والأربعين بعد المائتين من نظام المرافعات الشرعية السعودي.
[1] مقاييس اللغة 1/109.
[2] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير.
[3] مقاييس اللغة 1/448، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/97.
[4] مقاييس اللغة 1/399، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 80، المعجم الوسيط 1/93.
[5] مختار الصحاح 733، القاموس المحيط 1112-1113، مادة (الوقف)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 669.
[6] دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 2/489، الروض المريع شرح زاد المستقنع 5/530، وللمقارنة انظر: أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية 55-88.
[7] مقاييس اللغة 6/85، مختار الصحاح 708، لسان العرب 10/371-372، المعجم الوسيط
2/1101-1012.
[8] 2/1101-1012.
[9] مستفاد من تعريف حاجي خليفة لعلم الشروط [كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1/1045].
[10] متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 2/982، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، 3/1019، كتاب الوصايا، باب الوقف كيف يكتب؟، وأخرجه مسلم 3/1255، كتاب الوصية، باب الوقف.
[11] أخرجه مسلم 3/1255، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
[12] المغني 6/187.
[13] شرح صحيح مسلم 11/86.
[14] متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 3/1005، كتاب الوصايا، باب الوصايا، وأخرجه مسلم 3/ 1249، كتاب الوصية.
[15] المبسوط 30/167-168.
[16] الولاة والقضاة 424.
[17] المرجع السابق 424، النظم الإسلامية لحسن إبراهيم وأخيه 286.
[18] دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 3/477، كشاف القناع عن متن الإقناع 6/325.
[19] تاريخ القضاة في الأندلس من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن الخامس الهجري 574 وما بعدها.
[20] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/1045.
[21] المبسوط 30/168، رسوم القضاة 21.
[22] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1/282.
[23] الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات 494.
[24] انظر: 30/167-209.
[25] انظر: 1/282-292.
[26] انظر: 494-590.
[27] انظر: 531-552.
[28] انظر:207-210.
[29] انظر: 1/313-393.
[30] انظر: 41، 239.
[31] مستفاد من: طرق القضاء في الشريعة الإسلامية 79، توثيق الديون في الفقه الإسلامي 348.
[32] كشاف القناع عن متن الإقناع 5/249، الإتقان والإحكام شرح تحفة الحكام 1/63، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/61، المدخل الفقهي العام 1/326، وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية 305.
[33] مستفاد من: علم القضاء 1/49، توثيق الديون في الفقه الإسلامي 346.
[34] مستفاد من: طرق القضاة في الشريعة الإسلامية 78، توثيق الديون في الفقه الإسلامي 347.
[35] انظر: المطلب الخامس من المبحث الخامس.