الاجتهاد في فقه الدنيا
أ. د. عبدالحليم عويس
• لقد جاء الإسلام بقوانين تمنَع هذا الصدامَ الحضاري الذي يُروِّج له أقطاب النظام العالمي الجديد الآن، زاعمين أنه حتميَّة لا بد منها، وأن عليهم أن يَسحقوا العالم الثالث، والمسلمين بخاصة؛ لأن هذا مِن سُنن الحياة في رأيهم الكاذب الآثِم المغلوط.
• وهذا المُنحدَر الذي يَهوي إليه النظام العالمي المُعاصِر أكبر الأدلة على عظمة الإسلام، وحاجة البشرية إلى عدله المُطلَق، وإلى مساواته العادلة بين كل الناس، مهما اختلفت أديانهم وأجناسهم وأوطانهم.
• ولن يتحقَّق هذا في ظل الخمود والتخلُّف، والكسل العَقلي والتبعيَّة الفكرية التي يَعيشها أكثر المسلمين، بل لا بدَّ من أن يعمل "العقل المسلم" بأقصى طاقاته، في ضوء ثوابته الإسلامية التي جاء بها الوحي الصحيح الكريم، وهذا العمل الذي سيعمله العقل المسلم بأقصى طاقاته هو ما نسمِّيه في الاصطلاح: "الاجتهاد"، وقد يَفهم بعضهم لأول وهلة الاجتهاد على أنه اجتهاد في التشريعات الفِقهيَّة لكَي يتابع الفقه وقائعَ الحياة، فيُبصِّر الناس بما هو حلال وما هو حرام، لكن هذا - في الحقيقة - مجرَّد رافد واحد من روافد الاجتهاد، فالأصل أن يعمل العقل المسلم في "فقه الكون"؛ لأن الكون هو كتاب الله المنظور، كما أن القرآن الكريم هو كتاب الله المسطور، وكلاهما يؤيد الآخَر ويُفسِّره.
• ونحن نُعدُّ كل المبدعين في شتى العلوم النافعة التي يحلو لبعضهم أن يسميها "العلوم الدنيوية"، نَعدُّ هؤلاء المبدعين مجتهدين، لهم ثواب المُجتهِدين في العلوم الشرعية؛ لأنهم يُحقِّقون الاجتهاد في الكون كتابِ الله المنظور، ويُقدِّمون - مِن حيث أرادوا أو لم يريدوا - خدمةً لتفسير كتاب الله المسطور وفقهِه أحسنَ الفقه.
• بل نحن نرى مِن هذا أن الاجتهاد في عصرنا يجب أن يكون اجتهادًا يضمُّ المُبدِعين في كثير من العلوم؛ شرعيةً كانت أو فلَكية، أو طبيعيَّة أو كميائية، أو طبِّيَّة أو هندسيَّة.
• إنه لضروري أن يُفتَح باب الاجتهاد للجميع في ضوءِ تكامليَّةِ المَعرِفة وتعقُّدها، وأيضًا نرى ذلك ضرورة لإبقاء الناس في حظيرة الإيمان بالدِّين، بعد أن وجدْنا البشرية تنحدر في ظل الإبداع الأوروبي الذي انطلق بعيدًا عن الوحي والدين، مؤمنًا بالعقل وحده والمادة وحدها.
• ويُعدُّ الاجتهاد في العلوم الشرعية - في هذه الحالة - بمثابة الأرْضيَّة التي تقف عليها الاجتهادات الأخرى، وبمثابة الضمانات والضوابط التي تحمي الإبداعَ البشري مِن الانتحار والسقوط، وتجعل منجزاته في خدمة الحياة والإنسان ومنهج الله.
وخلال القرون التي تلت ظهور الإسلام فَهِم المسلمون الاجتهاد بهذا المعنى الشموليِّ الواسع، وانطلقوا يَنشرون الدين والعلم معًا في أرجاء المعمورة، ويجتهدون في فقه الكون والدنيا، مؤمنِينَ بأنهم يَقومون بفرض شرعي يُسمى فرض الكفاية، وبأنهم يُحقِّقون المعنى الحقيقي لقوله تعالى: ï´؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ï´¾ [الذاريات: 56].
• لقد فتح القرآن المجال واسعًا أمام العقل العربي والمسلم؛ كي يتزوَّد بالعلوم والمعارف النافعة كلها، وكان للآيات وللأحاديث النبوية التي تحضُّ على العلم، وتجعله عبادة مُتأرجِحة بين فرض العين تارةً، وفرض الكفاية تارة أخرى، ونافلة تارة ثالثة، كان لهذه النصوص والأحكام أثرها في إقبال المسلمين على كل العلوم النافعة، وأصبحَت كل علوم المعاش الدُّنيوية علومًا للمعاد الأخرويِّ، كما أصبحت كل علوم العقيدة والشريعة والعبادات (علوم المعاد) علومًا تقود الدنيا وتُزكِّيها وتُحقِّق إنسانية الإنسان في إطار منهج الله القويم، وأصبح الطب وعلوم الفلك والفيزياء وغيرها مِن العلوم العملية والعقلية تُدرَّس في المساجد الكبرى جنبًا إلى جنب مع علوم العقيدة الشرعية، بل أصبح العالِم المسلم مُتفوِّقًا في التفسير والتاريخ والفلسفة والطب واللغة في آنٍ واحد.
ولأول مرة في التاريخ يأتي دين سماويٌّ ليُعمِّق المكانة السامية للإنسان وللعقل البشري، وفي الوقت نفسه يجعل الكون كله والحياة كلها موضوعاتٍ للبحث العلمي، ومِن حق الإنسان، بل من واجبه اكتشاف قوانينها وتسخيرها لنفعه، وعبادة لله أيضًا، وبعد أن كان السائد في بقاع كثيرة مِن العالم الخضوع للظواهر الطبيعية والخوف منها، بل وعبادتها؛ خضوعًا لهذا الخوف واتقاءً لشرها أو جلبًا لنفعها، جاء الإسلام يُعلم المسلمين والإنسانية أنَّ الإنسان هو الأقوى والأزكى، وأن الكون كله بما فيه مِن قوى مرئية وغير مرئية مادة موضوعة للبحث تحت عقل الإنسان، وليس - بالتالي - كونًا مخيفًا للإنسان، بل هو خلقٌ مِن خلق الله، وقد فضَّل اللهُ الإنسان على كل المخلوقات، واستخلفه في عمارة الأرض باسمه تعالى، وقد أعطى القرآن - وهو كتاب الإسلام - مفاتيح علمية كثيرة تقود هدى الإنسان للبحث والاكتشاف، وهي مفاتيح عامة وإجمالية تُحرِّك العقل البشريَّ، ولا تُكبِّله برؤية معيَّنة تمنعه مِن البحث العلمي المُحايد؛ ولذلك فهي مفاتيح خالية مِن التفضيلات، وتُمثِّل قوانين كلية تُزوِّد الباحثين في العلوم الكونية والاجتماعية بشارات ومعالم تدفعهم إلى الطريق الصحيح للبحث الهادف البنَّاء.
ومما أوردَه صاحب المنار في المجلد الرابع عشر من "مجلة المنار" ما نقله عن الرحالة المسلم السيد محمود سالم في مقال له جاء فيه على لسان السيد سالم:
"قصدتُ في سياحاتي مدينة (بونتارليه) لمُقابلة الدكتور "جدنييبة" المسلم الفرنساوي الشهير، الذي كان في السابق عضوًا في مجلس النواب، قابلتُه لأجل أن أسأله عن موضوع إسلامه.
فقال: إنما تتبعتُ كل الآيات القرآنية، التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستُها مِن صِغَري، وأعلمها جيدًا، فوجدتُ هذه الآيات مُنطبِقةً كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمتُ؛ لأني تيقنتُ أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أتى بالحق الصراح مِن قبْل ألف سنة، مِن قبل أن يكون مُعلِّمٌ، أو مُدرِّس من البشر، ولو أن كل صاحب فنٍّ مِن الفنون، أو علم مِن العلوم، قارنَ كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيدًا، كما قارنتُ أنا، لأسْلم - بلا شكٍّ - إن كان عاقلاً خاليًا من الأغراض".
••••
إن "الخوازمي" هو إمام الرياضيات لقرون طويلة، وهو مُبتكِر اللوغاريتمات وعلم الجبر، أما "الكِندي"، فهو الذي كان الوسيلة لمعرفة حساب التكامل والتفاضل، و"ثابت بن قرة" أدخل تعديلات جوهرية على فيثاغورث، و"البتاني" أول مَن أوجد جداول فلَكيَّة دقيقة، وبجُهوده وجهود أبي الوفا تطوَّرت علوم الهندسة كالتفاضل والتكامل وحساب المثلثات.
• أما "ابن الهيثم"، فهو إمام عِلم البصريات، ويرى بعضهم أنه بدون ابن الهيثم كان صعبًا ظهور إبداعات التكنولوجيا الحديثة التي ساعدت في علوم الفضاء، وكان مؤلفه المشهور كتاب "المناظر" كتابًا عالَميًّا بيَقين في علوم الفلك وطبقات الجوِّ.
وكان لابن سينا في العلوم الطبيعية والطب بخاصة مكانة لا تُنكَر، ويُعدُّ كتاباه "الشفاء" و"القانون في الطب" مِن الكتب ذات التأثير الإنساني العام.
• ويقف ابن خلدون وحده رائدًا لعلمَي الاجتماع "العمران" وفلسفة التاريخ، وعلى الرغم من أنّ عبدالرحمن بن خلدون (ت 808) مسبوق ببعض مَن اقتربوا من هذين المجالين في الحضارة الإسلامية مثل ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) وغيره، إلا أنه - أي: ابن خلدون - يقف وحده قمَّة سامقة، يضعه رجل في قامة "أرنولد توينبي" في مصافِّ أرسطو وأفلاطون بل وسقراط، ولا يجوز أن يقارن ابن خلدون - في رأي توينبي - بأي مستوى آخر.
••••
لقد كانت الحضارة الإسلامية والعربية هي الحضارة العالَميَّة التي تسود العالم لنحو عشرة قرون، وكانت أوربا توفد أبناءها ليتعلَّموا في الحواضر الإسلامية والعربية علوم الفلسفة والأدب والطبيعيات، وقد كانت "قرطبة" العاصمة الأندلسية - كما يصفها فيليب حتى - بحق "جوهرة العالم"، وحتى في الفاتيكان تتلمذ كثير منهم في الحواضر الأندلسية، ويضاف إلى الحواضر الإسلامية الكبرى ذات الإشعاع العالَمي؛ مثل قرطبة، وإشبيلية، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، وبجاية، والقيروان، ولاهور، أن اللغة العربية كانت هي لغة العلوم واللغة العالمية لكل مُثقَّفي العالم، وقد حقَّقت انتشارًا عالَميًّا كاسحًا جعل الكاتب الإسباني (الفارو) يأسف أشدَّ الأسف ويقول في رسالة له: "إنَّ أرباب الفِطنة والتذوُّق سحَرهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللاتينية، وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها".
ويقول كاتب أوربي آخَر مُتحسِّرًا: "إن لغة العرب ما أكثر الذين يُحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب، وقد يَنظمون بها شِعرًا يَفوق شِعر العرب أنفسهم بالأناقة وصحَّة الأداء"[1]، وكان من نتيجة هذه الهيمنة للغة العربية أن انتشرَت مُصطَلحات علمية عربية كثيرة في اللغات الأوروبية، وهي مصطلحات كُتبَت فيها كتب كاملة ومِن الصعب حصرها، ومنها الكلمات الدالة على القطن، أو الحرير الغزِّي MUSLIN، أو على الحرير الموصلي Corde Cotton، أو الجلد القرطبي Damas، أو الحرير الدمشقي Gause، أو المسك Jupe، أو الجبة Morocco، أو الجلد المراكشي Syrvan، أو الشراب Saffron، أو الزعفران Attard، أو العطر Musk، أو الأرز Sofa، أو الصفَّة بمعنى المقعد الطويل Jar، أو الجرة Up، أو Lemon، أو الليمون Orange، أو البرتقال من التاريخ Rice السكر Sugar، أو القهوة Coffee.
والمصطلحات التي بلغت في هذا العِلم وحده عدة مئات مِن المفردات ذات الأصل العربي، ومنها كلمات مثل الطرف Arnab,Arta، والأرنب Caph، والكف Cursa،وكرسي الجوزاء ref، والعرقوب Arkab، والسمت Azimuth، وآدص النعام Azha، والبطين Botein، وزبانتي العقوب Zuben Hakybi، والوزن، والسيف Saris، والساهور Wega، والنسر الواقع Wezn، ورجل Sadalsud، وسعد السعود Sadr، وصدر الدجاجة Saif، الجبار Rigel، والذوق Zaurek، وقرن الثور Tauri، والراعي.. وأمثال هذه الأسماء المحفوظة بـألفاظها Denob والذنب Errai كثير غير ما ترجموه بالمعاني دون الألفاظ [2].
••••
• وكانت الترجمة مِن أكبر عوامل التفاعل الحضاري.
يتبع