التقوى والعمران الحضاري في القرآن
محمد البوزي
• الوفاء بالعهود والمواثيق مع جَميع النَّاس:
الوفاء بالعهود والمواثيق من لوازم الصدق والعدل، هو بدوره واجب تجاه الصديق والعدو، مع المؤمن والكافر، خلافًا لليهود الذين لا يوفون بعهودِهِم، ويروْن أنَّ الوفاء مع غير اليهودي لا يلزَمُهم، بل يقولون: ï´؟ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ï´¾ [آل عمران: 75]، ويردُّ عليهم القرآن بقوله تعالى: ï´؟ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ï´¾[12].
وقد أمر الله المسلمين بالوفاء بالعهد مع المشركين ماداموا على عهدهم، ولم يناوِئُوا المسلمين أو يقاتلوهم؛ فقال تعالى: ï´؟ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ï´¾[13].
وعمومًا فإنَّ دوْر التَّقوى في البناء الحضاري يتجلَّى في أمرين:
في كونها الطَّاقة المحرِّكة للإنسان، للقيام بالمسؤوليَّات الخاصَّة والعامَّة، ولإنْجاز العمل الصَّالح الذي تنتفع به الإنسانيَّة جمعاء، وفي كونِها حصانة ووقاية للحضارة من الشُّرور والمفاسد الَّتي تؤدِّي بها إلى الانهيار والسُّقوط، كما سيتَّضح ضِمْن خصائص العُمْران الحضاري في القُرآن الكريم.
2- مفهوم العمران وخصائصه في القرآن الكريم:
أ- مفهوم العمران في القرآن:
لفظ (العمران) لم يرد في القرآن، وإنَّما ورد فيه ما يفيد الإعمار والتَّعمير، أو الإسْكان بألفاظ وعبارات، مثل: (استعمركم فيها – وعَمَروها؛ أي: الأرض - عمارة المسجد الحرام - أسكنت من ذريتي...)، وكلها تفيد عمران (تعمير) الإنسان لمنطقة معيَّنة بقصد العيش وعبادة الله تعالى، والعُمران في اللِّسان العربي: نقيض الخراب، وهو اسم للبُنيان ولمن يعمر به المكان ويحسن حاله، بواسطة الفلاحة، وكثرة الأهالي، والأعمال والتمدُّن.
والعمران في الاصطِلاح اقترحه المفكِّر العلامة ابن خلدون في مقدّمته؛ للدّلالة على نمط الحياة بوجه عام، جاعِلاً إيَّاه أحد الخواصّ التي تميَّز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وهو: "التَّساكُن والتَّنازُل في مصر أو حلَّةٍ للأنس بالعشير، واقتِضاء الحاجات لما فيه من طباعِهِم من التعاون على المعاش"[14] وقدِ استلهمه ابن خلدون من قوله تعالى: ï´؟ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ï´¾[15]، والعُمران عند ابن خلدون: إمَّا أن يكون حضريًّا أو بدويًّا.
أمَّا العُمران الحضاري عند أحد الباحثين المحدثين، فيقصد به: "التوظيف الإيجابي للمنجزات الحضاريَّة"[16].
والعمران البشري في القُرآن - كما استنْتجه المهندس والباحث الجزائري تومي إسماعيل - هو: "إسْكان في منطقة معيَّنة لهدف معيَّن يتطوَّر مع الزمان، إلى اجتِماع بشري يسوده الأمن ويتوفَّر على أسباب العيش"[17].
ومن خلال هذا التعريف يظهر أن العمران البشري في القرآن يقوم على أسس مادِّيَّة أهمُّها: الإنسان والمكان وما يتبعه من شروط العيش والإقامة، وعلى أسس معنوية هي: الفكرة أو المبدأ الذي يشكل الهدف الداعي، وما يرتبط به من ثقافة، وديانة، وخبرة حياتية، وغيرها، وإن كان هذا العمران بسيطًا وبداية للعمران الحضاري المتطوِّر.
ب - خصائص العمران القرآني:
• أسس العُمْران في القرآن:
كما سبقت الإشارة فإنَّ أسُس العمران البشري والحضاري في القُرآن الكريم هي: الإنسان، والمكان (الأرض)، والرِّسالة السماوية، بقطْع النَّظر عن وجود عمران مادي بمستوى حضاري معيَّن أم لا.
كما نقرأ ذلك في دعاء نبي الله إبراهيم - عليْه السَّلام - لمَّا قال: ï´؟ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ï´¾[18].
حيثُ أسكن إبراهيمُ - عليْه السَّلام - أهلَه وابنَه إسماعيل بوادي أمِّ القُرى بجوار الكعبة، وذلك بوحي من الله تعالى، ثمَّ دعا ربَّه أن يهيِّئَ لذريَّته ما يعينهم على القيام بعبادة الله تعالى، من أمنٍ بجوار البيت الحرام، وتعارُف ومحبَّة بينهم وبين الوافدين عليْهم مستقبلاً، وأن يرزُقَهم من الثمرات ما يحقق حاجتهم من الطعام والعيش الكريم، وبذلك وضع إبراهيم - عليه السلام - الأسُس المادِّيَّة والروحيَّة للعمران البشري، وكأني به - عليْه الصَّلاة السَّلام - لمَّا أسكن ذريَّته بجوار البيت ودعا لهم بمقوِّمات الحياة الضروريَّة التي توجب شُكْر الله وعبادته، يضع تخطيطًا مستقبليًّا لعمران أمَّة مسلمة ذات رسالة حضاريَّة متميِّزة.
• العُمران الحضاري مقصد عام من مقاصد استخلاف الإنسان في الأرض:
لقد استخلف الله الإنسان في الأرض واستعْمره فيها؛ لغاية كبرى أو لغايتين، هما: تحقيق العبودية لله تعالى، بمفهومها الشَّامل وفْق ما أمر وشرع، وإقامة العدْل والإصْلاح في الأرْض، وهو مقتضى قوله تعالى: ï´؟ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ï´¾ [هود: 61].
فمعنى (استعمركم) في الآية: جعلكم عمَّارها، أو طلب منكم أن تعمروها، وهو كقوله تعالى: ï´؟ جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ï´¾ [الأنعام: 165]، واستِعْمار الإنسان في الأرض من لدن الخالق يعْني: تفويضَه لعمارتِها بإصْلاح حالِها لتصير قابلةً للانتِفاع بها، ويُستفاد منه أنَّ الإنسان مستخْلَف في الأرض ومكلَّف بعمارتها وفْق شرْع الله، وعلى هدْي أنبيائِه - عليْهم الصَّلاة والسَّلام - واستِخْلاف الإنسان في الأرْض تشريف وتكليف له بتحمُّل الأمانة العُظْمى الَّتي لم تحتمِلْها السَّماوات والأرض؛ لذا كان الأحقُّ بالاستِخْلاف هم المؤمنين الصَّالِحين المصْلِحين، تبعًا لسنَّة الله في الأُمَم، فكلَّما أهلك الله أمَّة كافِرة طاغية، جعل أمَّة المؤمنين خلائفَ في الأرْض؛ مصداقًا لقوله تعالى: ï´؟ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ï´¾ [يونس: 14].
وقد استفاد العلماء والباحثون من آيات الاستِخْلاف والتَّمكين: أنَّ عمران الأرْض مأْمور به شرعًا، وأنَّه من أصول الدِّين ومن مقاصِد الشَّريعة الكُبْرى؛ بل هو مقصدُها العام.
• العمران القرْآني قائمٌ على الإيمان والعمل الصالح (أي: على التقوى):
وإذا كانت غاية استخلاف الإنسان في الأرض هي عبادةَ الله - تعالى - وتعمير الأرض وإصلاحها، فالتعمير والعمران لا يكون إلاَّ وفق الشرع الحكيم والهداية الربَّانية، وهو مُحْتوى الإيمان والعمل الصَّالح اللَّذيْن جعلهما الله شرْطًا للتَّمكين والاستِخْلاف في الأرْض؛ مصداقًا لقوله تعالى: ï´؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ï´¾ [النور: 55].
وممَّا يؤكد ارتِباط العمران بالإيمان في القُرآن: اقْتران دعْوة الرُّسُل أقوامَهم إلى توحيد الله وعبادته في آياتِه الكريمة، بالدَّعوة إلى الإصْلاح في الأرْض والنَّهي عن الفساد فيها؛ إذ ما من رسولٍ إلاَّ كان داعيةَ قومِه إلى عبادة الله - تعالى - وحْده وترك الأوثان، والإقْلاع عن الظُّلْم والفساد الشَّائع بين النَّاس، ولا يتَّسع المقام للإتيان بالأمثلة والشَّواهد.
• العمران الحضاري تحصِّنه التقوى ويسقِطُه الظلم والفساد:
العمران الحضاري إذا قام على الحقِّ وعلى التَّقْوى والصَّلاح يباركه الله، ويَحيا به أهلُه حياة طيِّبة، وإذا قام على الشِّرْك والظلم والاستِكْبار في الأرض، دمَّره الله، كعمران أقوام: هود وصالح وفرعون وأمثالهم، فعمران هؤلاء الكفَّار زائل وخراب؛ لأنَّه استِخْراب في الأرْض وليس استِعْمارًا لها، فحقَّ عليهم القول بالدَّمار بمقتضى سنَّة الله في الأمم الكافِرة؛ كما قال - تعالى - في شأْن عاد وثمود: ï´؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ï´¾ [الفجر: 6 - 13].
وما فتئ القرآنُ ينبِّه المكذِّبين برسالة نبيِّنا محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ويدْعوهم إلى النَّظر والاعتِبار بعاقبة سلفهم في الكفر وتكْذيب الرسل، الذين لم تنفعهم قوَّتُهم ولم ينفعهم عمرانهم ولا ما بنوه من قصور ومصانع، وما زرعوا وغرسوا من زروع وأشجار، إذ كل ذلك صار آثارًا وأطلالاً، تذكر النَّاظرين والمعتبرين بمصير تاركيها.
وهكذا نجد أنَّ العمران الذي لم يكن معه الإيمان والتَّقْوى مآله الدمار والخراب، ومآل أهله الهلاك والخسران، وتلك سنَّة الله في الأمم والحضارات.
• العُمْران القرآني عمران حضاري رسالي:
إذا كان العمران مرتبِطًا بعبادة الله تعالى، وكلاهُما غاية استِخْلاف الإنسان في الأرض، فإنَّ هذا العُمْران لا يكون بالضَّرورة إلاَّ عمرانًا بشريًّا إيمانيًّا - وليْس عمرانًا مادِّيًّا - وبالأحْرى فهو عمران حضاري ورسالي، بالمعنى الإسلامي للحضارة والرسالة؛ لذلك جاءت رسالة نبيِّنا - عليه السلام - الخاتمة في سياق دعْوة أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السَّلام - الذي خطَّط لعمران الأمَّة المسلمة، فكان اهتمامه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوَّلاً ببناء الإنسان قبل العمران، وإعداده إعدادًا قويًّا بالإيمان وبالقرآن، حتَّى إذا أنشأ هذا الإنسان عمرانًا مادِّيًّا أنشأه على التَّقوى والصلاح، فيكون عمرانًا حضاريًّا حقًّا، يكفل لأهلِه الحياة الطيِّبة في الدنيا والآخرة.
يتبع