عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-02-2020, 01:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,315
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الشمول الإسلامي .. حقائقه وآفاقه


والإيمان بملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر خيره وشره ، والإيمان باليوم الآخر ، ويدخل فيه : المسألة في القبر ، والبعث ، والنشور ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، والجنة والنار ، ومحبة الله ، والحب والبغض فيه ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه ، ويدخل فيه : الصلاة عليه ، واتباع سنته ... والإخلاص ، ويدخل فيه : تَرْك الرياء والنفاق ، والتوبة ، والخوف ، والرجاء ، والشكر والوفاء ، والصبر ، والرضا بالقضاء ، والتوكل والرحمة ... والتواضع ويدخل فيه : توقير الكبير ، ورحمة الصغير ، وترك الكِبْر ، والعُجب ، وترك الحسد والحقد ، والغضب .
- وأعمال اللسان : وتشتمل على ( سبع خصال ) .
- وأعمال البدن وتشتمل على ( ثمان وثلاثين خصلة ) منها ما يختص بالأعيان ، وهي ( خمس عشرة خصلة ) وعدَّ منها : التطهُّر ، والعبادات جميعاً ... ومنها ما يتعلق بالاتباع ، وهي ( ست خصال ) : التعفف بالنكاح ، والقيام بحقوق العيال ، وبر الوالدين ، واجتناب العقوق ، وصلة الرحم ، وتربية الأولاد ... وفيها ما يتعلق بالعامة ، وهي ( سبع عشرة خصلة ) : القيام بالإمرة مع العدل ، ومتابعة الجماعة ، وطاعة ولي الأمر ، والإصلاح بين الناس ، وإقامة الحدود ، والجهاد ، وأداء الأمانة ...
وحُسن المعاملة ، وفيه : جمع المال من حِلِّه ، وإنفاقه في حقه ، ومنه : ترك التبذير والإسراف ، وإماطة الأذى ... » .
ويختم ذلك بقوله : « فهذه ( تسع وستون خصلة ) ويمكن عدُّها ( تسعاً وسبعين خصلة ) باعتبار أفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض مما ذكره والله أعلم »[2] .
ويتضح أن الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه - أدخل في ( شُعب الإيمان ) كل التكاليف التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، في كل شؤون الحياة العامة والخاصة ، وهذا هو معنى الشمول الإسلامي كما بينه علماؤنا - رضي الله عنهم - أخذاً من القرآن الكريم ، والسُّنة المطهَّرة .
أربع شعب جوامع : وقد وفَّق الله - تعالى - بعض العلماء المعاصرين إلى اجتهاد نافع في حصر هذه الشُّعب الكثيرة ، بردها إلى أربع شعب كلية جامعة ؛ لتكون أسهل في الحفظ ، وأيسر في الحصر ، وأكثر في استيعاب ما تحتها من مفردات ومسائل وأحكام ، وأوضح دلالة على جوانب الشمول الإسلامي في التشريع والتكليف ، وهي على الترتيب : ( شعبة الإيمان ، وشعبة الأخلاق ، وشعبة العبادات ، وشعبة المعاملات ) وتفصيل ذلك كالتالي :
أولاً : شعبة الإيمان : ونعني بها شعبة التصديق الجازم ، والاعتقاد الخالص بأصول الدين ، من الإيمان بالله - تعالى - وملائكته ، وكُتبه ، ورُسُله ، واليوم الآخر ، ويدخل تحتها كل ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة عن الإلهيات ، والنبوات ، والسمعيات ، وحقائق الغيب التي جاء بها الوحي المعصوم ، وهذا جانب واسع جداً ، ولا يوجد مثله صحيحاً موثَّقاً عند غير المسلمين ، بعدما حرَّف أهل الكتاب ما جاءتهم به رسلهم عليهم السلام .
ثانياً : شعبة الأخلاق : وهي السجايا النفسية الراسخة ، التي يصدر عنها السلوك الإنساني الخارجي من خلال إرادة حرة ، ونية صالحة .
والأخلاق هي الأصل الثاني في دين الله - تعالى - لذلك أمر بأحسنها ، ونهى عن سيئها ، كما قال - تعالى - :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } ( النحل : 90) .
وقد استفاض القرآن الكريم في بيانها ، وتحديدها ، والدعوة إليها ( أمراً ونهياً ) ابتداءً من العهد المكي ، عهد التكوين والتأسيس الديني ، وتابع ذلك بكثرةٍ - أيضاً - في العهد المدني ، مما يدل على أهميتها البالغة ، ومكانتها في دين الله - عز وجل - وضرورتها في كل جوانب الحياة .
ومن هذه الأخلاق الحسنة : الصبر ، والإخلاص ، والصدق ، والأمانة ، والعدل ، والفضل ، والعفة ، والتعاون ، والإيثار ، والبذل ، والسخاء ، واللين ، والعفو ، والاعتدال في الأقوال والأفعال ، والوفاء بالعهود والوعود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهر بالحق ، والشورى ... إلخ .
ومن الأخلاق السيئة التي شدد في النهي عنها : الخيانة ، والغدر ، ونقض العهود ، والكذب ، وشهادة الزور ، والإسراف ، والغِلظة ، والفحش ، والكبر ، والغرور ، والفخر ، والبطر ، والرياء ، والحقد ، والحسد ، والغيبة ، والنميمة ، والسخرية والتنابز بالألقاب ، والتجسس ، وظن السوء .. إلخ .
ثالثاً : شُعبة العبادات : ونعني بها ما شرعه الله - تعالى - ليكون عبادة له - سبحانه وتعالى - قولاً ، أو فعلاً : كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والجهاد ، والذكر ، والتفكُّر في عظمة الله وبديع خلقه ، وتلاوة القرآن ... ونحو ذلك .
رابعاً : المعاملات : ونعني بها الأحكام التي شرعها الله - عز وجل - المتعلقة بتصرفات الناس ، وعلاقتهم ببعضهم البعض ، في كل شؤون حياتهم : كأحكام البيع ، والرهن ، والتجارة ، والمزارعة ، والإجارة ، والنكاح ، والرضاع ، والطلاق ، والعدة ، والهبة ، والهدية ، والنفقة ، والميراث ، والوصية ، والحرب ، والصلح ، والهدنة ، ومعاملة الأسرى ، وتقسيم الفيء والغنائم ، والحكم بالعدل ، والنهي عن الظلم ، والجور في الأموال ، والربا ، والزنى ... وغيره .
وقد أُلحق بهذا الباب الشرائع والأحكام التي تحمي الناس في دينهم ، ودمائهم ، وأعراضهم ، وأموالهم : كشرائع الحدود والقصاص ، والجهاد في جانبه التعاملي ، بعد جانبه العبادي الذي مر ذكره .
وقد فصلنا ذلك في كتاب ( المنهاج القرآني في التشريع ) لمن شاء المزيد .
« وهكذا استوعبت هذه الشعب الأربع جميع الأحكام والتكاليف الإلهية التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، والتي اجتهد العلماء قديماً في عدها لتوافق منطوق الحديث الشريف ، والتي تتسع لأضعاف هذا العدد من حيث المعاني والمفهوم ، تصديقاً وتحقيقاً لقوله - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ( النحل : 89 ) .
تنبيهات ضرورية تتعلق بالشمول الإسلامي : وفي ختام هذا ننبه إلى حقائق بالغة الأهمية تتعلق بالشمول الإسلامي :
أولاً : الشمول عقيدة متواترة : فهو حقيقة معلومة من الدين بالضرورة ، وعقيدة يقينية منقولة إلينا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضي الله عنهم - نقلاً متواتراً ؛ ولذلك يجب الإيمان بشمول الإسلام لكل شؤون الحياة من حيث المبدأ ، ولا يحل إنكار الشمول أو إنكار جزء منه ، وإلا كان ذلك نفاقاً في الدين ، أو ردَّة عنه .
أما النفاق فأدلته كثيرة جداً في الكتاب والسُّنة ، ومنه الآيات المتتابعة في سورة النساء ، ومنها قوله - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } ( النساء : 61 ) .
وقوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( النور : 47 ) .
أما الردَّة ، فقد تقع بتجزئة الدين ، وتبعيض أحكامه ، كما قال تبارك وتعالى :} أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ } ( البقرة : 85 ) .
فسمى الله - تعالى - التجزئة في الدين ( كفراً ) يُبطل الإيمان السابق ، ولذلك توعَّد عليها بخزي الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وهو لا يكون إلا للكفار ، كما قال الله - عز وجل - في آل فرعون : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ } ( غافر : 46 ) .
ولذلك حرَّم الله - عز وجل - أشد التحريم هذه التجزئة للدين ، وهذه التفرقة بين أحكامه من حيث الإيمان بها ، والتصديق بمشروعيتها ، وقد حذر الله – تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من هذا العمل فيما لا يحصى من الآيات .
ولذلك كانت هذه القضية على غاية الوضوح في الأمة الإسلامية طوال تاريخها ، وكانت من المسلَّمات حتى عند أهل الذنوب والمعاصي ، لا ينكرونها ، ولا يجادلون فيها ، إلا إذا كانوا من الزنادقة ، أو أهل البدع والأهواء المهلكة !
فلما رُزئت الأمة بالاحتلال الأوروبي الكافر ، أشاع فيها هذه المفاهيم الخاطئة ، بجعل الدين مقصوراً على المفهوم الأوروبي النكد : أي أنه علاقة بين العبد وربه فقط ، أما شؤون الحياة ، فيزاولها الإنسان ، ويشرِّع لها ، أو يبتدع فيها بهواه ، أو كما قال بعض طواغيتهم : « يتولى الإنسان المقعد مكان الله ! » تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً .
ومن هنا اندلع في العالم الإسلامي هذا الضلال الوافد ، الذي يفرق بين الاعتقاد والاقتصاد ، وبين الدين والسياسة ، أو يقسم الحياة بين الدين والقانون الوضعي ؛ فيجعل للدين الصلاة ... ونحوها ، ويجعل للقانون كل ميادين الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية ، والتعليمية ... إلخ .
وسيظل الصراع محتدماً بين الحق والباطل ، حتى يفيء المسلمون إلى أمر الله ، ويكون الدين كله لله .

ثانياً : الشمول وعقيدة التوحيد : فقد تقرر عندنا نحن المسلمين أن الله - عز وجل - هو الحاكم الهادي ، وأنه - سبحانه - له وحده ( الخلق والأمر ) يحكم ما يشاء ، ويشرِّع ما يريد ، ويأمر وينهى ولا منازع له ، ولا معقِّب عليه في حكمه الجليل .
وقد شرَّع لعباده طوال التاريخ البشري على ألسنة رسله - عليهم السلام - وبواسطة كتبه الجليلة ، ووحيه الحكيم .
واستنكر على كل من يتطاول إلى هذه الخصوصية الإلهية التي تفرد بها - سبحانه وتعالى - كما قال - عز وجل - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( الشورى : 21 ) .
ولذلك جاءهم بدين كامل الصفات ، تام الأحكام ، ليس فيه أدنى نقص أو خلل فمن لم يؤمن بشموله واستباح الأخذ من غيره ، أشرك به - سبحانه وتعالى - وكفر بمقررات الوحي الإلهي ، ولذلك كان على رأس المهمات : الاعتقاد بوحدانية الله - تعالى - واليقين بشمول دينه الحق ، والكفر بكل طاغوت يشرع من دون الله ما لم يأذن به الله .
وهذه قضية إيمانية قطعية ، ينبغي أن ينتبه إليها كل موحد ، وأن يجعلها على رأس دعوته وجهاده في سبيل الله عز وجل .
ثالثاً : شمولنا وشمولهم : لقد شاع في الاستعمالات الحديثة مصطلح ( الأنظمة الشمولية ) وهي صفة ذم وطعن باطِّراد لِمَا عُرف عن هذه الأنظمة من استبداد ، وغطرسة ، وظلم ، وما أوقعته بالناس من مظالم ومآس فادحة ، وذلك كالشيوعية ، والنازية ، والفاشية ... إلخ .
فهل ( الشمول الإسلامي ) يشبه شيئًا من ذلك ؟
• من حيث ( المبدأ ) يختلف الشمول الإسلامي عن كل ما عُرف في الأرض قديماً وحديثاً ؛ لأن شارعه هو الله الرحمن الرحيم الذي { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ( الأنعام : 12 ) المتفرد بالحكمة التامة ، والعدل المطلق ، والفضل العظيم .
• ومن حيث ( التشريع ) الذي أقامه الله - تعالى - على الحق ، والخير ، والعدل ، والإحسان ، وجعل من مقاصده الكبرى الإصلاح ومنع الفساد والإفساد في الأرض : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) .
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا }(الأعراف : 55-56 ) .
{ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ( الشعراء : 151-152 ) .
• ومن حيث ( التطبيق ) الذي أمر فيه بكل خير ، ونهى فيه عن كل شر ؛ فأمر بالأمانة والعدل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء : 58 ) .
• ونهى عن الغدر والخيانة : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ( الأنفال : 58 ) .
• وأوصى برعاية الأسير : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ( الإِنسان : 8 ) .
• وجعل الحق والعدل فوق كل فوارق التمييز والعنصرية المهلكة : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ( الأنعام : 152 ) ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } ( النساء : 135 ) .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) .
والمعنى : لا يحملنَّكم بُغْض المشركين على الجور ، بل اعدلوا حتى مع هؤلاء الأعداء الذين يحادُّون الله ورسوله .
ومن هذه الرحمة المهداة كان فرض ( الجهاد ) لحماية الدين والأنفس ، مع غاية العدل والإنصاف : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) .
إننا لا نقصد إلى المقارنة أو الموازنة بين الحق الإلهي واللغو البشري ، وإنما أردنا التذكرة بجلال الحق الإلهي المنير ، ليزداد الذين آمنوا إيماناً ، وكي لا ينخدع أحد من المسلمين بأضاليل الجاهلية الجهلاء :
وما يستوي وحي من الله منزَّل وقافية في العالمين شرود
رابعاً : مراتب التكليف :
ومن إعجاز هذا التشريع الإلهي الشامل ، وامتيازه ، وتفوقه ، وقيامه على تمام الحكمة والرحمة : أن الله - عز وجل - جعل هذا ( الشمول التشريعي ) على مراتب متعددة ، وعلى درجات متنوعة ، وعلى صفات متكاملة متماسكة ، تيسيراً على عباده ، وشحذاً لهمم الراغبين في الترقي ، ورفعاً لدرجاتهم في حياة ( الخلود الأبدي ) التي تسقطه مذاهب البشر من حساباتها المادية الغليظة ؛ فتحرم أتباعها من سعادة الدارين .
لذلك تضمَّن هذا ( الشمول الإسلامي ) تشريعات إلهية متعددة الجوانب ، ففيه :
• تشريعات للأفراد بأعيانهم كلٌّ بما يناسبه : كالصلاة ، والزكاة ، والصيام .
• وتشريعات للجماعات فيما لا يستطيعه الإنسان بمفرده .
• وتشريعات للحكومات لتكتمل دائرة الإصلاح في الأمة الواسعة .
وجعل الله - تعالى - تشريعاته تدور بين ( الفرائض ) الملزِمة ، وبين الواجبات المقرَّرة ، أو بين الممنوعات المحرمة والمباحات المتعددة ، أو المندوبات والنوافل التي يغري ثوابها الجزيل بمزاولتها وفعلها ، عن رضاً واختيار وتطوع .
واختص - سبحانه وتعالى - بتحديد الحلال والحرام ؛ لأنه يملك - وحده - العلم المحيط ، والحكمة المطلقة ، والقدرة الشاملة ، لذلك أنكر أشد الإنكار على المخلوقات ، أن تزاول هذه المهمة البالغة ؛ لأنهم محدودون علماً وحكمةً ، قاصرون فهماً وإحاطةً ، قابلون للتأثُّر بالأهواء والمصالح ، والوقوع في المظالم ، وأخطرها مظالم التشريع ومناهج الحياة التي تؤثِّر في ( ملايين ) البشر في أجيال متعددة !
قال - تعالى - : { قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } ( يونس : 59 ) .
{ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ( النحل : 116 ) .
وقد جاء بيان مراتب التكليف في القرآن الكريم ، والسُّنة المطهرة ، كما قال - تعالى - : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ( النساء : 11 ) .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } ( البقرة : 183 ) .
( وكتب ) مثل ( فرض ) وزناً ومعنى .
ويقول - تعالى - في الطواف : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ } ( الحج : 29 ) .
وفي التطوع منه يقول - تعالى - : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 158 ) .
ومِن أَجْمَع الآيات الكريمة لمراتب التكليف ، وأنواعه ، وشُعبه الجامعة أية البر : { وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( البقرة : 177 ) فهي شاملة لأصول الإيمان ، وعقائد الدين : وتجمع شعب الإيمان كلها : من الإيمان ، إلى الأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات .
وهي تذكر الفرائض العليا ، ثم التطوعات ، مثل : الزكاة المفروضة ،والحقوق المالية الواجبة ، والصدقات .
وهي تنبه على أصول الأخلاق بنوعيها : الفرائض والفضائل كالوفاء بالعهود ،والصبر ، والصدق .
وقريب من هذا ( الشمول ) التشريعي الجامع قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدوداً ، فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها ».[3]
وقد نُقِل عن السمعاني قوله : « هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين » .
وحكى عن غيره : « ليس في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد أَجْمَعُ بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة الخشني » .
وقال أبو واثلة المزني : « جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الدين في أربع كلمات » .
وقال الحافظ ابن السمعاني : « فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ؛ لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة »[4] .
فالحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا الحق المبين . وصلى وبارك على محمد رسوله الأمين ، الذي بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة . ورضي الله عن الصحابة أجمعين . وعلى ورثة الأنبياء من العلماء العاملين .
وهدى الله أمة الإسلام إلى أحسن الإيمان ، وخير الأعمال ... آمين .


(1) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب شعب الإيمان : 1/46 ، ورواه البخاري كتاب الإيمان ، باب أمور الإيمان : 1/9 بلفظ : « بضع وستون شعبة » ورواه أصحاب السنن الثلاثة بلفظ : « بضع وسبعون شعبة » بالجزم ، والمراد بالإيمان هنا : الدين الإسلامي كله .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 1/52 ، 53 بتصرف يسير .
(3) رواه الدارقطني وغيره ، وحسنه النووي في الأربعين ، وحسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في أماليه ، كما قال ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم ج 2) .
(4) راجع في هذا ، كتاب : الجامع في شرح الأربعين النووية ، للشيخ محمد يسري : 2/1081 وما بعدها .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]