من فروض الوضوء: غسل الرجلين
دبيان محمد الدبيان
اختلف العلماء في فرض القدمين:
فقيل: فرضُهما الغسل، وهو مذهب الجمهو[1].
وقيل: فرضهما المسح، حكاه بعض أهل العلم مذهبًا لعلي بن أبي طالب وابن عباس وأنس[2]، وهو مذهب الحسن البصري وعكرمة والشعبي[3].
وقيل: طهارتهما على التخيير بالغسل أو بالمسح[4].
أدلة الجمهور:
الدليل الأول:
قراءة نصب (أرجلكم) في قوله تعالى: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6][5].
فـ(أرجلكم) معطوفة على (وجوهكم) والعامل فيها الفعل في قوله تعالى: ﴿ فَاغْسِلُوا ﴾، والعطف على نية تَكرار العامل، فكأنه قال: واغسلوا أرجلكم.
الدليل الثاني:
الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم، وأنه غسل رجليه، منها: حديث عثمان بن عفان، وعبدالله بن زيد في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وحديث علي بن أبي طالب، والربيع بنت معوذ، وغيرها مما سبق تخريجه.
الدليل الثالث:
(972-201) ما رواه البخاري، حدثنا مسدد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبدالله بن عمرو قال: تخلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرْناه، فأدركَنا وقد أرهقنا الصلاة، صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثًا[6].
وجه الاستدلال:
قال ابن العربي تعليقًا على قوله: (ونمسح على أرجلنا): "قد يتمسك به من قال بجواز المسح على الرجلين، ولا حجة فيه؛ لأربعة أوجه:
الأول: أن المسح هنا يراد به الغسل، فمن الفاشي المستعمل في أرض الحجاز أن يقولوا: تمسحنا للصلاة؛ أي: توضأنا.
والثاني: أن قوله: (وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء) يدل على أنهم كانوا يغسلون أرجلهم؛ إذ لو كانوا يمسحونها لكانت القدم كلها لائحة، فإن المسح لا يحصل منه بلل الممسوح.
والثالث: أن هذا الحديث قد رواه أبو هريرة، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: ((ويل للأعقاب من النار)).
والرابع: أننا لو سلمنا أنهم مسحوا، لم يضرنا ذلك، ولم تكن فيه حجة لهم؛ لأن ذلك المسح هو الذي توعد عليه بالعقاب، فلا يكون مشروعًا، والله أعلم"[7].
الدليل الرابع:
(973-202) ما رواه البخاري، من طريق شعبة قال: حدثنا محمد بن زياد قال:
سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا والناس يتوضؤون من المِطهرة، قال: أسبغوا الوضوء؛ فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال: ((ويل للأعقاب من النار))[8].
وجه الاستدلال من هذا الحديث كالاستدلال بالحديث الذي قبله.
الدليل الخامس:
(974-203) ما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر، أخبرني عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ارجع فأحسن وضوءك))، فرجع ثم صلى[9].
قال القرطبي: "قوله: ((فأحسن وضوءك)) دليل على استيعاب الأعضاء، ووجوب غسل الرجلين".
الدليل السادس:
حديث عمرو بن عبسة، رواه مسلم، وسبق ذكر إسناده من قبل، وهو حديث طويل: وفيه: ((ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرَّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء...)) الحديث، وله شاهد من حديث أبي هريرة في مسلم.
الدليل السابع:
(975-204) أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء))[10].
[إسناده حسن، وسبق التنبيه على أن زيادة (أو نقص) وهم من الراوي][11].
وجه الاستدلال:
أنه غسل رجليه، ثم اعتبر النقص من هذا ظلمًا وإساءة.
الدليل الثامن:
ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتخليل الأصابع، ولو كان فرضُ الرِّجلين المسحَ لم يأمر به، فقد سبق أن ذكرت حديث لقيط بن صبرة، وهو حديث صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: ((أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا)).
الدليل التاسع:
حكى بعض أهل العلم الإجماعَ على وجوب غسل القدمين، من ذلك:
نقل ابن حجر عن عبدالرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله - قوله: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين"[12].
وقال الطحاوي الحنفي: "رأينا الأعضاء التي قد اتفقوا على فرضيتها في الوضوء: الوجه، واليدان، والرجلان، والرأس، فكان الوجه يغسل كله، وكذلك اليدان، وكذلك الرجلان"([13]).
وقال في مواهب الجليل: "قال ابن رشد: إن فرائض الوضوء على ثلاثة أقسام: قسم مجمع عليه: وهي الأعضاء الأربعة"[14].
وقال ابن قدامة: "والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين".
قلت: النية ليست محل اتفاق، فالحنفية لا يرونها واجبة، والخلاف محفوظ أيضًا في غسل الرجلين، ولعل ابن قدامة يقصد في المذهب، ولم يقصد في المذاهب.
وقال ابن عبدالهادي: ومفروض إجماعًا غسل رجليه إلى الكعبين[15].
وأجيب:
مناقشة دعوى الإجماع، عندنا الإجماع المحكي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإجماع المحكي عن غيرهم.
أما الإجماع المحكي عن الصحابة، فقد ذكر ابن حزم - رحمه الله تعالى - أن المسح مذهب لعلي وابن عباس وأنس[16].
وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أنهم رجعوا عن ذلك، قال: "ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك، قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين"[17]. اهـ
فحكاية رجوع الصحابة علي وابن عباس وأنس، أخذه ابن حجر من حكاية ابن أبي ليلى: أن الصحابة مجمِعون على غسل القدمين، وليست صريحة؛ إذ يحتمل أنه إجماع على مشروعية الغسل، وهذا لا نزاع فيه، ولا يوجد إجماع على أنه لا يجزئ إلا هو، وبينهما فرق.
ولو نقل ابن حجر عن علي وأنس وابن عباس القول بعدم جواز المسح، لصح مأخذه.
وأما الإجماع المنقول عن غير الصحابة، فأعتقد أنه غير دقيق؛ فقد نقل استثناء القدمين جماعة ممن رووا الإجماع، منهم:
السمرقندي الحنفي قال: "والرابع: غسل الرجلين مرة واحدة..... ثم قال: وهذا فرض عند عامة العلماء، وقال بعض الناس: الفرض هو المسح لا غير، وعن الحسن البصري أنه قال: يخير بين الغسل والمسح، وقال بعضهم: إنه يجمع بينهما"[18]... إلخ كلامه - رحمه الله.
قال ابن عبدالبر: "وذلك أنهم أجمعوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب الذي عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وإذا جاز عند من قال بالمسح على القدمين أن يكون من غسل قدميه قد أدى الفرض عنده، فالقول في هذه الحال بالاتفاق هو اليقين"[19].
وقال أبو بكر بن العربي: "قال أبو عيسى: لا يجوز المسح على الأقدام المجردة، خلافًا لمحمد بن جرير الطبري، حيث قال: هو مخير بين المسح والغسل، ثم قال: وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه يجب الجمع بينهما"[20].
وقال القرطبي: "اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه، دون ما اختلفوا فيه"[21].
وقد ثبت القول بالمسح عن جماعة من التابعين ممن يعتد بقولهم، ويعتبر خلافهم بالإجماع، كالحسن البصري، وعكرمة، والشعبي، وغيرهم.
فقد روى ابن أبي شيبة، حدثنا ابن عُليَّة، عن أيوب، قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه، وكان يقول به.
وهذا إسناد صحيح إلى عكرمة، وعكرمة من تلاميذ ابن عباس، وربما أخذ عنه فقه هذه المسألة، وابن عباس قد جاء عنه القول بالمسح، وهذا يدل على أن القول بأن ابن عباس قد رجع عنه يحتاج إلى تأمل.
(976-205) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن، أنه كان يقول: إنما هو المسح على القدمين، وكان يقول: يمسح ظاهرهما وباطنهما.
[وهذا إسناد صحيح عن الحسن].
(977-206) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، قال: إنما هو المسح على القدمين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم، وما كان عليه المسح أهمل، فلم يجعل عليه التيمم.
[وهذا إسناد صحيح إلى الشعبي].
(978-207) وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن علية، عن حميد، قال: كان أنس إذا مسح على قدميه بلَّهما.
وسنده صحيح.
وقد سبق أن هذا القول قاله ابن جرير الطبري، وبعض أهل الظاهر.
فالقول بالمسح ثابت عن بعض السلف، لا إشكال في ثبوته من لدن الصحابة فمن بعدهم، وثبوت القول شيء، والراجح شيء آخر، فلا يلزم من ثبوت القول ثبوت الصحة، فقد يكون القول ثابتًا، وهو قول ضعيف من حيث الدلالة، والله أعلم.
وقد ذهب بعض أهل العلم أن القول بالمسح كان في أول الأمر ثم نُسخ، وقد ذهب إلى هذا ابن حزم والطحاوي رحمهما الله تعالى، وهذا أيضًا ليس بصواب.
قال ابن حزم: "القرآن نزل بالمسح... ثم قال: وإنما قلنا بالغسل فيهما؛ لما حدثناه، ثم ساق بإسناده حديث ((ويل للأعقاب من النار))، فكان هذا الخبر زائدًا على ما في الآية، أو على الأخبار التي ذكرنا، وناسخًا لما فيها ولما في الآية، والأخذ بالزائد واجب... إلخ كلامه - رحمه الله تعالى[22].
وقال الطحاوي بعد أن ساق حديث عبدالله بن عمر "تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر، ونحن نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار))"، قال الطحاوي - رحمه الله -: "فدلَّ على أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرناه"[23].
دليل من قال: إن فرض الرجلين المسح:
الدليل الأول:
الاستدلال بقراءة جر (وأرجلكم) من قوله تعالى: ﴿ وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم ﴾.
قال ابن حزم: "القرآن نزل بالمسح، وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها، هي على كل حال عطف على الرؤوس، إما على اللفظ، أو على الموضع، لا يجوز غير ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة"[24].
وأجيب عنه:
فقيل: "إن الجر على المجاورة، وهذا معروف في لغة العرب، من ذلك قولهم: هذا جحر ضبٍّ خربٍ، بجر (خرب) على جوار (ضب)، وهو مرفوع صفة لجحر، ومنه في القرآن الكريم: ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[25]، فجرَّ (أليم) على جوار كلمة (يوم)، وهو منصوب صفة لعذاب، فإن قيل: إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو، فإن كانت لم يصح، والآية فيها (واو)، قلنا: هذا غلط؛ فإن الإتباع مع الواو مشهور، في أشعارهم، من ذلك ما أنشدوه:
لَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ♦♦♦ وَمُوثَقٍ فِي عِقَالِ الأَسْرِ مَكْبُولِ
اهـ كلام النووي [26].
الوجه الثاني في الجواب عن قراءة الجر:
ما قال ابن العربي: "والذي ينبغي أن يقال: إن قراءة الخفض عطف على الرأس، فهما يمسحان بكف إذا كان عليهما خفاف، وتلقينا هذا القيد من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليه خفاف، والمتواتر عنه غسلهما، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بفعله الحال الذي تغسل فيه الرجل، والحال الذي تمسح فيه"[27].
الجواب الثالث:
قال النووي: إن قراءتَي الجر والنصب يتعادلان، والسنة بيَّنت ورجحت الغسل، فتعيَّن[28].
الوجه الرابع:
قال النووي: "لو ثبت أن المراد بالآية المسح، لحمل المسح على الغسل؛ جمعًا بين الأدلة والقراءتين؛ لأن المسح يطلق على الغسل، كذا نقله جماعة من أئمة اللغة، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش، قال: كانوا يقرؤونها، وكانوا يغسلون"؛ اهـ كلام النووي[29].
وقد سبق لنا قول ابن العربي: من المستعمل في أرض الحجاز: تمسحنا للصلاة؛ أي: توضأنا. اهـ
يتبع