عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 14-02-2020, 04:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,283
الدولة : Egypt
افتراضي سياسة الجودة الشرعية في المصرفية الإسلامية

سياسة الجودة الشرعية في المصرفية الإسلامية

د. عبدالعزيز بن سطام بن عبدالعزيز آل سعود

قسم السياسة الشرعية

المعهد العالي للقضاء

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية


ملخص البحث:

يستعرض البحث سبل تحقيق أعلى جودة شرعية، والسياسات المناسبة لذلك في المصرفية الإسلامية، تطرق البحث إلى أبرز نواحي تطور المصرفية الإسلامية وأبرز العوائق والانتقادات، وطريقة ضبط عمل اللجان الشرعية وتصميم المنتجات المالية بحيث تكون موافقة لمقتضى الفتوى، ثم متابعة الأداء وتدقيقه للتحقق من ذلك، وتوصيف ما يجب أن يكون عليه العمل بالمقارنة مع ما هو واقع بالفعل فيما يتعلق بعمل جهات الفتوى وجهات الإدارة أو الرقابة واللجان الشرعية.عرَّف البحث الجودة الشرعية في جانبيها الموضوعي والإجرائي، وكيفية إصدار معايير الأداء والرقابة والتدقيق للتحقق من صحة التطبيق من حيث موافقته لمقتضى الفتوى والإجراءات اللازمة لإتقان العمل.

وبيَّن البحث اعتماد الجودة الشرعية على وجود معايير مالية واقتصادية إسلامية صادرة من جهات مهنية وأهلية وفق المتعارف عليه دوليّاً في آلية إصدار المعايير.

كما تطرق البحث إلى الاعتماد المتبادل والتكامل بين الجدوى الشرعية والجدوى القضائية والنظامية، وانفصال الجدوى الشرعية عن الجدوى المالية.

كما بين البحث أهمية تكامل العمل المحلي (الوطني أو القومي) مع العمل الدولي فيما يتعلق بالعمل المصرفي الإسلامي وأهمية وضع معايير المصرفية الإسلامية وتوحيدها وتدويلها.

وختم البحث بمحصلة ونتائج تطرقت إلى التوصية بإنشاء جهة مهنية متخصصة في إصدار معايير مالية واقتصادية إسلامية مع بيان المتطلبات الإدارية والنظامية والسياسات العامة المطلوب توفرها لتكون بيئة العمل مواتية ومشجعة لتحقيق أعلى درجات الجودة الشرعية.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعد:
يأتي الحديث عن سياسة الجودة الشرعية في التصرفات المالية نتيجة لما شهدته الآونة الأخيرة من تسابق لاستقطاب التعاملات المالية الإسلامية من قبل الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص في كثير من الدول؛ وحسب دراسة لصندوق النقد الدولي (2010م) لوحظ زيادة قوية في الطلب على المنتجات المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، سواء في منطقة دول مجلس التعاون أو في العالم، ومما يعكس ذلك النمو الكبير في الأصول والتي تقدر حاليا بما يقرب من 850 مليار دولار[1]، كما يؤكد الجاسر (2010م) أن حجم إصدار الصكوك الإسلامية بلغ نحو 100 مليار دولار في نهاية عام 2009 م. وتشكل المصارف والمؤسسات الإسلامية نحو 15 % من أصول أكبر 35 مصرفا ومؤسسة مالية تعمل في أكثر من 75 دولة، وأن إجمالي أصول الصناديق الاستثمارية الإسلامية في نهاية الربع الثالث من عام 2009 م تقدر بنحو 27 مليار دولار، موزعة على 478 صندوق استثمار إسلامي في العالم[2].

كما يؤكد محللون ماليون وخبراء الاقتصاد أن كل المؤشرات الاقتصادية تشير إلى نمو صناعة المصرفية الإسلامية في العام 2010 م بوتيرة تصاعدية وخطى ثابتة مع توقعات بألا يقل حجم النمو في هذه الصناعة عن 30 % تقريبًا [3]، وما تبع ذلك من سجال بين المؤيدين والمنتقدين لأعمال المصرفية الإسلامية، وهذه هي طبيعة الأمور المهمة في بداياتها، حيث يكثر الاختلاف عليها بين الناس إلى أن تتبين الأمور وتستقر بعد حين، فهناك مآخذ على شكل التحول إلى المصرفية الإسلامية القائم الآن، وأهمها على الإطلاق هو غموض أو عدم سلامة ترجمة المنتج الإسلامي من الشوائب، إذ لا يوجد في عالمنا اليوم خبراء في مجال هيكلة وابتكار المنتجات الإسلامية الاستثمارية تتوفر لديهم في الوقت نفسه القدرة على معرفة الحكم الشرعي: حلاله وحرامه تجاه هذا المنتج أو غيره وعلى بينة كافية، وحتى هذه اللحظة نجد خبراء اقتصاديين واستثماريين وماليين جنبًا إلى جنب مع فقهاء شرعيين في التعاملات المالية في لجانٍ شرعية، ولكن لا نجد العالم المتخصص في الجانبين المالي والشرعي؛ لهذا فما زلنا في حاجة ماسة لخبير يمزج ما بين الخبرة الاقتصادية المتعمقة والخبرة الشرعية المحكمة التي تمنح صاحبها القدرة على الإفتاء الشرعي في تصنيع منتجات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، وتتوفر لديه القدرة على تحديد المنتجات غير المتوافقة مع الشريعة الإسلامية [4]؛ لأجل ذلك فإن المصارف الإسلامية لا تزال غامضة لدى معظم الناس [5]، حتى في البلدان الإسلامية، بل إن من بين المسلمين مَنْ لا يزال الشك يساوره في مشروعية أعمال هذه المصارف.وعلى هذا الأساس فإنه يمكننا تقرير: أن ما تقوم به هذه المصارف من أنشطة وأعمال سواء ما كان متعلقاً منها بالخدمات المصرفية أو الاجتماعية أو التسهيلات المصرفية أو متعلقاً بالجانب الاستثماري، كلُّها معروضة سلفاً على أحكام الشريعة، وما نجده من خلاف بينها مرده إلى أن الكثير منها يعتبر من النوازل الجديدة، وتعد من الأمور الاجتهادية التي تختلف فيها آراء الباحثين، وقد يترجح لدى المستشارين الشرعيين لمصرف آخر حكم آخر يعارضه ومن هنا يأتي الاختلاف.

هذا بالإضافة إلى احتمال وقوع أخطاء أو تجاوزات لعدم كفاية مستوى الرقابة الشرعية، وذلك لندرة توفر عاملين مؤهلين ومدربين تدريباً مصرفياً وفقهيًا يؤهلهم للعمل في المصارف الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى نقص معرفة الكثير منهم بالأحكام الشرعية التي تحكم الأعمال التي يقومون بها[6].

مشكلة البحث

مشكلة البحث نابعة من الصعوبات التي يواجهها قطاع التعاملات المالية الإسلامية على المستوى المحلي والدولي على حدٍّ سواء، والذي يرجع إلى غياب المعايير الموحدة التي تحكم المنتجات المالية، وذلك عائد إلى اختلاف منهجية الفتوى وعدم تجانس الفتاوى تجاه المنتج الواحد، كما يرجع إلى الفراغ التنظيمي والإداري. كل ذلك يؤدي بصورة تلقائية إلى تدني الجودة الشرعية أو انعدامها في الصناعة المالية الإسلامية[7]؛ وبناءً على ما تقدم يمكن تحديد وتوصيف مشكلة البحث بأنها سياسة الجودة الشرعية، ومتطلباتها، وكيفية ضبطها، ويمكن صياغتها في التساؤل الرئيس التالي:
ما طبيعة الجودة الشرعية؟ وما متطلباتها؟ وكيف تضبط ؟ وكيف يدبَّر أمرُ الجودة الشرعية بما يُصلحها؟

تساؤلات البحث

ويتفرع عن التساؤل الرئيس التساؤلات الفرعية التالية:
1- إلى أي حدٍ تتوفر الجودة الشرعية في الصناعة المصرفية الإسلامية؟
2- ما مدى توفر خصائص الجودة الشرعية في المصرفية السعودية؟
3- ما الذي ينبغي عمله للوصول إلى الجودة الشرعية في المصرفية؟
4- ما العقبات التي تعيق عملية التحول إلى الجودة الشرعية في صناعة المصرفية السعودية؟وما طرق تذليل العقبات؟
5- ما المحصلة العملية من تبني سياسة الجودة الشرعية في المنتج المصرفي السعودي خاصةً والإسلامي عامةً؟


منهج البحث

البحث من البحوث المكتبية التي ينظر في البحوث والكتب والتقارير ذات العلاقة بموضوعه، ويعتمد في التحليل العلمي للنصوص والوثائق بغية الوصول إلى النتائج وفق تقنيات منهج الاستقراء الناقص، وحيث إن الاستقراء التام غير ممكن؛لاستحالة إحصاء كل ما كتب في هذا الموضوع - الذي يعتمد على الاطلاع على عينة من المراجع في موضوع البحث بحيث تفيد غلبة الظن أن النتيجة تكون صادقة في الدلالة على موضوعها، ويستخدم أداة تحليل مضمون النصوص العلمية والوثائق لتفسير النصوص والمواد العلمية والتوصل إلى النتائج.

نطاق البحث

البحث مقيد مكانياً في المملكة العربية السعودية، وموضوعياً فيمجال التصرفات المالية المؤسسية، ويقصد بها الآتي:
كل تصرف مالي تدَّعي فيه جهة الإدارة أنه موافق لفتوى شرعية معتبرة، ويفهم منه أن التصرف يصح وصفه بالإسلامي عند مطابقته لمقتضى الفتوى.

الأعمال المؤسسية التي تقوم بها جهة الإدارة في سبيل ضمان عدم مخالفة التصرف المالي لأحكام الشريعة.


ويخرج عن نطاق هذا البحث كل تصرف مالي فردي.


ويخرج عن نطاق هذا البحث كل تصرف مؤسسي غير موافق لشرع الله.


خطة البحث

وفي متابعة مشكلة البحث سوف يدرس الباحث المباحث التالية:
1- التمهيد:ويتناول تطور صناعة المصرفية الإسلامية وضبطها بالجودة الشرعية.
2- المبحث الأول: بعنوان واقع المصرفية الإسلامية وما يرد عليه .
3- المبحث الثاني:وعنوانه ماهية سياسة الجودة الشرعية وإشكاليات تطبيقها.
4- المبحث الثالث: ويتناول معيار الجودة الشرعية.
5- النتائج والخاتمة.

التمهيد

تطور صناعة المصرفية الإسلامية وضبطها بالجودة الشرعية:
إن تطور صناعة المصرفية الإسلامية أوجد بدائل عن المعاملات المالية المخالفة للشريعة الإسلامية، الأمر الذي يوجب ضبطها بالجودة الشرعية، وكلما تنوعت وتعددت زادت الحاجة لأن يكون ضبط الجودة الشرعية يعتمد على منهجية مؤسسية وليس على الاجتهادات الفردية للعلماء الأفاضل، فالجهد المطلوب يفوق القدرات الشخصية للأفراد أو الشركات ولا مناص من الاجتهاد الجماعي المنظم.والاهتمام بالمصرفية الإسلامية لم يقتصر ذلك على الدول الإسلامية، بل تعداه إلى الدول غير الإسلامية، مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان وغيرها من الدول، وما رافق ذلك من اهتمام من الجهات الإشرافية والرقابية في تلك الدول[8].

وقد أدى هذا التنامي الملحوظ ونشوء هذه الهيئات إلى أن تعتني بوضع المعايير اللازمة لهذا النوع من التعاملات، والسعي للتنسيق بين المؤسسات المالية المختلفة، فمجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا على سبيل المثال، مختص بإصدار معايير الرقابة والإشراف، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين، أصدرت أكثر من أربعين معياراً شرعياً، ومعايير المحاسبة والمراجعة، والمجلس العام للبنوك الإسلامية في البحرين، الذي له عناية ظاهرة في مجال التنسيق بين المؤسسات المالية الإسلامية[9] ، فإن تنسيق عملية التواصل بين الهيئات الشرعية والعمل، سيؤدي إلى توحيد لنظم المصرفية الإسلامية، وفتح آفاق أوسع للتعاون بين المؤسسات المالية المختلفة[10].

وفي مقابل ذلك كله، فإن المملكة العربية السعودية تعد متأخرة في هذا المجال، بل إنها تخلفت عن كثير من الدول الإسلامية[11] وغيرها في عدة مجالات - في وقت كان ينبغي اعتماد المصرفية الإسلامية رسمياً، بحيث تحاسب المصارف بموجبها، وأن تمسك فيه بزمام المبادرة هي: مجال الأنظمة والإشراف، ومجال الإدارة، والمجال المهني، وهو موضوع هذا البحث، ونتج عن هذا التأخر هجرة في الموارد المعرفية والمالية، حيث يتم استقطاب كثير من العقول المؤهلة تأهيلاً شرعيّاً من قبل تلك المؤسسات، إضافة إلى هجرة رؤوس الأموال؛بحثاً عن أدوات الاستثمار والتمويل والتأمين، وغيرها من المنتجات والأدوات الإسلامية، مما لا يكون متاحاً في السوق السعودية في الوقت الحاضر، أو أنه متاحٌ بطريقة تفتقد إلى الدعم النظامي والوضوح والشفافية والجودة؛وهذا يؤدي إلى ضعف القدرة التنافسية للمملكة العربية السعودية التي يفترض أن تكون رائدة للجميع في مجال الخدمات والمنتجات المالية الإسلامية.

ولا يوجد مبررٌ ظاهرٌ لهذا الوضع في المملكة العربية السعودية والتي ما زالت رسمياً خارج حركة "البنوك الإسلامية"، رغم أنها أول من وقف وراء هذه الحركة في العالم، وأغلب رؤوس الأموال التي تمول العمل "البنكي الإسلامي" تأتي منها. والملاحظ أن السوق السعودية تعيش مع بنوك رأسمالية غير متوافقة مع الشريعة (تقليدية) في الوقت الذي نرى فيه الأنظمة السعودية تمنع من الفوائد (الربا)، فقد نصت المادة الثانية من نظام مؤسسة النقد العربي السعودي على أنه: "لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة، وإنما يجوز لها فقط فرض رسوم لقاء الخدمات التي تؤديها للجمهور أو للحكومة، وذلك لسد نفقات المؤسسة، وتصدر تلك الرسوم بلائحة يقرها مجلس الإدارة، ويوافق عليها وزير المالية، ولا يجوز أن يكون للمؤسسة رأس مال وعليها أن تعيد رأس المال جميعه إلى الحكومة"[12].

ولأجل ذلكتجد البنوك غير المتوافقة مع الشريعة (والتي جرى العمل على وصفها بالتقليدية) تستخدم وسائل متنوعة لتجاوز النظام ولاسيما في القروض العمومية، ويتمثل ذلك في استعمال مصطلح "الدخل" عوضاً عن الفائدة، مع أنه يعادل ما تعطيه سندات الخزينة الأمريكية من فوائد.ولما كانت البنوك ملزمة بعدم التعامل بالفوائد - حسب منطوق النظام - سواء مع الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين؛ لذا فإننا نجدها تأخذ مقابلاً عما تؤديه من خدمات، وهو ما يحوَّل في الغالب إلى مجرد فوائد مستترة وراء تسمية أخرى ليس إلا، خاصة أن هذه الهيئات توظف فائض السيولة المتوافرة لديها في سوق المال مقابل الفوائد، بل إن منها ما تسجل هذه الفوائد في بند الدخول كأرباح، مثل صندوق التنمية الصناعي أو مثل البنك السعودي للتسليف والادخار الذي يقدم قروضاً دون فائدة للسعوديين ذوي الدخل المحدود.

ويمكن اعتبار شركة الراجحي المصرفية للاستثمار أول بنك تجاري خاص إسلامي في السوق السعودية، وهو لم يؤسس في الأصل بنكاً، وإنما جاء ذلك عَرَضًا نتيجة تحول الشركة الأصلية أي "شركة الراحجي" للصرافة إلى بنك إسلامي في فبراير 1988 وبموافقة السلطات النقدية التي رخصت للإخوان الراجحي سنة 1987م بتحويل شركتهم إلى بنك تجاري عادي تحت اسم "شركة الراجحي المصرفية للاستثمار"[13].

وهذا الوضع يشكل مسألة مهمة تثير التساؤل عن الدور المفقود، والبحث عن الحل الذي يجب القيام به: ما هو؟ وكيف هو يكون؟

المبحث الأول:

واقع المصرفية الإسلامية وما يرد عليه

الموقف من المصرفية الإسلامية يتمايز بين فئة ترفض الاعتراف بوجود مصرفية إسلامية، وتشمل بعض العلماء الأفاضل ممن لا يثقون بالمصارف بصفة عامة، وبعض الماليين والاقتصاديين ممن لا يثقون بالمصارف الإسلامية بصفة خاصة، وفئة أخرى تميز بين المصارف الإسلامية والمصارف الربوية.

والواقع المشاهد تجاوز الفئة الأولى ويمثل تحدياً للفئة الثانية، وذلك لما يحمله من متطلبات المنافسة في الأسواق المحلية والدولية، الأمر الذي لا يتصور النجاح فيه بدون جودة شرعية، وهذا الواقع الجديد هو محور هذا المبحث.

الواقع الحالي للهيئات الشرعية والمصارف الإسلامية في السوق السعودية:
هو أن جميع البنوك في المملكة تقدم المصرفية الإسلامية، إما عن طريق النوافذ الإسلامية، أو أن يكون البنك بأكمله يعمل وفق الشريعة، ولا يوجد بنك يقتصر في خدماته على المصرفية التقليدية، وليس هناك إجراءات محددة مع الجهات الرسمية يحتاج إليها البنك عند تقديمه خدمات إسلامية، فجميع الأنظمة الأساسية لهذه البنوك لا تمنعها من ممارسة المصرفية الإسلامية، ولا تمنعها من التحول الكامل، ويوجد لدى جميع هذه البنوك هيئات شرعية أو مستشار شرعي إما للبنك بأكمله أو للنافذة الإسلامية، وقد توسعت المصرفية الإسلامية في المملكة وزادت بشكل ملحوظ في السنوات العشر الماضية، حتى بلغت نسبة التمويل الإسلامي إلى إجمالي التمويل في السوق أكثر من 75% في نهاية عام 2007م.

ولا تزال تنمو بشكل سريع جداً مع ظهور العديد من المنتجات الإسلامية التي تلبي متطلبات السوق، ولم يصاحب هذا النمو الكبير في المصرفية الإسلامية نمو مناسب في الجوانب التنظيمية أو الرقابية لعمل هذه المؤسسات، وتجدر الإشارة إلى وجود عجز كبير في معايير أو ضوابط شرعية أو محاسبية أو رقابية تحكم هذه التعاملات، وذلك نظراً لغياب جهاز لمراقبة المنتجات الإسلامية في البنوك فإنه قد تحصل أخطاء عند التطبيق[14].

تعتمد العديد من المؤسسات المالية في إجازة منتجاتها وعقودها على هيئات شرعية تتألف من مجموعة من علماء الشريعة والاقتصاد، لا يقل عددهم في العادة عن ثلاثة، ويصل في بعض الهيئات إلى سبعة أعضاء، وتنص اللوائح في بعض البنوك إلى إمكانية زيادتهم إلى تسعة أعضاء، وبعض المؤسسات المالية لديها مستشار شرعي، ويكاد ينحصر وجود الهيئات الشرعية في المملكة في الشركات المالية فقط منها البنوك، وشركات التأمين، وشركات الاستثمار، ولا توجد مرجعية إدارية أو جهة إشرافية تتبعها تلك الهيئات، وأعضاء الهيئات غير متفرغين ولا يتبعون الجهة التي يقدمون الاستشارة لها باستثناء منصب الأمين العام للهيئة في بعض الهيئات، وبعضها يدعمها جهاز رقابي للتدقيق في أعمال المؤسسة والتأكد من سلامة التطبيق، والتدقيق يكون داخليّاً من موظفين داخل المؤسسة، وغالب المؤسسات لا يوجد فيها إلا هيئة شرعية من دون جهاز تدقيق، وقد بلغ عدد الهيئات الشرعية في المملكة أكثر من خمسين هيئة، وربما يكون العدد الفعلي أكثر من ذلك لوجود هيئات لم تقف عليها الدراسة، والمعمول به في أغلب الهيئات الشرعية في المملكة أنه لا يمنع من تكرار العضوية في أكثر من هيئة، ولا توجد هيئات شرعية في المؤسسات المالية الحكومية مثل مؤسسة النقد أو هيئة السوق المالية، وهيئة الاستثمار العامة، ومصلحة معاشات التقاعد والتأمينات، ويوجد عدد من المكاتب الاستشارية التي تقوم بمهمة الهيئات الشرعية للمؤسسات، وليس هناك معايير موحدة أو مرجعية شرعية ملزمة لطريقة عمل الهيئات الشرعية ولاجتهاداتها أو لإجراءاتها أو طريقة التدقيق، وإنما هي اجتهادات مبنية على رأي الأغلبية في الهيئة التي يصدر منها القرار، وهي غالباً ما تستند على المعايير الصادرة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ولقرارات المجامع الفقهية، ومن أبرزها: مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وليس هناك ارتباط إداري أو هيكلي بين الهيئات الشرعية واللجنة الدائمة للإفتاء أو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وقد تصدر قرارات من هذه الهيئات بخلاف ما عليه الفتوى لدى اللجنة الدائمة للإفتاء أو خلافاً لما صدر من قرارات من هيئة كبار العلماء، أو خلافاً للمعايير الشرعية لهيئة المحاسبة أو خلافاً لقرارات المجامع الفقهية، لا يلزم من إجازة منتج لدى إحدى الهيئات أن يكون مقبولاً لدى الهيئات الأخرى، أو أن يكون مقبولاً لدى الجهات القضائية [15].

طلب العملاء للتعاملات المالية الإسلامية في السوق السعودية:
تعد الصبغة الشرعية على أي منتجٍ ماليٍّ من أكثر وسائل جذب العملاء للإقبال على ذلك المنتج، ومن المؤشرات على ذلك ما يأتي: تنافس البنوك - بما في ذلك البنوك غير المتوافقة مع الشريعة (التقليدية) - على تقديم الخدمات المصرفية الإسلامية ولاسيما لقطاع الأفراد، وتكاد البنوك كلها فيما يتعلق بقطاع الخدمات للأفراد تلتزم بأن تكون تعاملاتها غير مخالفة للشريعة، أو على الأقل تخفي أي مخالفة شرعية.إضافة إلى حرص البنوك والشركات على إبراز شهادة الإجازة الشرعية للمنتج الذي يقدمه لعملائه، وحرص المؤسسات المالية على استقطاب الهيئات الشرعية، ومن دوافع ذلك العوائد الكبيرة والإقبال المتزايد على المنتجات المجازة والإقبال الكبير على الاكتتابات المتوافقة مع الشريعة.

لذا فقد انبرى عدد من المفتين في هذه الجوانب الاقتصادية، ممن حازوا على ثقة الناس بدراسة المشاريع التي تطرح للاكتتاب فصنفوها، فهذه شركات جائزة ليس لديها تعاملات مالية محرمة فهي نقية، وهذه شركات نشاطها مباح ولديها أو لدى بعض شركاتها التابعة معاملات مالية محرمة، ولا تعد من نشاطها فهي مختلطة، وهذه شركات نشاطها غير مباح أو لديها أو لدى بعض شركاتها التابعة معاملات مالية محرمة، وتعد من نشاطها فهي محرمة لا تجوز، وترى الفتاوى توزع بصور مختلفة على شكل رسائل (هاتف جوال) ورسائل بريدية ورسائل إلكترونية (إيميلات).

أبرز المشكلات التي تواجه الصناعة المالية الإسلامية بالسوق السعودية:
إن الصعوبات والتحديات في هذا المجال متنوعة ومتعددة وسواء أكانت هذه التحديات من جهة عدم توافر البيئة القانونية والرقابية التي تخدم هذه الصناعة - أم أشد من ذلك وهو وقوف هذه القوانين ضدها، أم كانت ناشئة من السكوت عن هذه الصناعة، وعدم التصريح بالاعتراف بها، ومن ثَم فهي تعمل في بيئة مجهولة العواقب قانونياً ورقابيًا [16][16]، أم كانت في تضارب الفتاوى الشرعية عدم الدقة في تطبيقها، وضعف كل من التنسيق بين المصارف الإسلامية والتدقيق الشرعي، والموارد البشرية المتخصصة في التعاملات المالية الإسلامية، والبطء في تطوير المنتجات، وعدم وجود مؤشر ربحية للمصارف الإسلامية[17].

الانتقادات على مؤسسات المصرفية الإسلامية في السوق السعودية:
ولعل جعل الانتقادات سواء الصادقة أو الكاذبة محل اهتمام وعناية لا من باب التسليم بها، وإنما من جهة أن الجودة الشرعية معنية بالدرجة الأولى بتدارك أماكن النقص سواء منها الواقع أو المدَّعى به مما يحتمل وقوعه.

يرى مكتب القاسم (1430هـ - 2009م) في دراسة مقدمة لهيئة الخبراء، أن ضحالة معايير الإشراف أدت إلى نقيض ما تهدف له مقاصد الشريعة في التعاملات المصرفية، وأن العدالة في هذه الصناعة انحرفت استغلالا لعواطف التدين، على حساب سلامة النظام المالي العام[18].

ويرى (القاسم) كذلك أن نموذج الخدمات المالية الإسلامية يتم من خلاله تعريض المستهلكين لاستغلال موارد الودائع، من جهة، وجور سياسات التسعير من جهة أخرى، وأن هذه الحال تمثل قاسماً مشتركاً في غالب الدول الإسلامية.ويرى كذلك أنَّه لا حاجة للجنة شرعية مستقلة متخصصة للمؤسسات المالية الإسلامية، بل يكفي أن تقوم مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية بتطوير مهارات موظفيها للقيام بالوظائف السابق ذكرها، ويرى عدم الحاجة لإنشاء هيئة شرعية مركزية لتقوم بوضع معايير شرعية عامة أو لتفصل في الاختلافات في الممارسات، كما يرى أن يترك وضع المعايير المحلية للجهات المنظمة أو مقدمي الخدمة أنفسهم، ويقترح إنشاء هيئة لتنمية الخدمات المالية الإسلامية يشكل لها مجلس إدارة على النحو التالي: وزير المالية رئيسًا، ومحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي نائبا للرئيس ومدير عام معين بأمر ملكي وعضوية رئيس مجلس هيئة السوق المالية، وثلاثة خبراء في الخدمات المالية الإسلامية يختارهم وزير المالية بصفته رئيس الهيئة، ويرى أنه من الأفضل أن يترك أمر إنشاء هيئات مختصة في المعايير إلى مبادرة ذاتية من أعضاء الهيئات الشرعية في القطاع الخاص، ويرى كذلك أن على الجهات المختصة أن تقوم بتشجيع تطورها، وأن تعمل على تطوير سياسة للترخيص لها كجمعيات وهيئات مهنية، وتتولى الهيئات مجتمعة إصدار قواعد لحوكمة شرعية[19].

يتفق رأي مكتب القاسم مع الموقف التقليدي الذي يتبناه من لا يرى فرقًا بين المصرفية الإسلامية والمصرفية غير الإسلامية (التقليدية)، وهذا الرأي لمكتب القاسم يختلف عن الواقع والمشاهد وعمّا هو مطبق، بالإضافة إلى عدم الدقة في تكييف العمل المصرفي الإسلامي، ومن الملاحظات التي ترد عليه الآتي:
إن تشكيل هيئة حكومية لتنمية الخدمات المالية الإسلامية ستزيد من نطاق احتكار وزارة المالية لهذا القطاع، والدليل على ذلك تركيبة المجلس المقترح على حساب الأجهزة الحكومية الأخرى ذات العلاقة، بالإضافة إلى أنه يمكن للأجهزة الحكومية الحالية أن تقوم بالعمل نفسة دون إضافة جهاز حكومي آخر لا داعي له.

لا يتصور أن موظف البنك المركزي سيستطيع مراقبة وضبط الجودة الشرعية لقرارات الهيئات الشرعية، دون أن يكون متخصصا في هذا المجال المعرفي، ودون وجود جهة إدارية في مؤسسة النقد يحكم عملها نظام ولوائح وإجراءات!


لا يصح ذكر استغلال ودائع المستثمرين لأنها ليست ودائع أصلاً، بل هي قروض ملكها المصرف لنفسه، والقول بالمطالبة بتعويضهم عنها أو بفائدة عليها منطق متأثر بالفكر الربوي.


لا يصح اتخاذ مجرد ارتفاع التسعيرة أو الأرباح مبرراً لنعت المصرفية الإسلامية بالفوضوية في التصنيف والجور في السياسات واستغلال للودائع، وبيان ذلك كالآتي:

هي عقود بالتراضي وليست عقود إذعان - كما هو الحال في البنوك التقليدية- فلا جور فيها أصلًا.

لها سبب وهو أن البنك الربوي يأخذ نسبة مضمونة ويؤمن على الديون فلا مخاطرة عليه، بينما الوضع الطبيعي بخلاف ذلك.

أن المصرف الإسلامي لا يعمل بقلب الدَّين ولا بغرامات التأخير ولا بالتأمين على الديون، ولأجل ذلك فمن الطبيعي أن تكون هوامش أرباحه أعلى على العمليات.

أن البنوك الربوية تحمِّل العملاء مصاريف أو تعويضا على الضمان أو على الائتمان لا تقل عمَّا ذكر.

فالمصرفية الإسلامية أصبحت واقعًا معاشًا لا مناص من الاعتراف بها والتعامل معها سواء على مستوى المؤسسات المالية أو الأنظمة المرعية، لذا فالحاجة داعية إلى أن تضبط جميع التعاملات بضابط شرعي يرفع من درجة سلامة وصحة التعاملات المالية من حيث الإباحة الشرعية والإتقان، ويوفر الوسائل والأدوات المالية والإدارية لتحقيق ذلك.




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]