ومعيار الرقابة بدوره يحتاج إلى أن يكون هناك تدقيق ومراجعة، سواء أكان من مدقق خارجي أم من مدقق داخلي أم بمراجعة سنوية، أو ربع سنوية، ومع التدقيق لابد أن يكون هناك معايير تستخدم.
فالرقابة بحاجة إلى وجود معايير عمل، وبحاجة إلى وجود معايير تدقيق، ومعايير العمل بحاجة إلى وجود رقابة وتدقيق، والرقابة والتدقيق تحتاج إلى معايير.فكل منهما بحاجة إلى معيار الآخر ليتم العمل على أكمل وجه. ولا يصل العمل إلى صورته النهائية الصحيحة في بيئته إلاَّ إذا عملت مجموعة المعايير، وإذا أُعملت كلها تُضبط العلاقة بين مختلف الجهات، فيعرف كل عامل أو رب العمل أو جهة رقابية أو جهة تدقيق أو إدارة أو مستفيد أو مستهلك ، يعرف ما له وما عليه وتتحقق الصفات الثلاث المطلوبة وهي كما سبق بيانه: الظهور، وكل الانضباط، والاطراد.
جهة إصدار المعايير:
بناءً على ما تقدم تستدعي الضرورة إنشاء جهة أهلية غير حكومية ومهنية متخصصة في إصدار معايير الجودة الشرعية ومراجعتها وتعديلها؛بحيث تجمع ذوي التخصصات ذات العلاقة سواء الشرعي أو المالي أو غيرها حسب الحاجة مع مراعاة الدور الخاص لأهل كل تخصص، ويتم توفير أدوات الضبط المحققة للأداء الصحيح المطابق لمقتضى الفتاوى الصادرة في مجال التصرفات المالية المباحة شرعاً.
فائدة كون جهة إصدار المعايير أهلية ومهنية:
وقد يقال: لماذا تكون مؤسسة النفع العام مهنية وأهلية غير حكومية؟أي ما الذي يميزها بهذا الشكل عن غيرها؟هناك عدة جوانب تظهر مزية هذا النموذج:
الجانب الأول: لعل من أهمها أنها تحقق زيادة في المشاركة الاجتماعية في صناعة القرار، وهذا مقصد مطلوب شرعاً وعرفاً.
والجانب الثاني: الذي قد يكون له أهمية في العمل الأمني والسياسي بصفة عامة، إذ إن إصدار المعيار من جهة مهنية أهلية يقصد بها النفع العام يرفع مسؤولية أي خطأ أو جناية عن الحكومات والنظام السياسي فيها، شريطة أن يأتي الخطأ أو الجناية بعد تطبيق المعايير الصادرة عن جهة أهلية مهنية مستقلة عن الحكومة.فهذا الخطأ قد يكون جنائياً غير منظم، مثل عملية اختلاس، فهذا يعامل معاملة الجناية العادية، لكن إذا كان عملاً جنائياً منظماً، مثل عملية إرهاب تم تمويلها من قبل جهة طبق عليها معايير العمل، ومعايير الرقابة ومعايير التدقيق، فإذا كان هذا المعيار الذي طبق معياراً حكومياً، وصدر من جهة حكومية غير أهلية، تصبح الدولة التي أصدرت المعيار متحملة مسؤولية تقصير نظامي إن ثبت عدم علمها، أو مسؤولية جنائية إن ثبت علمها بالجريمة ولم تحرك ساكنًا، وإذا تركت التدقيق والرقابة مع القدرة عليها فالمسؤولية تكون مشتركة مع الجهة التي مولت، وتصبح محلاً للمطالبة والمساءلة القانونية والنظامية، أما إذا كان المعيار الذي طبق معياراً مهنياً أهلياً من مؤسسة غير حكومية، فالأخطاء الناتجة بعد تطبيق المعيار، سواء أكانت متعمدة أم غير متعمدة، لا يمكن أن تكون الدولة هي المسؤولة عنها، ولا يحق لأي جهة أن تطالب الدولة بأي نوع من المسؤولية؛لأن الدولة أدت ما عليها بإنشاء تلك الجهة، لأجل ذلك؛المطلوب من الدولة أن يكون فيها جهة أهلية مهنية غير حكومية، تصدر معايير للعمل والرقابة والتدقيق بالطريقة المتعارف عليها دولياً، ويمكن للدولة التدخل في عمل جهة إصدار المعايير في حالتين هما: في حالة إذا كان التدخل مهنياً، أو وفق النظام العام للدولة، ومسؤولية الدولة تنتهي عند مراعاة التطبيق السليم للمعايير.
لكن إذا فشل المعيار في ضبط المخالفة أو الجناية، فلا تكون الدولة حينئذ مسؤولة عنه، وهذا في الوضع السياسي الراهن قد تكون له فوائد أبعد من الفوائد المهنية، بل قد يكون له مكاسب سياسية وأمنية كبيرة وعلى مدى واسع.
الجانب الثالث: إن شروط تدويل معايير التصرفات المالية الإسلامية تتطلب أن تكون المعايير صادرة من جهة أهلية مهنية ومستقلة عن الحكومة؛ ليسمح لها بالانضمام إلى المؤسسات الدولية المهنية، فالجهات الحكومية أو التابعة للحكومات لا تستطيع الانضمام إلى الهيئات الدولية المهنية، ولأجل ذلك فالمعايير الحكومية غير صالحة للتدويل.
المقصود بالمهنية والأهلية والنفع العام في وصف جهة إصدار المعايير:
مهنية: بمعنى أن الذين يعملون على إصدار المعيار يكونون من أهل الصنعة والتخصص، فمعيار إصدار والعمل بالفتوى أو معيار الجودة الشرعية وفي التصرفات المتعلقة بالمال تشترك فيه عدة تخصصات، فيشترك فيها كل المتخصصين في الفقه والمال والاقتصاد والتأمين، أو أي تخصص آخر يتطلبه الأمر، مثل المتخصصين في الأنظمة والقانون.فكل معيار يتطلب إصداره مجموعة من التخصصات ذات العلاقة بموضوع الفتوى والمعيار الذي سيصدر لأجلها، لذا يجب أن يكون كل شخص يعمل في إصدار المعيار صاحب تخصص دقيق في مجال عمل المعيار الذي هو موضوع الفتوى، هذا هو المقصود بأن تكون جهة إصدار المعيار مهنية، فلا ينتمي لهذه الجهة أو يشترك فيها أو يكون عضواً فيها إلاَّ صاحب صنعة وتخصص.
أهلية: بمعنى أنها ليست مؤسسة حكومية، فتصدر بترخيص من الدولة على أنها مؤسسة أهلية، وتستطيع الدولة أن تدعمها مادياً، فلا يمنع كونها أهلية من أن يكون لها دعم مادي حكومي، ولها شخصية اعتبارية مستقلة، وفق نظام وآلية واضحة مذكورة في الترخيص ومتفق عليها، وكذلك بأن ينص نظامها على تقبل التبرعات والهبات والأوقاف وغيرها من الأموال الخيرية وعلى قبول اشتراكات سنوية ورسوم خدمات وغيرها من الأعمال مثل إقامة الدورات والندوات والمؤتمرات في مجالها مقابل عائد مادي، وإن كان الأصل أن تمول نفسها بنفسها عبر رسوم مقابل عملها، إلا أن ذلك قد يكون متعذراً فالتجارب العالمية تظهر صعوبة الاكتفاء بالرسوم كمصدر وحيد للتمويل، ومن المناسب أن تجعل الدولة أوقافاً أو مصادر دخل كافية للقيام بالعمل المطلوب على أكمل وجه.
نفع عام: وهي مؤسسة نفع عام، وهذا يعني أنها قد تكون مؤسسة غير ربحية تقبل التبرعات أو تأخذ مقابلاً على العمل لتغطية التكاليف، وتسعى لأن يكون لديها فائض تستثمره للنفع العام، شريطة أن ينحصر صرفها للعائدات في منافع مختلفة كالآتي:
1- تعزيز الأساس المتين الذي قامت عليه الدولة السعودية وتقويته، وهو تحكيم الشريعة ورعايتها، وتقوية مكانة المملكة العربية السعودية ومرجعيتها الإسلامية ودورها العالمي في تعاملها الاقتصادي مع الدول والتحالفات الدولية أو الإقليمية.
2- تقديم مساندة علمية اقتصادية أهلية ومهنية للعمل القضائي المتعلق بالتصرفات المالية، وتقديم مساندة أهلية ومهنية لهيئة كبار العلماء، وللمجامع الفقهية والمؤسسات المهنية في العالم، وبطريقة علمية غير مسبوقة.
3- تمكين الجهات المختصة من ضبط جميع التصرفات المالية التي من شأنها أن تتأثر بالفتوى الشرعية، وتغذية الجهات الرقابية والإشرافية والمحاسبية بالمعايير اللازمة للرقابة والتدقيق على مثل هذا النوع من التصرفات.
4- سد النقص الحاصل نتيجة لعدم توافر المعايير اللازمة في قطاع التصرفات المالية الإسلامية، وتقليل التناقض والبلبلة لدى العامة أو الأسواق المالية التي تنشأ من اضطراب الفتوى أو تعارضها، ورفع مستوى الشفافية والإفصاح في التطبيقات من خلال آليات وأدوات مؤسسية واضحة ومستقرة.
5- رفع الكفاءة المهنية ورفع القدرة التنافسية للشركات والمؤسسات العاملة في هذا القطاع، وتسهيل العلاقة بين المستفيد ومقدم الخدمة، بحيث يعرف كلا الطرفين ما له وما عليه، وتحقيق مرونة وسرعة في التأقلم مع التصرفات المستجدة، بأقل درجة من التغيير وبأقل عدد من الأجهزة الإدارية، دون أن يؤدي ذلك إلى تذبذب في السوق أو تعطيل للأسواق.
6- فتح قنوات جديدة للاستثمار والاقتصاد والتجارة على مستوى الأفراد والمؤسسات، ودعم التنامي الاقتصادي وتسريعه، وفتح مجال أرحب للإبداع والتطوير.
وللجمع بين المحلية والعالمية وبخاصة أن الجودة الشرعية يقصد بها عموم المسلمين من حيث تصرفاتهم المالية أن تكون متوافقة مع الشريعة، فمن هذه الجهة يقترح أن يكون المقر في مكة المكرمة، ومن جهة أن الجودة الشرعية يقصد لها أن تكون دولية ومتاحة للمسلمين وغير المسلمين بالتساوي، يقترح أن يكون فرعها الأساسي في مدينة جدة.
تدويل المعايير:
ولكي يتسنى للمستثمر السعودي التواصل الدولي على المستوى المهني بحيث تصبح جميع الأسواق العالمية متاحة لتوسع القطاع الخاص السعودي في مجال التعاملات المالية الإسلامية يجب تدويل المعايير وتحصيل الاعتراف الدولي بها، الأمر الذي يتطلب أن يكون تأسيس الجهة المصدرة للمعايير وطريقة إصدار تلك المعايير وفقاً للإجراءات المتعارف عليها دولياً[68].
إجراءات إعداد المعايير وإصدارها وتعديلها:
تستند الإجراءات التنظيمية لعملية إصدار المعايير إلى ثلاث ركائز أساسية هي:
• أسلوب تشكيل الجهاز الذي يتولى مسؤولية بناء المعايير وإصدارها.
• المراحل التي يجب أن يمر بها المعيار قبل إصداره بصورة رسمية.
• المنهج الذي يتبع في بناء المعايير المختلفة.
إن المطلع على التجارب في الدول المتقدمة فيما يتعلق بتنظيم المهنة يلاحظ أن التجربة الأمريكية في إعداد المعايير وإصدارها تعتبر أفضل الأساليب التي يمكن الاسترشاد بها في المملكة.وذلك لما في هذا الأسلوب من جودة في إيجاد المناخ الملائم والتوازن المطلوب لعملية تنظيم المهنة بصفة عامة وإصدار المعايير بصفة خاصة[69].
وقد قامت الهيئة السعودية للمحاسبة القانونية بتحديد الإطار التنظيمي لمهنة المحاسبة والمراجعة، بالإضافة إلى إصدار العديد من المعايير المحاسبية التي حددت بوضوح متطلبات القياس والعرض والإفصاح في القوائم المالية.وكذلك معايير مهنية لمراجعة القوائم المالية. وأسهمت آلية إعداد المعايير وبشكل كبير في جودة المعايير السعودية المعتمدة وتطور مهنة المحاسبة بالمملكة العربية السعودية.
كما أن وجود مثل هذه المعايير يساعد كثيراً في تطبيق النظام خصوصاً فيما يتعلق بتحديد القواعد التي تحكم إعداد القوائم المالية التي تقوم ضمن الإقرارات الزكوية والضريبية [70].
وتجدر الإشارة إلى أنه يراعى في إصدار المعايير الشرعية الإجراءات التنفيذية نفسها المتبعة في إصدار معايير المحاسبة والمراجعة، لتكون لها نفس الخصائص من خلال الخطوات والمراحل والمتطلبات المتبعة في النوعين، ولتسهل عملية الاعتراف الرسمي والتدويل، على أنه لابد من التنبيه إلى أن مصدر قوة المعايير الشرعية مختلف ومتعدد: مختلف من حيث إنها تستمد قوتها من الالتزام بالشريعة الإسلامية وهي أقدم من جميع الأنظمة، فيلاحظ على سبيل المثال أنه لا يذكر في نهاية كل معيار شرعي "تاريخ سريان المعيار" كما في المعايير المحاسبية لأن سريانها منذ وجدت الشريعة، واستعيض عنه بعبارة "تاريخ إصدار المعيار"، ومتعدد من حيث إن مصدر الالتزام عقدي كما سبق بيانه ونظامي أو قانوني كما في المعايير المحاسبية التي تستمد قوتها من الالتزام بها من الجهات الرقابية الإشرافية[71].
المرحلة الأولى: اختيار المعيار المقترح إصداره:
إعداد استطلاع دوري حول معايير الأعمال المطلوب إعدادها، ثم تعد الجهة المختصة قائمة بالمعايير المراد إنشاؤها أو تعديلها من واقع هذا الاستطلاع، ثم تعرض على اللجنة فترتب اللجنة المعايير حسب أهميتها المهنية، ويتم تنقيح وتحديث تلك القائمة دورياً في ضوء الاستطلاعات.
المرحلة الثانية: اختيار ذوي الاختصاص الدقيق:
يتم إعداد قائمة بأسماء ذوي الاختصاص الدقيق - رأس المال المعرفي - في مجال المعايير المراد إصدارها أو تعديلها ثم يستكتبون، فإذا كان المتقدم فريقاً من الخبراء المختصين فلا بد من إرفاق السيرة الذاتية لكل عضو من أعضاء الفريق، وبيان بأبحاثه وكتبه المنشورة وغير المنشورة[72].ولا يسند لأي خبير مختص أكثر من معيار واحد في وقت واحد، والفريق أو المنشأة يشترط عليهم أن يقدموا عرضاً منفصلاً لكل معيار على حدة، وأن لا يكلف أي خبير مختص بأكثر من إعداد معيار واحد في نفس الوقت، ثم تشكل لجنة فرعية لترشيح الأفضل لإعداد دراسة جدوى وكفاءة إنشاء أو تعديل المعايير المقترحة، وتعرض التوصيات على اللجنة الأساسية لاتخاذ القرار.
المرحلة الثالثة: إعداد دراسة جدوى وكفاءة مشروع المعيار:
يطلب من الخبير المختص إعداد الدراسة وتشمل ما يلي:
أ- الجوانب النظرية عن موضوع مشروع المعيار من جميع المصادر ومنها الفتاوى والأنظمة والآراء الفقهية والإدارية ذات العلاقة، وإيراد الإشكالات الفقهية والنظامية والفنية وغيرها المتوقعة والتي لها صلة بموضوع مشروع المعيار، وبيان أولي عن البدائل الممكن الأخذ بها لمعالجتها.
ب- نبذة عما يتوفر من معايير تعالج الموضوع نفسه وصادرة عن جهات معتبرة وعن التطبيق الجاري العمل به عموماً، ولخمس منشآت على الأقل تتوقع اللجنة بأنها سوف تطبق المعيار عند اعتماده، وقياس نسبة تلك الكفاءة والفاعلية، مع إجراء مقارنة بين مشروع المعيار على الأقل مع ما صدر عن ثلاث جهات مختصة، إذا توفر ذلك.
ج- بيان مدى الحاجة إلى وضع أو تعديل المعيار وبيان المشكلات المتوقعة والمزايا والعيوب في ضوء أحكام الشريعة والأنظمة التي لا تتعارض معها.
تبعث نسخ من مشروع الدراسة لأعضاء اللجنة فور انتهاء الخبير المختص، ويقدم الأعضاء ملاحظاتهم إلى المستشار الذي يعد الدراسة النهائية في ضوء ملاحظات اللجنة - بما لا يتعارض مع الأمانة العلمية بحيث تكون الدراسة المنسوبة للخبير المختص لا تختلف عن ما يراه صواباً، وفي حالة وجود ملاحظات مهمة يعاد عرض الدراسة النهائية على اللجنة.
المرحلة الرابعة: أخذ رأي ذوي الاهتمام والاختصاص في الدراسة:
توزع نسخ من مشروع الدراسة على جهات الاختصاص المباشر مثل مجلس إدارة الهيئة – المجلس- وأعضاء اللجان الفنية، وأعضاء الهيئة، وعلى عينة ممثلة لمجموع المؤثرين والمتأثرين بنطاق تطبيق المعيار يمثل أساتذة الجامعات والمسؤولين وغيرهم من مستخدمي المعيار المقصود؛ ويطلب منهم إبداء وجهة نظرهم في مشروع المعيار. يقوم الخبير المختص بدراسة الملاحظات الواردة على مشروع؛ ومن ثم تعرض النتائج على اللجنة.
يتبع