عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 13-03-2020, 04:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الترخُّص بمسائل الخلاف، ضوابطه وأقوال العلماء فيه

الترخُّص بمسائل الخلاف، ضوابطه وأقوال العلماء فيه
د. خالد العروسي

المبحث الرابع: بيان زلاّت العلماء
وأستغفر الله تعالى من هذا العنوان، وأستعيذ بالله مما استعاذ منه ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في هذه المسألة فقال: "نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(37).

فالداعي إلى خوض هذه المسألة أن كثيراً من المقلدين، وكذلك المفتين وأهل العلم، يجادلون من ينكر عليهم التوسع في تتبع رخص العلماء من غير ضابط بقولهم: أأنتم أعلم أم الإمام الفلاني؟
وألستم تعرفون فضل هؤلاء الأئمة، ومكانتهم من العلم والفقه والتقوى؟ فما بالنا لا نأخذ برخصهم وأقوالهم؟

وهذه معارضة فاسدة لا تصح، لأن الله لم يجعل العصمة لأحدٍ دون رسوله صلى الله عليه وسلم، فالرجل الجليل القدر، العظيم المنزلة، قد تقع منه الهفوات والزلاّت، وهذا بشهادة أئمة الدين، وسادات الدنيا فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ثلاث يهدمن الدين زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون"(38). وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: وكيف ذاك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الاتباع"(39).

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى قوله: "إني أخاف على أمتي من ثلاث: زلة عالم، ومن هوى متبع، ومن حكم جائر"(40).

وليست هناك شهادة بعد هذه الشهادة، فأي معنى للتشبث ببعض المستشنعات التي وردت عن الأئمة، وإفتاء الناس بها، ناهيك عن كثير من المسائل التي يخرِّجها الاتباع على لوازم باطلة لا تصح(41)، بل وقد يُنسب للإمام ما لم يقله، كما حدث لأحمد رحمه الله حين نُسب إليه القول أن الغسل لا يكون إلا من الإنزال، فكان أحمد ينكر ذلك ويقول: ما أحفظ أني قلت به قط، فقيل له: بلغنا أنك تقوله، فقال: الله المستعان، من يكذب عليَّ في هذا أكثر من ذاك(42). ورحم الله الإمام أحمد فما زال الكذب على العلماء، وتقويلهم ما لم يقولوه، باق حتى يومنا هذا.

ثم أليس من أوثق عرى الإسلام النصيحة؟ يقول عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله عزَّ وجل ولكتابه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولأئمة المؤمنين وعامتهم"(43). فأين النصيحة للعلماء؟ فهم من جملة أئمة المؤمنين، يقول ابن رجب: "ومما يختص به العلماء - أي في النصيحة - ردّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة على موردها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردّها"(44).

فمن حقهم أن لا ننسب لهم قول - يجد الواحد منّا حرجاً أن ينسبه لنفسه، فضلاً أن ينسبه لهؤلاء الأئمة - لاسيما للعوام منهم: فهم مولعون بالنوادر، متهالكون على الغرائب، لذلك كان هذا أخوف ما يُخاف علينا، فالعالم إذا زلّ، زلَّت معه أمّة، وإني لناقلٌ لك من قبائح فهم العوام مما قصّه لنا ابن القيم(45) رحمه الله فقال: "قد نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها، وهو كذب على مالك وأصحابه فكتبهم كلها مصرِّحة بتحريمه، ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكاً يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين باباً واحداً، وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع العلماء" ثم قال: "ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر... قال شيخنا - أي ابن تيمية - ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} [البقرة 221] على ذلك - أي إباحة ذكران العبيد المؤمنين -... ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء، ويحرّمه بعضهم، ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل"(46).
ولا يبقى بعد هذا كله إلا الحذر ثم الحذر من إطلاق الفتاوى على عواهنها من غير قيد ولا ضابط.

ثم إن لهؤلاء الأئمة حقاً آخر - دون الحق الأول - وهو ردُّ المسائل التي أخطأوا فيها الاجتهاد وعرضها على الكتاب والسنة، فهذه وصيتهم رحمهم الله تعالى، حكى البويطي(47) أنه سمع الشافعي يقول: "قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ولابد أن يوجد فيها الخطأ، إن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء 120] فما وجدتم في كتبي مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه"(48).

ويقول أبو حنيفة: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء براي خير منه قبلناه" وصحّ مثل هذا القول عن مالك وأحمد(49).

وإذا أنت بحثت ونظرت، وجدت أن أكثر الناس نصحاً لهؤلاء الأئمة، هم كبار أصحابهم، فهذا محمد بن الحسن(50) وأبو يوسف(51) قد خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ولا يجدون غضاضة في الرجوع إلى الحق، ولهذا لما اجتمع أبو يوسف بمالك فسأله عن الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، قال: "رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت"(52).

وهذا المزني(53) وهو ناشر مذهب الشافعي، اختصر مذهب صاحبه، ولم يجد حرجاً أن يذكر بعد البسملة في افتتاح الكتاب وصية الشافعي فقال:
"اختصرت هذا الكتاب في علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه"(54).

وهذا كله لا يقدح في أقدار هؤلاء الأئمة، ولا يغض من منزلتهم فما من أحد إلا وقد خُفيت عليه سنة، أو فاته فهم صحيح، فميراث النبوة ميراث ضخم واسع لا يحصى، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم مشاعاً، لينهل منه العلماء، فما فات هذا الإمام من سنة وجدته عند الآخر، وما غفل عن فهمه ذاك، انقدح في ذهن هذا معناه، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لذلك يقول الله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً} [الأنبياء: 78] فهذان نبيان كريمان إلا أن الله تعالى خصَّ أحدهما بالفهم دون الآخر.

ولا تظنَّن أن خفاء السنة عائد لعدم شهرتها - وأعني بالشهرة المعنى اللغوي - أو لكونها مذكورة في غير الصحاح، بل هناك أحاديث في صحيح البخاري غفل عنها كبار الأئمة، وإني لناقلٌ مسائل استدركها ابن رجب رحمه الله على بعضهم منها:
- أن ابن تيمية رحمه الله أنكر ورود لفظ: "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" في ألفاظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، بالجمع بين "إبراهيم وآل إبراهيم" فقال: فهذه الأحاديث التي في الصحاح لم أجد فيها ولا فيما نقل لفظ: "إبراهيم وآل إبراهيم" بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: "آل إبراهيم" وفي بعضها لفظ: "إبراهيم" وقد يجيء في أحد الموضعين لفظ: "آل إبراهيم" وفي الآخر لفظ: "إبراهيم"(55).

وقد تعقبه ابن رجب في "القواعد" (56) فقال - بعد أن نقل كلامه -:
"كذا قال، وقد ثبت في "صحيح البخاري" الجمع بينهما من حديث كعب ابن عجرة(57)، ويعني به قوله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"(58).

- وسنة أخرى من سنن الغُسل وهي تخليل شعر الرأس واللحية الوارد في حديث عائشة(59) رضي الله عنها أنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلِّل بيده شعره، حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم يغسل سائر جسده"(60) فقد غفل عنه كبار الأئمة، يقول ابن رجب: "قول عائشة "حتى إذا ظنَّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات" يتبين أن التخليل كان لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري(61) يشهد لذلك أيضاً".

يقول ابن رجب: "وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتنبه لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وأدائه. ولم أر من صرّح منهم، إلا صاحب "المغني"(62)، من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد: الغسل على حديث عائشة(63).

وكذلك ذكره صاحب "المهذب"(64) من الشافعية قال: - بعد ذكر الوضوء -: "ثم يدخل أصابعه العشر في الماء، فيغترف غرفة يخلِّل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات"(65).

فإذا كان الخطأ والوهم قد وقع فيه هؤلاء العلماء وهم من هم في الحفظ والذكاء والاتقان، فهي فيمن دونهم أولى، أمّا التعصب وإلباس الأئمة ثوب العصمة فليس من التناصح أو الإنصاف في شيء، وإذا شئت أن تعرف كيف يكون الانصاف فاقرأ كلام ابن المنير(66) وهو مالكي حين قال: "وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم. وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فما من واحد منهم إذا تجرَّد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره"(67).

المبحث الخامس: تأصيل المسألة
مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، عني بها الفقهاء والأصوليون على حدٍّ سواء. فالفقهاء يذكرونها - استطراداً - عند ذكرهم حكم من أتى فرعاً مختلفاً فيه يعتقد تحريمه، في شروط من تقبل شهادته(68). والأصوليون سطّروها عقيب مسألة من التزم مذهباً معيناً، واعتقد رجحانه، فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل، ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر(69)؟، فهي شبيهة بها، مفرّعة عنها، وهذه المسألة تعود إلى قاعدة عظيمة هي قاعدة: "تصويب المجتهدين"، والخلاف فيها: هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ فمن توسع في الأخذ برخص العلماء من غير ضابط ولا قيد، يرى أن كل مجتهد مصيب فيما عند الله، ومصيب في الحكم، وليس هناك تحجير على تتبُّع مسائل الخلاف، واستمع إلى ما يحكيه ابن المنيِّر حينما فاوض بعض مشايخ الشافعية في هذه المسألة فقال: "وقال - أي الشيخ -: أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول: كل مجتهد مصيب، إن المصيب واحد غير معين، والكل دين الله، والعلماء أجمعون دعاة إلى الله، حتى كان هذا الشيخ رحمه الله من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلاً - في حنث ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي، ولا يحنث على مذهب مالك، قال لي: أفته أنت، يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعاً"(70).

ونقل الشاطبي عن بعض العلماء قولهم: "كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذّ عن الجماعة، أو لا، فالمسالة جائزة"(71).

والحق الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهورهم أن الحق من ذلك واحد من أقوالهم وأفعالهم، والباقون مخطئون، غير أنه معذور بخطئه(72)، للحديث الصحيح: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد"(73).

ثم اختلف هؤلاء الأئمة - وهو اختلاف لا يقدح في أصل القاعدة - فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر؟ فقيل: المخطئ في الحكم مخطئ في الاجتهاد ولا يطلق عليه اسم الإصابة بحال. وقيل: إنه مصيب في الظاهر، لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده(74).

وتنازعوا أيضاً علامَ يؤجر المخطئ؟ بين قائلٍ: إنه يؤجر على القصد إلى الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد، لأنه اجتهاد أفضى به إلى الخطأ، وهو اختيار المزني.
وبين قائلٍ: إنه يؤجر عليه وعلى الاجتهاد معاً، لأنه بذل ما في وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه(75).

وذهب الخطابي(76) إلى أن المجتهد إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط، فجعل قوله صلى الله عليه وسلم: "وله أجر واحد" مجازاً عن وضع الإثم(77).
وشذَّ أبو علي بن أبي هريرة(78) فقال: إن المخطئ آثم(79).

ولا يهولنّك ما ينسبه بعض المحققين - كالمازري(80) والماوردي(81) وغيرهما - إلى الجمهور من القول بأن كل مجتهد مصيب، وأن الحق في طرفين، فهؤلاء نظروا إلى وجوب العمل بما أدى إلى الاجتهاد، لأن لله تعالى حكمين: أحدها: مطلوب بالاجتهاد ونصب عليه الدلائل والأمارات. والثاني: وجوب العمل بما أدى إليه الاجتهاد، وهذا متفق عليه، فنظروا إلى هذا الحكم الثاني، ولم ينظروا إلى الأول، وهذا حق، فالخلاف حينئذ لفظي(82).

أو أن يكون شقَّ عليهم، فكرهوا أن يقال للمجتهد: إنه أخطأ لأن هذا اللفظ يستعمل في الذنب كما جاء في قراءة ابن عامر(83): "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خَطَأً كبيراً" على وزن عَمَلاً، والأكثرون يقرأون: "خِطْأً" على وزن: عِلْماً - وهذا خلاف المشهور، لأن لفظ الخطأ يفارق العمد، فهو من الرباعي أخطأ يخطئ، أي: لم يصب الحق، لا من الثلاث خطأ يخطأ فهو خاطئ أي: مذنب - فهم أرادوا أن كل مجتهد مصيب أي: مطيع لله ليس بآثم أو مذموم، وهذا صحيح، والخلاف أيضاً لفظي(84).

وأصل هذه المقالة - أي القول بأن كل مجتهد مصيب - بدعة ابتدعها المعتزلة، يقول أبو الطيب الطبري(85): "وهم الأصل في هذه البدعة وقالوا ذلك لجهلهم بمعاني الفقه وطرقه الصحيحة الدالة على الحق، الفاصلة بينه وبين ما عداه من الشبه الباطلة فقالوا: ليس فيها طريق أولى من طريق، ولا أمارة أقوى من أمارة، والجميع متكافؤن وكل من غلب على ظنه شيء حكم به فحكموا فيما لا يعلمون وليس من شأنهم وبسّطوا بذلك شبه نفاه القياس منهم ومن غيرهم الذين يقولون: لا يصح القياس والاجتهاد لأن ذلك إنما يصح من طريق تؤدي إلى العلم أو إلى الظن، وليس في هذه الأصول ما يدل على حكم الحوادث علماً ولا ظناً"(86).

ثم تلقفها عنهم أكثر الأشعرية كأبي الحسن(87) والباقلاني(88) والغزالي(89) وغيرهم فقالوا مثل مقالة المعتزلة، وزادوا عليه أن التكليف مشروط بالقدرة، فتكليف المجتهد الإصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف بما لا يطاق، فلا يقال: أخطأه(90) لذلك قال أبو إسحاق الشيرازي(91) لما بلغته مقالة أبي الحسن الأشعري: "يقال: إن هذه بقية اعتزال بقي في أبي الحسن رحمه الله. هذا مذهب أصحابنا، ومذهب هؤلاء"(92).

وفي الجملة فقد دلت نصوص السنة الصحيحة على أن المصيب عند الله واحد في مسائل الحلال والحرام المختلف فيها، ومن أظهرها: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس" يقول ابن رجب: "كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات، من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه. والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه. ودلّ الكلام على أن غير هؤلاء يعلمها ومراده أنه يعلمها على ماهي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله، وغيره ليس بعالم بها بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده ومغفوراً له خطؤه"(93).

وكذلك الحديث الصحيح: "إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"(94) فدلَّ الحديث على أن لله تعالى حكماً معيناً، يصيبه من يصيبه، ويخطئه من يخطئه.

ثم إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خطَّأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم لما فعلوا ذلك(95). وقال غير واحد من الصحابة كابن مسعود(96) رضي الله عنه: "أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان"(97).

ولهذه القاعدة - أي أن الحق في قول واحد - كان الأئمة ينكرون ويعذرون في مسائل الخلاف على حسب الأدلة، وهذا هو قول الإمام أحمد، وهو تصرف أصحاب الشافعي، فمن أخذ بحديث ضعيف وترك حديثاً صحيحاً لا معارض له، يقطع بخطئه، ناهيك عمن يخالف إجماعاً أو يترك سنة صحيحة لقول إمام، وإذا كان في المسألة حديثان صحيحان نظر في الراجح فأخذ به، ولا يسمى الآخر مخطئاً، أما إذا كانت المسألة مشتبهة لا نصَّ فيها اجتهد برأيه، ولا يسمى الآخر مخطئاً(98)، وهذا الذي يسميه العلماء: الخلاف السائغ.

المبحث السادس: أقوال العلماء في المسألة
سبق القول في المبحث السابق أن مسألة الترخّص بمسائل الخلاف، لها شبه بمسألة من التزم مذهباً فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل؟ ولكنه ليس شبهاً مطلقاً، لذلك غلط الزركشي(99) - رحمه الله - حين جعل الخلاف جارٍ فيهما على حدٍّ سواء(100)، فمسألة مخالفة العامي المقلَّد، أو المفتي المقلِّد لمذهب إمام في بعض المسائل، الخطب فيها يسير، والخلاف هيِّن، وأقوال العلماء فيه بين: مجيزٍ مطلقاً، ومانعٍ، ومفصِّل(101). أما مسألة تتبع الرخص فهي أعم من سابقتها، فصاحبها يكتفي من فتياه بموافقة قول إمام - ولو كان نادراً - من غير نظرٍ في ترجيحٍ أو دليل، ويجعل كل خلاف دليلاً على الحلِّ أو التحريم. وهذا الفرق أشار إليه أبو العباس ابن تيمية في "المسوّدة" فقال: "قلت: التخيير في الفتوى والترجيح بالشهوة، ليس بمنزلة تخيِّر العامي في تقليد أحد المفتين، ولا من قبيل اختلاف المفتين على المستفتي، بل كل ذلك راجع إلى شخص واحد، وهو صاحب المذهب، فهو كاختلاف الروايتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، راجع إلى شخص واحد، وهو الإمام، فكذلك اختلاف الأئمة راجع إلى شريعة رسول الله ش، حتى إن من يقول: "إن تعارض الأدلة يوجب التخيير" لا يقول: إنه يختار لكل مستفت ما أحب، بل غايته أنه يختار قولاً يعمل به ويفتي به دائماً"(102).

فإذا بان لك هذا الفرق فمذاهب العلماء في هذه المسألة لا تعدوا ثلاثة هي:
الأول: منع الترخّص مطلقاً، وهذا القول مبني على القول بوجوب الاقتصار على مذهب واحد، لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فإذا لم يجز مخالفة الإمام في بعض المسائل، فمن باب أولى ألاّ يجوز على وجه الإطلاق وهذا المذهب جزم به الجيلي(103) في "الإعجاز".

الثاني: الجواز مطلقاً وهو قول ذهب إليه بعض العلماء.

الثالث: المنع، ما لم يكن الخلاف فيه سائغاً فيجوز، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف(104)، وحكى ابن عبد البر(105) الإجماع على تحريم تتبع الرّخص للعوام(106)، وفسّقه الإمام أحمد ويحيى القطان(107)، ونُقل عنه قوله: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: بقول أهل المدينة في السماع يعني الغناء، وبقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً"(108). وحكى الزركشي أن إسماعيل القاضي(109) قال: "دخلت على المعتضد(110) فدفع إلى كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت إن مصنف هذا زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب"(111)، وصحَّ مثل هذا الكلام عن طائفة من السلف(112).

وهذا الكلام المنقول عن الأئمة محمول على إذا ما كان الخلاف غير سائغ، وآية ذلك أن الأئمة قد نُقل عنهم ما لا يحصى من المسائل، في جواز الأخذ برخص العلماء إذا كان مما يسوغ الاجتهاد فيه فقد صحّ أن الإمام أحمد سئل عن مسألة في الطلاق فقال: "إن فعل حنث" فقال السائل: "إن أفتاني إنسان: لا أحنث" فقال: "تعرف حلقة المدنيين؟" قلت: "فإن أفتوني حلّ"، قال "نعم"، وروي عنه روايات أنه سئل عن الرجل يسأل عن المسألة فأدله على إنسان، هل علي شيء؟ قال: "إن كان متبعاً أو معيناً فلا بأس، ولا يعجبني رأي أحد"(113).

وعقد الخطيب البغدادي(114) رحمه الله باباً في كتابه "الفقيه والمتفقه" سماه باب التمحل في الفتوى، فقال: "متى وجد المفتي للسائل مخرجاً في مسألته، وطريقاً يتخلص به أرشده إليه ونبهه عليه، كرجل حلف أن لا ينفق على زوجته ولا يطعمها شهراً، أو شبه هذا، فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها، أو دين لها عليه، أو يقرضها ثمن بيوتها، أو يبيعها سلعة وينويها من الثمن، وقد قال الله تعالى لأيوب عليه السلام لما حلف أن يضرب زوجته مئة {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44]"(115) ثم ساق الخطيب آثاراً كثيرة في هذا المعنى، وهذا هو الفقه، لا إفراط فيه ولا تفريط يقول النووي(116): "ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضرّه وأما من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان(117): "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد""(118).

أما المذهبان الأولان فإنهما ليكادان يتساقطان من شدة الوهن، فالأول قال بالمنع، وبوجوب الاقتصار على مذهب واحد، وهذا القول مخالف للإجماع لأن من أسلم لا يجب عليه اتباع إمام معين، بل هو مخيَّر، فإذا قلَّد إماماً بعينه، وجب أن يبقى ذلك التخيير المجمع عليه حتى يحصل دليل على رفعه، لاسيما الإجماع، لا يرفع إلا بما مثله في القوة(119)، كذا قال الشيخ عز الدين(120).

ثم إن السنة قد جاءت في إيقاع العبادات على أوجه متعددة، كالأذان، والإقامة، وأحاديث التشهد، وصلاة الخوف، وغيرها، فمن الأئمة من اقتصر على بعض تلك الوجوه، وترك الأخرى، لظنه أن السنة لم تأت به، أو أنه منسوخ، فالتزام مذهب معين قد يؤدي إلى هجر هذه السنن.

أما المذهب الثاني القائل بالجواز مطلقاً، فما سبق من كلام الأئمة في هذا المبحث، والمباحث الأخرى، كافٍ في الرد عليه.

وفي الجملة فالخير كل الخير في التوسط، وصدق المرداوي(121) حين قال: "وهذا هو الصواب، ولا يسع الناس في هذه الأزمنة غير هذا"(122) فنستدرك على الشيخ قائلين: "بل لا يسع الناس في كل زمان غير هذا".
وللموضوع تتمة
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.52 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]