ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية عبدالستار المرسومي في الخِطاب القرآني الكثيرُ من التَّحفيز والتشجيع للإنسان، ودَعوته لاستخدام العقل في مُجمل شؤون الحياة؛ لأنَّه من أهمِّ المواصفات التي حباها الله جلَّ جلاله للإنسان وميَّزه به عن بقيَّة المخلوقات، ووصف القرآن الكريم أولئك الذين لا يَستخدمون العقلَ في التمييز بين الأشياء بوصفٍ قاسٍ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22]. وجاءت آيات القرآن الكريم وفي مواضع عدَّة بحقيقةٍ جليَّة؛ وهي أنَّ هذه الآيات الكونية التي خلقها الله جلَّ جلاله ينبغي أن يَفهمَها على مراد الله جلَّ جلاله ويعي مغزاها، ويتدبَّر حوادثها، ويتوصَّل إلى أسبابها وحِكَمها - الذين يَعقلون دون غيرهم، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الروم: 24]. ومن هذا الفهم الواعي والوعي الرَّاشد، ننطلِق لاستخدام العَقل كوسيلة مهمَّة وقيمة لبناء علاقات حقيقيَّة وبنَّاءة ومثمِرة مع الآخرين، سواء كانت العلاقة في العمل بين الأعلى والأدنى أو بالعكس، ومن العقلانيَّة المطلوبة في العلاقات الإنسانية في المؤسسات: 1- استثمار العلاقة لتحقيق الأهداف المشتركة، وإعمالُ العقل في العلاقة هو خيرُ وسيلةٍ للوصول إلى فهم توجُّهات الآخرين، ماذا يحبُّون؟ ماذا يكرهون؟ ما هي توجهاتهم الفكرية؟ وعلى ضوء ذلك يكون السلوك؛ أي: إنَّ سلوك الفرد يَنبغي أن يكون بعد دراسة أفكار ومزاجات وتطلُّعات الآخرين، ومستوى ثقافَتهم، وطريقة تَفكيرهم، وهذا هو السرُّ الذي جعل صاحبَ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يتخوَّل بعضهم بالموعظة، فقد "كان عبدالله يُذكِّر الناسَ في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، لوددتُ أنَّك ذكَّرتَنا كل يوم؟ قال: أمَا إنَّه يمنعني من ذلك أنِّي أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بها؛ مخافة السَّآمة علينا"[1]. فالنُّفوس البشرية تملُّ من كثرة التكرار، وإن كان هذا التكرار يدعو لفضيلة، فكانت هذه قاعدة لا بدَّ لكل فرد أن يعمل بها حتى لا يمل. ومثلما تملُّ النفس البشريَّة التكرار، فإنَّها لا تحبُّ الشدَّة والقسوة في التعامل؛ لهذا كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يوصي بالرِّفق في كل أحواله، فهو يقول صلى الله عليه وسلم: ((من يُحرَمِ الرِّفقَ، يُحرَمِ الخير))[2]، بل ذهب رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم لأبعد من ذلك حين كان يعامِل أولئك الذين يحاولون الإساءةَ إليه، ممَّن وضعوا أنفسهم في خندق العداء لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - بالرِّفق، وكان صلى الله عليه وسلم يرفق ولو كان في معرض الرد على إساءتهم له، فعن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السَّام عليكم، قالت عائشة: ففهمتُها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مهلاً يا عائشة، إنَّ الله يحب الرِّفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول الله، أولَم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد قلتُ: وعليكم))[3]. ولا بد من الإشارة أنَّ رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن ليترك أعداءه يُسمعونه ما يحبون، ثم تمرُّ لعبتهم السيئة والدَّنيئة قبل أن يردَّ صلى الله عليه وسلم عليهم، ولكنه ردَّ عليهم إساءتَهم ولكن برِفق! يقول أبو العتاهية: الرِّفقُ يبلُغُ ما لا يَبلُغُ الخرقُ وقلَّ في الناس من يَصفو له خُلُقُ لَم يقلقِ المرءُ عن رُشدٍ فيترُكه إلاَّ دعاه إلى ما يكره القلقُ 2- وضع النَّفس بمكانها وتحديد قيمتها الحقيقيَّة: فليس من المنطق أن يرى الشخص نفسَه أنَّه العالم النحرير، والقائد الفذُّ، والرجل الشَّهم، وكأنَّه قد جمع المحاسن كلَّها ولم يَدَعْ شيئًا للآخرين، وهذا الأمر تحبُّه النفسُ البشريَّة وتهفو إليه، كما يزينه الشيطان بقوة، ويزوِّقه المنافقون بطرقٍ شتَّى، فيكون الفرد بين ضغط كل هؤلاء في آنٍ واحد، بينما ينبغي أن يكون الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ لأنَّ النجاة فيه، فالله جل جلاله يحذِّر من أن يزكِّي الفرد نفسَه، فيقول تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]. وكان هذا دأب الصَّالحين وصفة المتقين وأولهم الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنَّهم يخشون على أنفسهم من خطَر اليقين بأنَّهم على الحق، يقول ابن أبي مُليكة[4]: "أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النِّفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل"[5]. وإنَّ النفس خطرها كبير حين تَجنح بالإنسان فتوسوس له حتى يظن أنَّ مقامه أرفع أو أَرقى أو أفضل من الآخرين، ومن هنا كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم صاحبُ النَّفس الزكية، والقلب النَّقي، والروح الطاهرة - يتعوَّذ بالله جل جلاله من نفسه، على الرَّغم من حُسنها وطيبتها ورقيِّها، ولكنَّه بكل حال هو بشَر صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: ((اللهم إنِّي أستهديك لأرشد أموري، وأعوذ بك من شرِّ نفسي))[6]. يقول شرف الدين البوصيري: والنَّفْسُ كالطِّفْلُ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ فاصْرِفْ هَواها وَحاذِرْ أنْ تُوَلِّيَه إنَّ الهَوَى ما تَوَلَّى يُصْمِ أَوْ يَصِمِ وَراعِها وهْيَ في الأعمالِ سائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحَلَتِ المَرعَى فلا تُسِمِ كَمْ حَسَّنَتْ لذَّةً لِلْمَرءِ قاتِلةً من حَيْثُ لمْ يدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ وخالِفِ النَّفسَ والشَّيْطَانَ واعْصِهما وإن هما مَحَّضاك النُّصْحَ فاتَّهِمِ ولا تُطِعْ منهما خَصْمًا ولا حَكَمًا فأَنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ والحَكَمِ وجاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: (وقال الحسن رحمه الله: إنَّ قومًا جعلوا الكِبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم، فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه، ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أنَّ موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الذِّئاب؟ البسوا ثيابَ الملوك، وألينوا قلوبَكم بالخشية)[7]. يتبع
سُئل الإمام الداراني رحمه اللهما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟فبكى رحمه الله ثم قال :أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هوسبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.