عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 14-03-2020, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,207
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية

ركائز العمل المؤسساتي في الإسلام: العقلانية
عبدالستار المرسومي




وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "إن كانت الأَمَة من إماء أهل المدينة، لَتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتَنطلق به حيث شاءت"[21]، ونفصل الأمرَ من جانبين: إيماني ومادي؛ أما في الجانب الإيماني فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: ((اللهمَّ ثبِّت قلبي على دينك))، فقال رجل: يا رسول الله، تخاف علينا وقد آمنَّا بك، وصدَّقناك بما جئتَ به، فقال: ((إنَّ القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عزَّ وجل يقلِّبها))[22]، فلا ضمانة لمن يقول: إنَّه أعلى مرتبة إيمانية من بقية الناس، فلعلَّ الله جلَّ جلاله يَسخط عليه فيُضله، وبالعكس.


أما من الجانب المادِّي، فكم من مَلكٍ أصبح مقيدًا بالسلاسل، وكم من ذي جاهٍ صار مدفوعًا بالأبواب، وكم من غنيٍّ عن الناس آلَت حاله لأن يتصدَّق الناسُ عليه؛ لأنَّ الفضل - سواء المادي أو المعنوي - بيَد الله جلَّ جلاله، وهو يَهَبه لمن يشاء ويمنعه عمَّن يشاء، قال تعالى: ï´؟ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ï´¾ [الجمعة: 4]، وقال تعالى: ï´؟ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [آل عمران: 26].

9- العقوبات الإيجابية؛ تبرز أهميَّة وجود عقوبات على المتعمِّد في التقصير أو الإضرار بالآخرين أو تجاوز المعايير أو الأنظمة المتفَق عليها، من وجوه عدَّة؛ فهي للمقصِّر تقويم وإعادة لجادَّة الصواب، وتحذيرٌ له لمراقبة تصرُّفاته في المستقبل، ولا بدَّ من الانتباه أن (مَنْ أمِن العقاب، أساء الأدب)، وهي ردُّ اعتبار ومَنح الحقِّ للمُعتدى عليه من أجل أن يُمنح القناعةَ اللازمة لمزيد من الثِّقة بالأنظمة التي يؤمِن بها.

وأهم ما في هذا الموضوع هو (أنَّ العقوبات تكون تقويمية عادلة، وليس تشهيريَّة تعسُّفيَّة ظالمة)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجلٍ قد شرب، قال: ((اضربوه))، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعلِه، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعضُ القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشَّيطان))[23].

ومِن جميل ما يُذكر في فوائد العقوبات: أنَّ أحد ولاة الأمر رأى أحدَ الرعيَّة وقد قُطعَت يده، فقال له: لو أنَّك لم تسرق ما قطعنا يدك.

فأجابه المعاقَب: والله يا أمير، لو لَم تقطعوا يدي، لما تركتُ السرقة!

10- واحد من أهمِّ صفات العقلانيَّة في العلاقة هو عدم ظلم الآخرين، فصاحِب العقل الرَّاجح هو من يفرُّ من ظلم الآخرين فِرارَه من الذِّئب،والظلم هو (وضع الشيء في غير محله)، فالموضوع في غاية الأهميَّة وغاية الحساسية والدِّقة، فالله جل جلاله خلق الإنسانَ ليكون كريمًا وعزيزًا، فأي عمل من قِبَل الآخرين يؤدِّي إلى ضد ذلك سيكون ظلمًا، فوضع المرء في مكانٍ غير مكانه في العمل ظلمٌ، ومعاملة الإنسان الحرِّ على أنَّه عبد ظلمٌ، وعدم منح الفرد استحقاقه في الأجر ظلم، وهكذا لو حاولنا إحصاءَ وتسمية الأمور التي يقع فيها ظلم، فإنَّنا لن ننتهي.

من هنا جاءت خطورةُ الظلم للآخرين، ولعلَّ بسبب خطورته وشناعته ونتائجه الوخيمة غلَّظ الله تعالى العقوبات على الظَّالمين، بل حتى إنَّ الله جل جلاله وهو المتفرِّد والمتصرِّف بخلقه كما يَشاء، وهو تعالى الذي لا يُسأل عمَّا يَفعل، فقد حرَّم الظلمَ على نَفسه جلَّ جلاله، فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالَموا))[24].

ورغم ذلك التحذير وذلك الوعيد الشَّديد والنَّهي البليغ الواضح، ترى الناسَ يتبادلون الظلمَ وكأنَّهم يتبادلون التهاني، إنَّهم يمارسون الظلمَ كل يوم، بل كل ساعَة، ويباشرون فعالياته بشعور وبغير شعور، فالنَّاس لا يحسنون وضعَ بعضهم لبعض في المكان المناسب، وظلم الناس لا يَطول بعضهم البعض فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى الحيوانات والجمادات والبيئة وكل شيء حولهم.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظُّلم ظلمات يوم القيامة))[25]، يقول أبو العتاهية:
أمَا والله إنَّ الظُّلم لومُ
وما زال المُسيءُ هو الظَّلومُ

إلى ديَّان يوم الدين نمضي
وعند الله تَجتمعُ الخُصومُ


ورفض الظُّلم تحت ظلِّ الشريعة الإسلاميَّة يَذهب إلى آفاق بعيدة ويتجاوز كلَّ الحدود، حتى إنَّه لا يُبقي أيَّ أثر للطبقيَّة؛ فالكلُّ سواسية كأسنان المشط أمام القانون، ولا مجال لأن يَظلم الكبيرُ الصغيرَ، والغني الفقيرَ، والقويُّ الضعيفَ، فعن عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، عن أبيه رضي الله عنه قال: لما قَدِم جعفر من الحبشة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ما أعجب شيء رأيتَ؟))، قال: رأيتُ امرأة على رأسها مكتل فيه طعام، فمرَّ فارس يركض فأذراه، فقعدَت تجمع طعامَها، ثمَّ التفتَت إليه، فقالت: ويل لك يوم يضع الملِكُ كرسيَّه فيأخذ للمظلوم من الظالم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولها: ((لا قُدِّسَتْ - أو كيف تُقدَّس - أمَّة لا يأخذ ضعيفها من شديدها غير متعتع[26]؟))[27].

ويحذِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الظلم بشتَّى الأساليب؛ ومن ذلك ما وصَّى به معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله لليمن، فقد كان في خاتمة ما أوصاه، قال له صلى الله عليه وسلم: ((واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنَّه ليس بينه وبين الله حجاب))[28].

فالأمَّة التي ينتصف فقيرُها من غنيِّها، وصغيرها من كبيرها عند ظُلمه، ومن غير تردُّد ولا خوف من النتائج الوخيمة من جرَّاء فَعلَتِه - أمَّة منصورة ومتقدمة على غيرها من الأمم، وأمَّة مقدَّسة حسب الوصف النبوي لها، وهذه من السنَن الكونيَّة، وكما قال أحد الحكماء: "إنَّ الله جلَّ جلاله ليَنصر الأمَّة وإن كانت غير مسلِمة بعدلها، وإنَّ الله جل جلاله ليذلُّ الأمَّةَ وإن كانت مسلِمة بظلمها"، وقد أثبتَت التجارِب العمليَّة صحَّةَ ودقَّة هذا الفهم الواعي للأمور.

ولكنَّنا اليوم نجد الفهمَ المعاكس يأخذ حيِّزَه في التطبيق، وينطبق علينا ما قال الشاعر:
يمشي الفقيرُ وكلُّ شيءٍ ضدُّهُ
والناسُ تُغلِقُ دونَهُ أبوابَها

وتراهُ مبغوضًا وليسَ بمُذنبٍ
ويرى العداوةَ لا يرى أسبابَها

حتى الكلاب إذا رأتْ ذا ثروةٍ
خضعَتْ إليه وحرَّكتْ أذنابَها

وإذا رأتْ يومًا فَقيرًا عابرًا
نبحَتْ عليهِ وكشَّرَتْ أنيابَها


هذا واقعُ الحال اليوم، ليس للفقير مكان في المجتمع، حتى أصحاب القضايا والذين يتكلَّمون عن المبادئ والقِيَم والأخلاق، وأنَّهم يعملون من أجل نَشر الفضيلة - يَقعون في هذا المطبِّ والمنزلق الخطير؛ فإنَّ الفقير مدفوع بالأبواب وإن كان صاحبَ فِكر سليم وإمكانات عقليَّة محترمة فإنَّه يُستغنى عنها.

لقد حرص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على إشاعة العدل بين الناس، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المُقسطين عند الله على منابر من نُورٍ، عن يمين الرَّحمن عزَّ وجلَّ، وكلتا يديه يمينٌ؛ الذين يعدلُون في حُكمهم وأهليهم وما وَلُوا))[29].

نحن نخسر عاملاً مهمًّا من عوامل النهوض والتقدُّم والنصر؛ بتجاهلنا لفقراء القوم وضِعافهم، في حين أنَّ نصرة الله جلَّ جلاله ورزقه وهيبة الأمَّة تُستجلَب بالإحسان لضعفاء القوم وفقرائهم، مِصداقًا لقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ((هل تُنصرون وتُرزقون إلاَّ بضعفائكم؟))[30].


[1] صحيح البخاري - كتاب العلم - باب من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة.

[2] صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - باب فضل الرفق.

[3] صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب الرفق في الأمر كله.

[4] زهير بن عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي أبو بكر ويقال: أبو محمد المكي الأحول، من فقهاء التابعين، كان قاضيًا لعبدالله بن الزبير رضي الله عنه ومؤذِّنًا له، قال عنه ابن حجر العسقلاني رحمه الله في التقريب: ثقة فقيه.

[5] صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

[6] صحيح ابن حبان - كتاب الرقائق - باب الأدعية - ذكر ما يستحب للمرء أن يَسأل الله جلَّ وعلا الهداية لأرشد أموره.

[7] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، ج 3، ص 542 - 543.

[8] صحيح البخاري - كتاب الجمعة - أبواب تقصير الصلاة - باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل.

[9] الطبقات الكبرى لابن سعد - ذكر صفة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[10] علاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي أبو نصر البصري، تابعي، قال عنه الذهبي في الكاشف: "كان عابدًا قانتًا بكَّاءً"، وقال عنه ابن حبان في كتاب الثقات: "كان من عبَّاد أهل البصرة وقرَّائهم".

[11] حلية الأولياء - العلاء بن زياد، والزهد والرقائق؛ لابن المبارك - باب فضل ذكر الله جل جلاله.

[12] القذاة: الوسخ القليل والصغير الذي يكون في العين.

[13] صحيح ابن حبان - كتاب الحظر والإباحة - باب الغيبة - ذكر الإخبار عما يجب على المرء من تفقد عيوب نفسه.

[14] ميمون بن مهران الجزري أبو أيوب، قال عنه الإمام الذهبي في الكاشف: "عالم الرقَّة، ثقة، عابد، كبير القدر"، وقال عنه عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: إذا ذهب هذا وضَرْبه، صار الناس من بعده رجاجًا.

[15] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب الغدوة والروحة في سبيل الله.

[16] صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب سرية عبدالله بن حذافة السهمي.

[17] البحر الزخار مسند البزار - ما روى محمد بن أبي بكر.

[18] مسند أحمد بن حنبل - مسند الأنصار - حديث أبي هند الداري.

[19] السنن الكبرى للبيهقي - كتاب السرقة - جماع أبواب صفة السوط - باب ما جاء في النهي عن التجسس.

[20] صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب الكبر.

[21] نفس المصدر السابق.

[22] سنن ابن ماجه - كتاب الدعاء - باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[23] صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب الضرب بالجريد والنعال.

[24] صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - باب تحريم الظلم.

[25] صحيح البخاري - كتاب المظالم والغصب - باب الظلم ظلمات يوم القيامة.

[26] غير متعتع: دون أن يصيبه أذًى أو ضرر.

[27] المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب الرقائق - باب الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[28] صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب بعث أبي موسى.

[29] صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب فضيلة الإمام العادل.

[30] صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.07%)]